Abdo Fayed
15.7K subscribers
3 links
خلف القصة ألف حكاية
Download Telegram
‏سجون بشار الأسد؟..هل سمعت عن انتهاك السيدات؟..

ميشيل كيلو المفكّر السوري الراحل كان يحكي أنه أثناء وجوده في فرع التحقيق العسكري، صادف سيدة في عمر ال 27، وكان معها ابنها، أنجبته نتيجة لاعتداء ضباط الأسد عليها..ابنها كان طفلًا في عمر الخامسة..فبدأ ميشيل يحكي له قصة ‘‘العصفور والشجرة‘‘..لكن الطفل سأله..ما هو العصفور؟..ثم ‘‘ ما هي الشجرة؟‘‘...تخيل يا ابن الحرام..يا من تدافع عن بشار الأسد، يا من تدّعي خوفك على سوريا؟..سيدة حرّة يٌعتدى عليها، فتنجب طفلًا، يقضى طفولته في أقبية الاستخبارات العسكرية..لا يعرف حتى ما هو العصفور ولا الشجرة؟..طفل لا يمتلك أصلًا اللغة التي يعرفها باقي البشر؟..هل شاهدت مئات السيدات اللواتي أطلق سراحهن، هل تعرف كم جرحًا في قلب طفل؟..ألوف السيدات والأطفال الذين اختبروا الموت ألف مرّة، بينما أنت تنعم مع أسرتك بالماء والهواء والنوادي والفُسح..لو لم يفعل الثوار شيئًا سوى تحرير المعتقلين، لكفى بها نعمة وفضلًا يأسرون به الكل حتى نهاية الكون.
‏أنا خائف على مستقبل سوريا بعد سقوط الأسد؟

يا مدلّس..الأسد قتل 600 ألف، وهجّر 14 مليون شخص، واعتقل 200 ألف شخص، وسرق هو وعشيرته فوق ال 100 مليار $، واستدعى الروسي والإيراني وسلمهم قواعد جوية وبحرية وبرية..مزّع البلد ونحر أهلها ونهب مواردها..وتأتي الآن لتمثّل إنك خائف على سوريا؟..سوريا في عهد الأسد بلغت الحضيض الذي لا يوجