أحمد سيف حاشد
341 subscribers
2.77K photos
6 videos
5 files
2.86K links
عضو برلمان
Download Telegram
بعض من تفاصيل حياتي
المعلم والتعليم
(12)
سالمين وفتاح وعراك دامي..
في سنة ثاني إعدادي تم إخراجنا من المدرسة لاستقبال الرئيس سالمين، وأمين عام التنظيم السياسي عبد الفتاح اسماعيل الذي كان لا يقل أهمية عنه.. خرجنا من المدرسة لاستقبالهما ونحن سعداء، ومغمورين بالفرح، وملتاعين بالاشتياق، في يوم بدا لنا استثنائيا، وللمركز الذي أستنفر جنوده وضباطه ومسؤوليه، وجمع غفير من المواطنين، وذلك لاستقبال كبار رجال الدولة وكبار الضيوف.. خرجنا نحن الطلاب بصفوف منتظمة، ثم صرنا منتظمين في صفين على جانبي الطريق الممتد من بوابة المركز وحتى مسافة تزيد عن الكيلو متر باتجاه طريق قدومهما..

كان مكاني في الصف بالجهة المحاذية للمستشفى الذي كان لا يزال حديث العهد، والمقدم هدية من دولة الكويت، وتم تسميته باسم مستشفئ الطيار علي مقبل علي الجليدي من منطقة معبق في الشمال، درس وتخرج واستشهد في الجنوب، لم أعد أتذكر اسمه، ولكني أتذكر أن لقبه "الجليدي" وكان أخويه زميلين لي في نفس المدرسة..

كنت أتحين بصبر وأتشوق بلهفة لأرى سالمين وعبد الفتاح إسماعيل.. كنت أحدّث نفسي: إن هكذا حدث أو فرصة لن تتكرر في حياتي مرتين.. غير أن ما حدث، كان هو الأكثر سوءا.. لقد تم افساد هذه الفرصة، ولم تتأت أخرى غيرها..

كنت أريد أن أشطح وأنتمي وأفاخر أمام أقراني في القرية ـ التي لا تعرف الرؤساء ولا الزيارات ـ انني شاهدت وجها لوجه الرئيس المحبوب سالمين، والمنظّر الفذ عبد الفتاح إسماعيل.. كان وقع سماع الاسمان على المسامع داهش وجاذب، فما بال وأنا أروي أنهم مروا من أمامي على بعد مترين، وهما يلوحان لنا بالتحية والسلام..

وأنا انتظر قدومهما، بديت وكأن التاريخ سيكرمني بمشاهدة رجلين هما من صانعيه.. أردت أن أقول لأقراني في قريتي: لقد حملقت وجالت عيوني بمن تتوق له العيون.. لقد رأيت ما لم ترون.. لقد طلت من المعرفة ما هو عصيا عن الكثيرين.. لقد أردت أن أرد لأقراني الصاع صاعين متذكرا زمن الطفولة، وهم يتفاخرون بزيارة موالد الخضر واليأس وسعيد ابن عبدان، وكأنهم يتحدثون عن غزو الفضاء، فيما أنا حاسرا وبائس أمضغ جراحي وحسرتي بصمت ثقيل وحزن كثيف..

كنت أتحين مرور الرئيس والأمين العام من مسافة قريبة أمامي، وأتمنى مرورهما ببطيء شديد؛ لأغرف النظر منهما قدر ما أستطيع، وأكتنز في الذاكرة وجوههما وهيئتهما وكثير من التفاصيل، أو على الأقل ما قدرت على التقاطه وحفظه في الذاكرة.. إنها المرة الأولى في حياتي التي سأرى فيها مباشرة الرئيس والأمين العام، ولكن طال الانتظار الثقيل تحت هجير الشمس الحارقة، وتأخر وصولهما عن الوقت والموعد المحدد..

كان في الاصطفاف المقابل في الجهة الأخرى مجموعة من أبناء منطقة طور الباحة، سبق أن تعاركت معهم أكثر من مرة، ولطالما استفزوني مرات عديدة.. كان بيني وبينهم بُغض صبيان وتحدّي معاند، وكانوا أشبه بعصابة متربصة.. كنت عندما أراهم أشعر بغربتي، وأنني لست من أهل تلك الديار، وربما هم شعروا أيضا أنني دخيلا وغريبا أثير استفزازهم..

ظلوا يرمقونني ويسخرون مني ويستهزئون بي ويضحكون علي ويتحدونني.. وأنا في المقابل استنهضت التحدي، وقلت لهم اختاروا واحداً منكم لنتعارك أنا وهو رأس برأس، فنزل أحدهم وكان ممتلأ البدن، وبصحة ينبض بريقها كالشمس.. كان معتبي الجسد، كثيف وأشقر الشعر والبشرة، يشبه أولاد الإنجليز، فيما كنت أنا نحيفا ومنهكا، وضعيف البنية، وأعاني من سوءٍ في التغذية.. قلت لنفسي وأنا أرى الاختلال الكبير في المعادلة: ربما السكين تصنع تعادل في التفوق بيننا، أو ترجح الأمر لصالحي..

قلت لهم ننزل نتبارز خلف تلة الرمل القريبة على بعد 200 متر، حتى نأمن من أي تدخل يساعدني أو يساعده، وكان رفقائه واثقين أن الانتصار صار بالنسبة لهم حليف وأكيد، ومن دون جدل أو احتمال مغاير، فلا مقارنة بيننا، فإن كان لا بد من المقارنة، فهي لصالح خصمي كاملة..

صعد رفقاؤه رأس تلة الرمل أو بالأحرى اعتلىوا نتوء الرمل القريب، ليرون مشهد العراك، وكنت أخفي سكينا صغيرة ورفيعة ـ تستخدم لتقطيع الروتي ـ اشتريتها قبل بضعة أيام، تحسبا دفاعياً لموقف طارئ أو محتمل، ولاسيما أنهم كانوا يتربصون بي كعصابة في الأيام القليلة التي خلت..

وصلنا مفردان المكان الذي اخترناه للمبارزة، ربما كنت جبانا وماكرا، وربما أردت دحر هزيمة مريرة باتت بحكم الأكيد.. تملكه الارباك وأنا استل السكين بمباغته وسرعة، وأباشره بطعنة في البطن؛ فهرب مذعورا وصارخا "سكين.. سكين".. فيما كنت ألاحقه، وأحاول طعنه في أكثر من مكان، وكان قد أصاب العوج نصلها الرفيع إثر طعنة وجهتها إلى رأسه القوي وهو هارب.. كنت أشعر أن أي تراخي أو تمهُّل عن ملاحقته قد يقلب معادلة العراك بالكامل لصالحة، وبالتالي سيكون انتقامه أكبر وأفدح، فلم اعطه فرصة كتلك، فيما أصاب أصحابه تشتت في الذهن وإرباك في ردة الفعل..

هرع مدرسان لنجدته، وانتزعا مني السكين، ومسكا بي بشدة وقوة كما تمسك الشرطة المجرمين، وعندما رمقت من اعت
ركت معه، وكان يصرخ متوعدا بقتلي، تفاجأتُ برؤية كمية الدم وغزارته على قميصه الأبيض.. لم أكن أعلم أن كل هذا الدم سينبجس من البطن، وبتلك السرعة والغزارة..

لقد كان الدم ينزف على نحو لم أكن متوقعة.. بدأت أشعر بفداحة ما فعلت، وشعرت بالندم والحسرة، بل والحزن عليه.. شعرت بالقلق من أن يصل الأمر حد الفاجعة.. شعرت أنني كنت متهورا وأحمقا وإن المقامرة والتحدي الذي في غير محله ممكن أن تحوِّل الإنسان من سوي إلى مجرم وقاتل.. شعرت أنه كان بإمكاني الاكتفاء بإشهار السكين في وجهه للحيلولة دون أن يحدث ما حدث حتى وإن بديت أكثر جبنا..

نقلوه إلى المستشفى، ونقلوني إلى السجن وكان الأسف كبير.. أسفت لفعلي وأسفت للمصاب، وأسفت أكثر لفوات فرصة أن أرى الرئيس سالمين والأمين عبدالفتاح اسماعيل، اللذان وصلا وقد وصلت إلى السجن.. فاتت الفرصة التي تحينتها ولم تعد مرة أخرى وإلى الأبد..

***
يتبع .. في السجن..
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=510364599918471&id=100028348056925&sfnsn=mo
احمد سيف حاشد:
بعض من تفاصيل حياتي
المعلم والتعليم
(12)
سالمين وفتاح وعراك دامي..
في سنة ثاني إعدادي تم إخراجنا من المدرسة لاستقبال الرئيس سالمين، وأمين عام التنظيم السياسي عبد الفتاح اسماعيل الذي كان لا يقل أهمية عنه.. خرجنا من المدرسة لاستقبالهما ونحن سعداء، ومغمورين بالفرح، وملتاعين بالاشتياق، في يوم بدا لنا استثنائيا، وللمركز الذي أستنفر جنوده وضباطه ومسؤوليه، وجمع غفير من المواطنين، وذلك لاستقبال كبار رجال الدولة وكبار الضيوف.. خرجنا نحن الطلاب بصفوف منتظمة، ثم صرنا منتظمين في صفين على جانبي الطريق الممتد من بوابة المركز وحتى مسافة تزيد عن الكيلو متر باتجاه طريق قدومهما..

كان مكاني في الصف بالجهة المحاذية للمستشفى الذي كان لا يزال حديث العهد، والمقدم هدية من دولة الكويت، وتم تسميته باسم مستشفئ الطيار علي مقبل علي الجليدي من منطقة معبق في الشمال، درس وتخرج واستشهد في الجنوب، لم أعد أتذكر اسمه، ولكني أتذكر أن لقبه "الجليدي" وكان أخويه زميلين لي في نفس المدرسة..

كنت أتحين بصبر وأتشوق بلهفة لأرى سالمين وعبد الفتاح إسماعيل.. كنت أحدّث نفسي: إن هكذا حدث أو فرصة لن تتكرر في حياتي مرتين.. غير أن ما حدث، كان هو الأكثر سوءا.. لقد تم افساد هذه الفرصة، ولم تتأت أخرى غيرها..

كنت أريد أن أشطح وأنتمي وأفاخر أمام أقراني في القرية ـ التي لا تعرف الرؤساء ولا الزيارات ـ انني شاهدت وجها لوجه الرئيس المحبوب سالمين، والمنظّر الفذ عبد الفتاح إسماعيل.. كان وقع سماع الاسمان على المسامع داهش وجاذب، فما بال وأنا أروي أنهم مروا من أمامي على بعد مترين، وهما يلوحان لنا بالتحية والسلام..

وأنا انتظر قدومهما، بديت وكأن التاريخ سيكرمني بمشاهدة رجلين هما من صانعيه.. أردت أن أقول لأقراني في قريتي: لقد حملقت وجالت عيوني بمن تتوق له العيون.. لقد رأيت ما لم ترون.. لقد طلت من المعرفة ما هو عصيا عن الكثيرين.. لقد أردت أن أرد لأقراني الصاع صاعين متذكرا زمن الطفولة، وهم يتفاخرون بزيارة موالد الخضر واليأس وسعيد ابن عبدان، وكأنهم يتحدثون عن غزو الفضاء، فيما أنا حاسرا وبائس أمضغ جراحي وحسرتي بصمت ثقيل وحزن كثيف..

كنت أتحين مرور الرئيس والأمين العام من مسافة قريبة أمامي، وأتمنى مرورهما ببطيء شديد؛ لأغرف النظر منهما قدر ما أستطيع، وأكتنز في الذاكرة وجوههما وهيئتهما وكثير من التفاصيل، أو على الأقل ما قدرت على التقاطه وحفظه في الذاكرة.. إنها المرة الأولى في حياتي التي سأرى فيها مباشرة الرئيس والأمين العام، ولكن طال الانتظار الثقيل تحت هجير الشمس الحارقة، وتأخر وصولهما عن الوقت والموعد المحدد..

كان في الاصطفاف المقابل في الجهة الأخرى مجموعة من أبناء منطقة طور الباحة، سبق أن تعاركت معهم أكثر من مرة، ولطالما استفزوني مرات عديدة.. كان بيني وبينهم بُغض صبيان وتحدّي معاند، وكانوا أشبه بعصابة متربصة.. كنت عندما أراهم أشعر بغربتي، وأنني لست من أهل تلك الديار، وربما هم شعروا أيضا أنني دخيلا وغريبا أثير استفزازهم..

ظلوا يرمقونني ويسخرون مني ويستهزئون بي ويضحكون علي ويتحدونني.. وأنا في المقابل استنهضت التحدي، وقلت لهم اختاروا واحداً منكم لنتعارك أنا وهو رأس برأس، فنزل أحدهم اظن ان اسمه عبد القوي وكان ممتلأ البدن، وبصحة ينبض بريقها كالشمس.. كان معتبي الجسد، كثيف وأشقر الشعر والبشرة، يشبه أولاد الإنجليز، فيما كنت أنا نحيفا ومنهكا، وضعيف البنية، وأعاني من سوءٍ في التغذية.. قلت لنفسي وأنا أرى الاختلال الكبير في المعادلة: ربما السكين تصنع تعادل في التفوق بيننا، أو ترجح الأمر لصالحي..

قلت لهم ننزل نتبارز خلف تلة الرمل القريبة على بعد 200 متر، حتى نأمن من أي تدخل يساعدني أو يساعده، وكان رفقائه واثقين أن الانتصار صار بالنسبة لهم حليف وأكيد، ومن دون جدل أو احتمال مغاير، فلا مقارنة بيننا، فإن كان لا بد من المقارنة، فهي لصالح خصمي كاملة..

صعد رفقاؤه رأس تلة الرمل أو بالأحرى اعتلىوا نتوء الرمل القريب، ليرون مشهد العراك، وكنت أخفي سكينا صغيرة ورفيعة ـ تستخدم لتقطيع الروتي ـ اشتريتها قبل بضعة أيام، تحسبا دفاعياً لموقف طارئ أو محتمل، ولاسيما أنهم كانوا يتربصون بي كعصابة في الأيام القليلة التي خلت..

وصلنا مفردان المكان الذي اخترناه للمبارزة، ربما كنت جبانا وماكرا، وربما أردت دحر هزيمة مريرة باتت بحكم الأكيد.. تملكه الارباك وأنا استل السكين بمباغته وسرعة، وأباشره بطعنة في البطن؛ فهرب مذعورا وصارخا "سكين.. سكين".. فيما كنت ألاحقه، وأحاول طعنه في أكثر من مكان، وكان قد أصاب العوج نصلها الرفيع إثر طعنة وجهتها إلى رأسه القوي وهو هارب.. كنت أشعر أن أي تراخي أو تمهُّل عن ملاحقته قد يقلب معادلة العراك بالكامل لصالحة، وبالتالي سيكون انتقامه أكبر وأفدح، فلم اعطه فرصة كتلك، فيما أصاب أصحابه تشتت في الذهن وإرباك في ردة الفعل..

هرع مدرسان اظن واحدا منهما اسمه سلطان والاخر اسمه خليل لنجدته، وا
نتزعا مني السكين، ومسكا بي بشدة وقوة كما تمسك الشرطة المجرمين، وعندما رمقت من اعتركت معه، وكان يصرخ متوعدا بقتلي، تفاجأتُ برؤية كمية الدم وغزارته على قميصه الأبيض.. لم أكن أعلم أن كل هذا الدم سينبجس من البطن، وبتلك السرعة والغزارة..

لقد كان الدم ينزف على نحو لم أكن متوقعة.. بدأت أشعر بفداحة ما فعلت، وشعرت بالندم والحسرة، بل والحزن عليه.. شعرت بالقلق من أن يصل الأمر حد الفاجعة.. شعرت أنني كنت متهورا وأحمقا وإن المقامرة والتحدي الذي في غير محله ممكن أن تحوِّل الإنسان من سوي إلى مجرم وقاتل.. شعرت أنه كان بإمكاني الاكتفاء بإشهار السكين في وجهه للحيلولة دون أن يحدث ما حدث حتى وإن بديت أكثر جبنا..

نقلوه إلى المستشفى، ونقلوني إلى السجن وكان الأسف كبير.. أسفت لفعلي وأسفت للمصاب، وأسفت أكثر لفوات فرصة أن أرى الرئيس سالمين والأمين عبدالفتاح اسماعيل، اللذان وصلا وقد وصلت إلى السجن.. فاتت الفرصة التي تحينتها ولم تعد مرة أخرى وإلى الأبد..

***
يتبع .. في السجن..
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=510364599918471&id=100028348056925&sfnsn=mo
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=511040159850915&id=100028348056925&sfnsn=mo
بعض من تفاصيل حياتي
المعلم والتعليم
(13)
في السجن..
فيما كنت قد صرت في قبضة العسكر، هرع أحد أقرباء المصاب، أظنه ابن عمه، اسمه طلال على الأرجح.. فارع الطول ومتناسق البنية، وبشرته تميل خفيفا إلى السُمرة.. أول ما شاهدني صدمته هيئتي.. بديت دون توقعه أو دون ما كان يتخيله.. بديت أمامه قزما ضئيلا لا احمل ما يستحق المقارنة مع ابن عمه المصاب.. صرخ في وجه من كان موجودا بغضب ناقم: ”لا يمكن أن نقبل بعشرة من هذا”؟! ربما كان محقا إن نظرنا للأمر بمقياسه.. بالفعل كان شكلي قزما، منهك، شحوب، شارد، عابس، متعوس، فيما كان قريبه المصاب مربربا، تبدو من ملامحه فرط النعمة، ويبدو كأنه أجنبي.. شعره ووجنتيه ولون عينيه وجسمه الممتلئ باللحم والشحم..

صرت أرقب بعض ما يحدث.. اعداد أمر الحبس.. حرص العسكر على أن لا أهرب.. تفرس العسكر في قراءة وجهي العبوس الملبد بالصمت.. لمحت وجود تساؤلات غامضة في وجوه بعض الحاضرين.. أحسست بوجود كلام يريد ممعني النظر أن يقولوه، ولكنهم داروه لأسباب ربما تخصهم..

أرقب التوجيه المكتوب بأمر الحبس.. تسليم أمر الحبس لمسؤول الحجز.. اصطحابي إلى غرفة الحجز.. فتح القفل والسلاسل.. فتح باب غرفة الحجز.. توجيه الأمر لي بالدخول.. اغلاق الباب بالسلاسل والقفل ذو الحجم الكبير..

كانت المرة الأولى التي أحتبس فيها.. تجربة مريرة أدخل فيها لأول مرة.. إحساس كثيف بقيد الحرية بحيطان وجدار وإغلاق بالحديد.. كانت غرفة الحجز بطول خمسة أمتار وعرض مترين تقريبا، ونافذة صغيرة مشبكة بالحديد.. أحسست أنني أدخل مرحلة أكثر قتامة في حياتي، ويجب أن أتهيأ وأستعد للأسوأ.. شعرت أن مجهولا سيئا ينتظرني لا أعرف بالضبط نهايته وتفاصيله..

كانت غرفة الحجز فارغة لا يوجد فيها محابيس غيري.. ربما كانت مناسبة الزيارة والضيوف تقتضي ذلك.. وربما تم نقل بعض السجناء إلى مبنى المركز الواقع على الطور، وربما كان هناك سجن آخر في مبنى المركز..

تمنيت أن يزور سالمين وعبد الفتاح غرفة الحجز.. لعلي أراهم عن كثب.. لعلهم يتفقدوا أروقة المكان أو حتى زيارة الضباط والجنود المرابطين فيه، ولكن للأسف لم يحدث هذا.. وبدلا مما كنت أروم مشاهدته من طلعات بهية، وأيادي وأكف تلوح لنا بالتحية والسلام، صرت أتفرس السقف الكئيب والحيطان الخرساء.. لا ونيس لي غير خرابيش وذكريات سجناء على تلك الحيطان.. وددت أن يكون لدي قلم سحري، أو قطعة فحم، أو حتى مسمار أخربش فيه، وأكتب ذكرياتي وتاريخ حبسي على حائط الجدار، لأقول للنزلاء الجدد أو القادمين نحن أيضا مررنا من هنا..

للمصادفة وسوء الحظ أن أمي كانت مريضة وترقد في نفس المستشفى الذي أسعف لها المصاب، بل أن أخو المصاب كان هو مدير المستشفى.. بدأت أشعر بالقلق حيال أمي.. كيف سيتم معاملتها بعد فعلتي التي نالت دما من أخ مدير المستشفى؟!! ربما يطردونها، ربما يلحقون بها ضرر، أو يناولوها السم باعتباره دواء أو عقار، ويتم فيه الانتقام لمصابهم من أمي النزيلة في المستشفى للعلاج.. زاد قلقي وتوجسي وخيالاتي بشأن أمي التي ليس لها غيري هناك..

بعد ساعة أو أكثر من انتهاء الحفل الخطابي، استدعاني ضابط البحث الجنائي.. أحضروني إليه.. شاهدت السكين على الطاولة محرزة باعتبارها أداة جريمة.. أمر ضابط البحث الكاتب أن يفتح المحضر، وتلى عليه مقدمة أشعرتني أن الأمر جسيم، وأنني أسير إلى طريق المحكمة وتوقيع العقاب..

وبعد السؤال والجواب والاعتراف ومواجهتي بالسكين التي اعتبروها أداة الجريمة، وبعد اثبات الوقائع والتفاصيل التي رويتها، وهي لا تختلف عما حدث في الواقع، أمر الضابط بإعادتي إلى الحجز .. أستغرق التحقيق في حدود الساعة، وإثبات أقوالي في المحضر، فيما كانت في الحقيقة جريمتي ثابتة ومشهودة..

بعد إعادتي للحجز أطل عليّ من الباب أحد رجال القوات الشعبية اسمه عبد الوهاب من منطقة "الغول" وترجع أصوله إلى "القبيطة" الذي جاء منها هو وأخوه عبد الحميد، أو ربما جاء بهما ولداهما من زمن خلى، وصارا من السكان المقيمين الدائمين في منطقة "الغول" الجنوبية..

كانت طلته كملاك يقدم لي المساعدة دون طلب.. كسحابة مطر وغيث لمستغيث.. رحمة قادمة من قدر يبالي ولا ينسى من يحب.. كيعقوب المحب لابنه يوسف.. كإبراهيم والد إسماعيل، ولكن دون سكين ولا فدية ولا أضحية.. بل أعطاني فراش وبطانية أجتهد بتوفيرها..

كان عبدالوهاب يعمل في نفس المكان الذي يفصله عن الحجز أمتار قليلة.. أطل بابتسامته التي خففت عن كاهلي ثقلا لا يقوى على حمله من هم حديثي سن.. ابتسامته منحتني الطمأنينة والسكينة التي كنت في أشد الحاجة إليها.. حديثه العذب جعلني أشعر أنني أعرفه من زمن طويل يزيد عن عمري القصير..

بعد ساعة شعرت بالإرهاق.. أحسست بالنوم يسبل ويرخي جفوني ويذبل عيوني المرهقة.. استسلمت له وغطيت في سبات عميق.. استيقظت بعد ساعات فجأة!! نهضت وكأني مجنونا، أو كأن عفريتا ف
وق رأسي.. استغرقتني الدهشة والذهول وأنا أسأل: أين أنا؟! أين أنا؟! وبعد برهة جمعت أشتات وعيي المتطاير، واستعدت صورة الواقع، ووعيت أنني محبوسا، وأنني ارتكبت جريمة، وأن هناك مجني عليه مصاب، ربما يتهدده الموت..

وبعد صحو ونوم بدأت أتكيف مع ما أعيشه من حال.. عدت إلى النوم ثم نهضت بعد سويعات، وقد صرت مستوعبا وضعي وحالي الجديد، وبديت مستعدا للتكيف، وقد تلاشى القلق الذي كان يعتريني في البداية..

أنطلق سعيد عبد الولي من طور الباحة إلى القرية.. أبلغ أخي عمّا حدث.. حضر أخي من القرية إلى مركز طور الباحة في اليوم التالي، ومن حسن حظي أن الطعنة لم تكن غائرة، وكان أخي محط احترام وتقدير المسؤولين في مركز المديرية، وأنني ما فتئت حدثا، ولهذه الاعتبارات تم اطلاق سراحي بضمانته، اللافت ان اخي لم يوبخن على فعلتي كما كنت اتوقع.. لا ادري الى اليوم لماذا لم يفعل!! مع ذلك تم استدعائي وتوقيفي من قبل مسئول البحث أكثر من مرة، وفي إحداها تم توقيفي أنا والمصاب معا بعد أن شفي من الاصابة وتم حل القضية وإغلاق ملفها..

أما أمي فلم يصبها مكروه، ولكن أصابها الهلع، بعد أن علمت من بعض رفقائي بما حدث، وكان مدير المستشفى أخ المصاب دكتورا يقدر المسؤولية، ويهتم بمرضاه، ولا يسئ ولا ينتقم..

إن ما حدث كان تهورا وطيشا وسوء تقدير في عمر كنت لا أزل فيه حدثا، وكان شعوري بالغربة والاستفزاز المتكرر والشعور بالتعالي من قبل ما بدا لي أنها عصابة دفعتني إلى فعل ندمت بسببه وتعلمت منه..

ندمت أيضا لعدم تمكني من رؤية الرئيس سالمين وعبد الفتاح اسماعيل.. وبعد فترة صدمني خبر الإطاحة بسالمين الذي كان محبوبا وذو شعبية لدى الكثيرين من البسطاء بما فيهم الرجل الطيب عبد الوهاب، فيما كانت شعبية عبد الفتاح اسماعيل في الغالب نخبوية، ومكانته كانت أكبر عند المثقفين..

وبقي السؤال: لماذا السياسة تفسد العلاقة بين من نحبهم؟! إنها الدنيا والسلطة وغياب العقل وقلة الحكمة وحضور التهور والطيش، وقلة التجربة.. وربما تعقدت الأسباب، وكان لدورات العنف نتائجها الكارثية التي أطاحت بالجميع، وأثقلت المجتمع بما لا يطاق، وشوهت ما كان يفترض أن يكون جميل ومثال..

***
يتبع..
احمد سيف حاشد:
مستواي في الإعدادية
(14)
في المرحلة الإعدادية لم أكن متفوقا في دراستي، ولكن كان المستوى العام جيدا خلال سنوات الإعدادية الثلاث.. لم أفشل في أي مادة، ولكن بعض المواد كنت أنجح فيها بعد طلوع الروح.. كنت أميل للمواد الاجتماعية وأتفوق فيها، يليها مواد العلوم.. نتائج مواد الرياضيات كانت إجمالا في مستوى لابأس به، ولكن صرت رديئا فيها، وربما فيما يخصني صرت استصعب العد بعد المليون.. ربما أبدد المال، ولكن فيما لا أندم عليه.. فاشل بامتياز في مراكمة الثروة أو اكتناز الوفر، وفاشل أكثر في الاحتفاظ بالقرش الأبيض إلى اليوم الأسود.. كريم فيما يخصني، وربما مقترا وشديد البخل فيما يخص الآخرين دولة أو أفراد.. لازلت أذكر حالما كنت قاضيا وأنا أقدر أتعاب المحاسب القانوني أحمد سعيد الدهي، وقد زجرني بجملة أو سؤال، وكان على حق حيث قال: هل تريدني أعمل سخرة؟! أدركت حينها قدر الخطل الذي وقعت فيه، وأنا أقدّر الاتعاب..

التربية الوطنية أو تاريخ الثورة اليمنية ربما كانت لدي أحب من مادة التربية الإسلامية التي كانت قليلة الوزن في تراتبية المواد الدراسية في المقرر العام.. كنت أرى حفظ آية أظنك وأشق من عمل عرصة في الجبل الصم.. لدي حفظ قصيدة أيسر بمرات من حفظ سورة في المقرر الدراسي.. لازلت مسكونا إلى اليوم بعقدة "الفاتحة" التي أشبعني أبي ضربا من أجل حفظها..

صارت قدرتي على الحفظ ضعيفة، وصارت حافظتي واهنة.. داهم النسيان كثير مما حفظته بمشقة، وأدعي أيضا أن نعمة النسيان قد أهالت بترابها على الأحقاد والضغائن التي تثقل الكاهل وتشوه الروح بالقبح والدمامة.. ربما أثور وأقاوم وأتصدى للظلم واستبسل في مواجهته، ولا أستطيع أتسامح مع ظلم لازال يعترش الحق ويستبد عليه، ولكني أيضا أحاول ألتمس العذر للمخالف، ولا أقطع شعرة معاوية، وأتسامح حتى مع من ظلمني إن زال الظلم، أو تمت الاطاحة به أو بصاحبه.. أنحاز لقيم الحب والحرية والتسامح، أو هكذا أنا أدعي، أو بالأحرى أحاول أن أكون..

اللغة العربية كانت تعجبني بعض موادها، وبعضها لازلت فيها رديئا وفاشلا إلى اليوم.. صرت حالة ميؤوسة في أن أكتب صفحة واحدة دون أخطاء.. الإملاء والقواعد باتت عقدة أخرى تفرض نفسها على حياتي المتعبة، وتعتور كثيرا ما أكتب، وتفسد عليّ ما يبدو ساحرا وجميلا، وأظنها سترافقني حتى الأجل..

مادة التاريخ في الإعدادية أكثر المواد التي كانت تعجبني، لأن مدرس المادة كان ملما بمادته، ولا يغادر الدرس إلا وقد نقله إلى أفهامنا كما يجب.. كان يشرح الدرس مليا ثم يملي علينا الدرس، ثم يعيده من خلال النقاش.. وبتكرار غير ممل، وكل ذلك كان يجري بتواضع جم ومن دون ملل أو تثاقل..

كانت من أصعب المواد الدراسية التي واجهتها في سياق دراستي الإعدادية هي مادة الإنجليزي؛ لأن مدارس الجنوب كانت تدرِّسها من الصف الخامس بينما مدارس الشمال كانت تدرسها من فصل أول إعدادي، وعندما درست الفصل السادس في الشمال وانتقلت إلى الفصل الأول إعدادي في الجنوب وجدت فجوة كبيرة واستصعاب شديد في فهمي لهذه المادة، حيث كانت قد فاتتني سنة من مادة الإنجليزي لم أدرسها في الشمال، فضلا عن الضعف السابق الذي رافقني في هذه المادة في الصف الخامس أثناء دراستي في شعب، وهكذا صارت هذه الفجوة تكبر وتتسع في حياتي التعليمية اللاحقة حتى الجامعة.. بل وزاد الحال سوءا بعدها..

بعض من تفاصيل حياتي..
المعلم والتعليم
يتبع.. فاجعة مقتل أخي
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=511617919793139&id=100028348056925&sfnsn=mo
(15)
امتحانات وفاجعة..
في سنة ثالث اعدادي تم تعيين (علي الخفيف) مديراً جديدا لمدرسة الشهيد نجيب في طور الباحة، وهو من أبناء الجنوب، وذلك بعد أن ذهب المدير السابق للعمل في الشمال.

كان المدير الجديد طيبا وودوداً، وحالما كنت أعيش اجواء الامتحانات الوزارية، ولازالت امتحانات ثلاث مقررات دراسية لم تتم، نقل إليّ المدير الخبر الصادم، ولكن بالتقسيط الذي يتجاوز عبور تلك الامتحانات، بكلفة نفسية أقل..

حاول المدير أن يبقي الأمل لديّ في أن أخي لا زال على قيد الحياة، متوخيا من ذلك أن أنهي الامتحان بسلام، أو بخسارة أقل، وبالتالي يهيئني أيضا وبنفس الوقت لتقبل الفاجعة لاحقا، والحيلولة دون أن يسبب لي ما حدث انهيار محتمل، أو تداعيات نفسية أكثر سوءا..

لقد كان مدير المدرسة محقا وهو يحاول أن يقلل من تأثير الحادث على نفسيتي، حتى أجتاز امتحاناتي، وفي نفس الوقت يهيئني لاحقا للتصالح مع الحقيقة الصاعقة..

كانت الحقيقة هي تعرض أخي لكمين، وتم اسعافه إلى طور الباحة، وتقرر إسعافه إلى عدن، ثم وافاه الأجل في الطريق قبل الوصول إليها، ووارى جثمانه في مقبرة العيدروس بكريتر.. ألم أقل أن نصف حزني في عدن يا عدن.. من هذا الذي يقتلعني منك، وأحزاني مثل فرحي مثل حبي ضارب في حناياك وأعماقك السحيقة يا عدن.

نجح مدير المدرسة في أن يجعلني أجتاز الامتحان بنجاح، ونجح أكثر في أن جعل ارتطامي بالحقيقة أقل وقعا وشدة من المعتاد أو مما هو مفترض..

اتممت امتحانات العام الأخير من المرحلة الإعدادية في طور الباحة، وتيقنت بعد حين وبالتدريج صحة خبر مقتل أخي، ومع ذلك ظل الوهم سلطان يساير ما ترغبه النفس وتهواه، وظل وهمي يرفض هذه الحقيقة الأكثر مرارة في حياتي..

كم كانت الفجيعة طامة؟! كيف لي أن أصدق الخبر؟!! من فرط التعلق لا نصدق الوقائع حتى وإن شهدناها بأم عيوننا.. إنه الحب والتعلق بمن نحب.

تجاوزت المرحلة الإعدادية، وأحرزت نتيجة السنة الثالثة فيها بنسبة نجاح 78% ورغم تواضع هذه النسبة إلا أنني كنت راضيا عنها، وبها انتقلت إلى دراسة المرحلة الثانوية في مدرسة "البروليتاريا" الواقعة في الطريق الممتدة من لحج إلى عدن..

***
بعض من تفاصل حياتي
المعلم والتعليم
يتبع..
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=512348686386729&id=100028348056925&sfnsn=mo
16
من مدرسة "البروليتاريا" إلى الكرامة المهدورة بالجوع

مدرسة "البروليتاريا" كانت مدرسة لأبناء البدو الرحل، تأسست في عهد الرئيس سالمين، والذي كان يهتم بتعليم أبناء البدو الرحل، ويتم جمع أشتاتهم من الصحاري والأقاصِ البعيدة؛ لكفالتهم، ونظمهم في سلك التعليم العام، ورعايتهم خلال دراستهم في مراحلها المختلفة..

وبعد عهد غير طويل تم تحويل هذه المدرسة إلى معسكر اسمه اللواء الخامس، وبعد أربعين عام من تلك الأيام، وخلال هذه الحرب البشعة والظالمة على شعبنا، تم تدمير كثير من المدارس الحكومية، وتم تحويل عدد غير قليل منها إلى ثكنات عسكرية وسجون ومعتقلات سرية، وبعضها يجري الهدم والتوسيع فيها لصالح مشاريع تجارية.. أما من حيث النوعية والجودة، فقد بات التعليم ضعيفا وهشا ومتخلفا ومشوها، وفوق ذلك يدفع أهالي الطلاب المال برسوم فاقت قدرات كثير من ولاة أمورهم، ويتسرب كثير من الطلاب من مدارسهم، ويجري تحشيد بعضهم من المدارس، وهم دون سن الرشد، كمحاطب حرب، وتتخلى سلطات الأمر الواقع على اختلاف مسمياتها عن وظيفة خدمة التعليم المجانية، لصالح التعليم الخاص الذي لا يخلوا هو الآخر من بؤس وهشاشة..

درست الثانوية في مدرسة "البروليتاريا".. وكان هذا المصطلح أو الاسم يستصعب على اللسان الذي لم يعتاد على استخدامه، ولكنه فيما بعد صرنا نحفظه كما نحفظ أسماءنا، وهو فضلا عن هذا مميزا ومحل اعتزاز، لاسيما أن معناه كان مرتبط بالطبقة العاملة التي كان ينظر إليها في الثقافة والتعاليم الماركسية، بأنها من أكثر طبقات المجتمع ثورية، والمناط بها قبل غيرها مهمة إسقاط النظام الرأسمالي..

عندما التحقت بهذه المدرسة في العام 1979 ربما شعرت ببعض من غربة، أو ربما حال يختلف عما أعتدت عليه، وتدريجيا تلاشى هذا الشعور.. كان أكثر طلابها أو يكاد يكون جميعهم من ريف محافظة لحج، من ردفان والضالع وطور الباحة ويافع.. فيما مدرسة النجمة الحمراء التي تبعد عن "البروليتاريا" كيلو مترات قليلة كانت تحتضن أعداد كبيرة من الطلاب من أبناء المناطق الوسطى، والمناطق الشمالية بوجه عام.. أما في مدرسة "البروليتاريا" فلا أذكر أحد من الشمال غيرى عدا محمد عبد الملك من مرابحة القبيطة، وعلي بادي من آنس ذمار، وربما آخرين خانتني الذاكرة في ذكر أسمائهم إن وجدوا، ولكنهم إجمالا يظلون أقل من القليل..

تقع مدرسة البروليتاريا في منطقة تتوسط الطريق الرابط بين محافظتي لحج وعدن، فيما كانت إداريا وتعليميا تابعة لمحافظة لحج، وكان ملحقا بهذه المدرسة قسم داخلي توفر فيه الدولة لجميع الطلاب السكن والغذاء مجاناً، ولكن كان الغذاء وقتها رديئا، ويفتقد للتحسين، بالإضافة إلى أنه كان قليلا، ولا يشبع بطوننا، وكان عدد الطلاب كثير، وبعضهم كان لا يلحق وجبته المقررة، بسبب نفاذ كمية الغذاء المطبوخة..

كان طابور الحصول على الوجبة طويلا، ويشهد أحيانا عراكا بين بعض الطلبة بسبب الزحام أو محاولة بعضهم التقدم بتجاوز مواقعهم في طوابير الغذاء.. كنت في بعض الأحيان عندما لا ألحق وجبة العشاء أضطر للذهاب لأشجار (الديمن) المحيطة بالمدرسة لأسُّد بها رمقي من الجوع وأحيانا كان معي صديقي الخلوق والمتصالح مع نفسه محمد عبد الملك حسين، الذي لدي معه ذكريات لا تنسى، ربما أتطرق لبعضها في موضع أخرى..

كنت أحيانا أذهب إلى مزرعة مجاورة تابعة للدولة، للمذاكرة تحت ظلال أشجارها الوارفة، وننتزع خلسة بعض حبات الليم لنستخدمها على الفاصوليا، وتعطينا شهية مضاعفة، فيما كان الأكل قليل، وكان القليل يصير بالليم لذيذ، نكمل الوجبة المقررة، ونجدها لا تسد نصف بطوننا..

في السنة الأولى جئنا في موسم زراعة أشجار الجلجل، وكنّا نجوع في الليل عندما تتطاول ساعاته الثقيلة علينا، وعلى بطوننا الخاوية التي يأكلها نهم الجوع المفترس.. كان ينفذ صبرنا ونحن لا نملك ما نخادع به بطوننا التي كانت تعرفنا تماما، وتحتج علينا، وتصرخ في وجوهنا بالجوع، فيما التصحر كان يحيط بنا، إلا من مزرعة تقع على مدى العشرين دقيقة، نقطعها سيرا على الأقدام..

كانت عروش السمسم المجفف تمتد لمساحات لم نعتاد نحن الصغار رؤية مثلها، وكنا أشبه بالعصافير التي تشبع حواصلها الصغيرة من جنيها الكثير، أو نقلل من فاقة تشتد علينا، وتسرق نومنا في الليل، وترهقنا طول النهار..

كانت المزرعة غير مشبكة، ولا محرزة، وكان الأمان أمان، وما نجنيه نحن لا يستحق الذكر، بل لا يزيد عما يرمق جوعنا، ويخفف من رعشة اليدين، وتمنح أرجلنا المخذولة بالجوع بعض الصمود والمقاومة؛ فهل كنّا يومها لصوص؟! أم كان بعض من تمرد مشروع ؟! أم هي ضرورة الجوع الملجئة؟!

بين السوية والإجرام شعرة دقيقة أحيانا تتماهى مع ما حولها، حتى نكاد لا نراها أو لا نميزها مع من حولها، وتلتبس علينا أحيانا كما التبست الجريمة مع غيرها كما في حال "راسكولينكوف" بطل رواية الجريمة والعقاب، للروائي الروسي العظيم ديستويفسكي، مع فارق أن دافعنا أشد، وجريمتنا أقل إن اعتبرناها جريمة.. ومع ذلك أسأل نفسي
بعد أربعين عام: هل كنّا أسويا أم مجرمين؟!

ما كنّا نفعله يشبه في الطريقة ما يفعله اللصوص، ولكن ما كنّا لنفعل إلا بدافع نراه بحجم الضرورة.. ثم ألم يقولوا إن "الجوع كافر".. ألم يقل بعضهم "لو كان الفقر رجلا لقتلته"، فماذا وقد اجتمعا علينا الاثنان..!

الجوع أشد وطأة من الكفر، ومن يعلم ربما الكفر في الواقع غير ما يرونه الكثير!! لازال في الكفر ما أسموه بعضهم بـ"الكفر الحلو" وكفر أسموه بـ "كفر النعمة" و"النعمة" لازال فيها نظر ومفاهيم، وهناك تعدد في الكفر دون الكفر البواح، والكفر البواح له رب يعاقب صاحبه..

لماذا قضايا الجوع والفقر رغم طغيانها واتساعها المستمر لا تحتل في وعي الذين يصنعونها نفس القدر والمستوى والاتساع من الاهتمام كما هي في الواقع؟! لماذا هذا الاختلال الفظيع الذي يصيب الوعي، فيتم التصدي لهذا الطغيان بمعونة قليلة ومهينة، يسترجعها أصحابها بأضعاف ثمنها؟!

لماذا نخب الدين والجماعات تزيف الوعي، وتحرف القضايا، وتزيف المفاهيم، وتنحرف عن مسار العدالة، وهي ترى بأم عيونها الفقر والجوع ومجاعات العالم وكل هذا الطغيان، والأكثر سوءا تريد أن تناهض وتكافح كل ذلك بما تسميه "صدقة" أو "زكاة" تطهرهم تطهيرا..

لماذا الجماعات الدينية والسياسية في اليمن تتخلى عن شعبها المنكوب بها وبالحرب؟! لماذا تتخلى عن مسؤولياتها الاخلاقية، والتزاماتها القانونية باعتبارها سلطات أمر واقع، تملي عليها واجب المسؤولية كل بحسب ما تحت سلطتها من سكان ومجتمع..

من أوجب الواجب دفع رواتب العاملين والموظفين في الجهاز الإداري للدولة، والمتقاعدين، والمستفيدين من الضمان الاجتماعي، وكل ممن تطولهم المجاعة والجوع في هذه الحرب البشعة والدميمة..

بيد أن الأكثر من كارثة أن تلك الجماعات كانت دينية أو سياسية أو كلاهما معا، باتت تتخلى عن وظائف الدولة إلا من وظيفة الجبايات، وفوق ذلك تمارس إذلال شعبها، وتهدر كل ما هو من صميم حقوقه..

وفوق هذا وذاك يتاجرون بالوطن والدم، ويعيثون في الأرض فسادا، ويتسولون العالم ومنظماته بكل مسمياتها بما فيها تلك التي يهاجمونها في شعاراتهم، ثم يحاولون التكسب والتربح والاستفادة من عطاياها.. والأمر أنهم ومن دون حياء نجدهم يتحدثون عن الكرامة والوطنية والاخلاق والقيم والشعب العظيم..

يتبع..
احتجاجات الجوع
بعض من تفاصيل حياتي
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=513127602975504&id=100028348056925&sfnsn=mo
👍1
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=513203909634540&id=100028348056925&sfnsn=mo
استثمار التربية والتعليم..
من أجل رواتب المعلمين..
ما أكذبكم..
الأولى مستفزة والثانية مستفزة أكثر..
احمد سيف حاشد:
(17)
أول عمل احتجاجي أشارك فيه.. احتجاج على الجوع

كثير ما يستفزني الفقر والجوع والظلم والفساد، والاستبداد بكل صنوفه حتى وإن لبس ثوب الأب أو المعلم أو القائد أو القديس أو الكاهن.. ويستفزني أكثر غرور السلطة وعنادها وخواء التعالي والاستكبار في وجه الحق، ولم اعتد الظلم لأهوّن منه، وأتصالح معه، مهما طالت سنينه، ولا أتسامح معه، وأنا المجبول على النسيان، حتى يتم كسره أو اسقاطه أو التحرر من ربقته..

روحي لا تهدأ ولا تستكين، وتظل دوما متحفزة للتململ والتمرد والثورة، مسكونا بعدم الرضى، حتى وإن لذت بالصمت، أو شعرت بخذلان، أو تعاميت مرغما عن الحق لبعض الوقت، أو حتى تواطأت لأسباب تخصني، فإنني أعيش صراع داخلي أقوى، وأكثر احتداما مع ضميري، وتأنيب الضمير، حتى أعود إلى الصواب والصحيح ما أمكن..

أشعر أحيانا بالتعب والضنك، ولكن ما أن أستريح قليلا أو استرجع الأنفاس حتى أعاود الكرّة مرتين وثلاث.. أعود إلى إعلان الرفض، وفعل التمرد، والمقاومة حتى تستقيم الأمور، أو تنتهي إلى الزوال، أو أظل أخوض معها صراعا كقدر.. وأحاول أن أوصل صوتي المضطهد إلى أقصى مدى ممكن، حتى وإن أكلته الدود، وأصطف مع المضطهدين في مقاومة من يصنع ذلك الاضطهاد والظلم الثقيل..

ربما أبدو قلقا على الدوام، وغير راضي على سير الأحوال، بل وربما ساخطا على هذا العالم الدامي، ونظامه المرتكز على الظلم والاستغلال، وثائرا في وجه الأقدار التي أشعر إنها غير عادلة.. كل ذلك أدركته اليوم مليا، وما كنت أدركه فيما خلا، وكانت البداية في أول احتجاج أشارك فيه..

في مدرسة "البروليتاريا" وبسبب الجوع، واحتجاجا على غياب التحسين في وجبات الغذاء، وانقطاع الكهرباء، أضرب عدد كبير من الطلاب عن الدراسة، وكنت واحدا منهم..

امتنعنا عن الدراسة، وخرجنا للرصيف نحتج على رداءة الغذاء والمطالبة بتحسينه.. قطعنا الطريق بين لحج وعدن بالحجارة ومنعنا عبور السيارات وهو عمل جريء في ذلك الوقت، وشديد الحساسية عند السياسيين؛ لأن أي عمل أو احتجاج من هذا القبيل، كان يصنّف باعتباره ثورة مضادة، ويذهب السياسيين إلى تفسير الاحتمالات والأسباب فوق ما نطيق ونحتمل، بل وفوق ما يطيقه ويحتمله الواقع، ولكن ربما وجود طلاب محتجين من الضالع وردفان والصبيحة درأ عنّا العواقب، وحد من المبالغة في تفسير احتمالات وأبعاد هذا الاحتجاج.

كثيرون هم الطلاب الذين التزموا الاحتجاج وامتنعوا عن الذهاب إلى الصفوف الدراسية، وبعضهم وهن بعد يوم أو بضع يوم، وبعضهم آثروا السلامة، وتحاشوا المشاركة في هذا العمل الاحتجاجي شديد الندرة والوقوع، إن لم يكن الغير مسبوق..

زميلي أحمد مسعد الشعيبي يصف ما حدث بأول انتفاضه طلابية عفوية ضد الحرمان من الحقوق الطبيعية المتمثلة بالمأكل والمسكن... وقد اطلق شررها انقطاع التيار الكهربائي بسبب عدم سداد إدارة التربية فاتورة استهلاك الواقعة، وقد انطلق الطلاب إلى الخط العام قاطعين للطريق العام التي تربط محافظة لحج بمحافظة عدن..

كان الطلاب من أبناء الضالع في المدرسة هم طليعة المحتجين.. كنت معجب بأولئك “المجانين” الذين رفضوا الظلام، ونازلوا الجوع، وتحدوا عواقبه..

كنت أنظر لغير المحتجين نظرة سخط وازدراء.. كنت أسأل نفسي لماذا هؤلاء يتلبسهم الخوف ويركبهم الخذلان، ولا يسخطون على الجوع والقائمين عليه؟!!

كنت معجبا بالطلاب الذين يجرؤون على الاحتجاج، ويحاولون أن يصلوا بصوت الجوع إلى أكبر مسؤول في البلاد..

كان المسؤولون في المحافظة ولاسيما في التربية والتعليم الذين تتبع المدرسة مسؤوليتهم هلعين من انعكاسات وتأثير تلك الاحتجاجات عليهم، وعلى مناصبهم ووظائفهم..

نزل المسؤولون عن التربية والتعليم في المحافظة ليجتمعوا بالطلاب ويسمعوا مطالب المحتجين ومناقشتهم فيها بعد فشلهم في إرعابهم وثنيهم عن مواصلة الاحتجاج، وإرجاعهم إلى فصولهم الدراسية.

لم نهدأ ولم نكف عن الاحتجاج الا بعد حضور علي عنتر والذي نجح في تهديتنا عندما قال: "تروحوا أسبوع وترجعوا على اكل حسين ونظيف" وأمر بتحضير “بوابير” لنقل الراغبين من المحتجين والمتذمرين كلاً الى مديريته والعودة إلى أسرهم في إجازة قصيرة، ريثما يتم تدبر الأمور، وتحقيق مطالب المحتجين..

العمل الاحتجاجي من هذا النوع وضد السلطة الثورية أو هكذا يفهم مثل هذا النوع من الاحتجاج وفي تلك الفترة شديدة الحساسية كان عمل جريء ومقدام بكل المقاييس..

أن يندلع عمل احتجاجي في مدرسة تحمل اسم عظيم في دولة تدعي أنها تتبني نظرية الاشتراكية العلمية وتعمل من أجل إقامة دولة "البروليتاريا" عمل ربما يكشف هشاشة بعض ذلك الادعاء.

أسفر هذا الاحتجاج عن نتائج تحسين ملحوظة في التغذية والنظافة والتنظيم واستعادة الكهرباء المقطوعة.. وكان هذا العمل هو أول احتجاجي أشارك فيه.

***
تبع..
قراءة خارج المناهج الدراسية
بعض من تفاصيل حياتي

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=513758669579064&id=100028348
056925&sfnsn=mo
احمد سيف حاشد:
التافه في كثير من الأحيان يتمثل في مخلوق منحط يستفيد من معرفته بالأخبار الداخلية والدسائس في أوساط ذوي السلطة لاستغلال كل موقف.

- د. آلان دونو ، نظام التفاهة
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=513850942903170&id=100028348056925&sfnsn=mo
أحدهم يصف صديقه التافه:

" آو ايتها التفاهة المنتنة , الشعر النفعي , ادب البيادق , الثرثرة الجمالية, القيء الاقتصادي, المونتاج المقزز لامة مستهلكة, إنني أكرهك بجميع قواي الروحية! إنك لست بالغرغرينا , بل أنت ضمور عضوي! إنك لست بالالتهاب الساخن الأحمر للأزمنة المحمومة, بل أنت الخُرّاج البارد ذو الأطراف الباهتة, الذي يقطر كما النبع الذي يجد مصدرة في تجويف تسوسٍ عميق!"

- نظام التفاهة
مثل ما يحدث في بلادنا بالضبط

- "إن الميل إلى إقصاء غير التافهين صار يتأكد بانتظام، ولكن الأمر قد وصل بنا اليوم إلى مرحلة تتعدّى ذلك؛ لقد صارت التفاهة مطلوبة بالفعل"
- "إن التافه هو من ينجو"
- "وللتفاهة فرصة أفضل في النجاح"

- د. آلان دونو ، نظام التفاهة
ليست المشكلة في الناشطين الذين يكتبون
المشكلة في الفساد والنهب والظلم
الذي وصل حمولته إلى حدوده القصوى
"تشجّعنا التفاهة، بكل طريقةٍ ممكنة، على الإغفاء بدلاً من التفكير، النّظر إلى ما هو غير مقبولٌ و كأنه حتميّ، و إلى ما هو مُقيتٌ و كأنه ضروري؛ إنها تُحيلنا إلى أغبياء".
د. آلان دونو ، نظام التفاهة
من نص مقدمة المترجم د. مشاعل عبدالعزيز الهاجري لكتاب نظام التفاهة:

"لقد أدى انخفاض المعايير و تغييب منظومات المبادئ الرفيعة والمفاهيم العليا إلى تسهيل صعود البسطاء فكرياً و الخليّين أخلاقياً، و وصولهم الى مفاصل القرار في الحكومات و الإدارة و التجارة و الأكاديميا و تمكّنهم منها جميعاً، في سابقةٍ تاريخيةٍ لم تشهدها أية مرحلةٍ حضاريةٍ أخرى."
(18)
خارج المقرر المدرسي

في الصف الثاني ثانوي سنة تم تخصيص عشرة دينار شهريا مساعدة لأبناء الشمال (الجبهة الوطنية) وكنت انتظرها بفارغ الصبر نهاية كل شهر، وأصرف منها عندما أجوع، بشراء البسكويت والشاي من محمد حيدرة الذي كان لديه حانوت صغير في بوابة المدرسة من الداخل..

كانت وجبة الشاي والبسكويت وجبة لذيذة وشهية تخفف من وطأة الجوع، حتى صرنا رفقة في غلس الليل نواجه فيه الجوع.. لازلت إلى اليوم أشتهيها في بعض الأحيان، وأتذكر من خلالها أيام خلت وانقضت، ويفعلها اليوم رفيقي نبيل الحسام حين يجوع أو يخفف من وطأة الجوع، ويعزمني عليها وأنا أكابر، والحنين جارف، وأحيانا يكون الصدق.. حبة السمسم باتت تحن علينا من جوع يحمل أصحابها أنفس هنيئة وأثقال كبار.. ما أجمل الفقراء، وما أهناهم وأغناهم وأنبلهم.. ما أجمل صحبتهم ورفقتهم وهم يشمخون برؤوسهم في العنان رافضين الاستكانة والخضوع.. ينازلون الجوع بالكبرياء المعهود، وبعزة نفس تبلغ السماء طولا.. يقاومون الإذلال والتفاهة والانحطاط، بتفان فذ، واستبسال المنتحر..

في مدرسة "البروليتاريا" كانت لدي إذاعة صغيرة أتابع من خلالها الأخبار ليلا والسماع أقل وشيش.. كنت حريصا على سماع نشرة وتقارير إذاعة "مونتي كارلو" الساعة الثامنة مساء، والتي كانت تستمر لنصف ساعة، ثم اتابع ما يليها حتى إذا جاءت الساعة التاسعة، انتقل إلى متابعة نشرة إذاعة bbc من لندن، ثم برنامج مقتطفات من أقوال الصحف، ولا أنتهي من إذاعة لندن حتى أسمع برنامج "السياسية بين السائل والمجيب" الذي كان ينتهي في تمام الساعة العاشرة..

ساعتان يوميا دون انقطاع كنت أقضيها في ردهات الأخبار والتقارير وأقوال الصحف، والسياسية عموما، فإن حدث مستجد مهم قضيت وقت أطول في المتابعة، وسماع محطات أخرى متنوعة مهتمة بذلك الشأن أو الحدث.. لا أذكر إن ليلة فاتتني دون أن أقضي أقل من ساعتين في سماع الإذاعة باشتياق وشغف سياسي ومعرفي.. لقد كان هذا جزء من برنامجي اليومي المعتاد، والحريص عليه أثناء دراستي الثانوية، في مدرسة "البروليتاريا".. كانت تلك المتابعة تشعرني بزخم الحياة، وتطورات الأحداث، وما للشأن العام من أهمية في حياتنا..

كنت أتطلع للمعرفة وأشغف بها، وأقرأ الصحف عندما أجدها، وكذا بعض الكُتب، حتى ما كان منها عصيا على الفهم بالنسبة لمستواي المعرفي المتواضع، ولكنني كنت أحاول فهمها، وكأنها جزء من المقرر الدراسي.

اذكر أنني في صف الثاني ثانوي فاجئني وثار في وجهي أحد الاساتذة لمجرد أنه شاهدني أقرأ كتاب لإنجلس (أصل العائلة) عند بوابة المدرسة، وعنَّفني كون هذا يصعب فهمه حتى على خريجي الجامعة، وأن مطالعتي لهذا يأتي على حساب مذاكرة دروسي.. كان واضح أن هذا الاستاذ متخفف من الايدلوجيا، واعتقد ان اصوله هندية أو باكستانية كما هو واضح من سحنته وملامحه.

هذا الزجر لم يمنعنِ من القراءة خارج المقرر الدراسي، بل جعلني اقرأ أكثر من خارج المناهج والمساقات الدراسية، دون أن يؤثر ذلك سلبيا على الاهتمام بدروسي التي كنت اعطيها القدر الأوفر من الوقت والاهتمام، ولكن أحيانا كانت معاناتي وشغف المعرفة يحملاني على القراءة خارج المقرر الدراسي، أو ربما كان هذا بعض من قبيل التمرد على الرتابة والملل..

إجمالا كانت القراءة خارج المناهج الدراسية الأساس لتوسيع مداركي المعرفية، بل والتفوق لاحقا في الدراسة، ومغادرة دائرة الفشل المدرسي..

***
يتبع..
بعض من تفاصيل حياتي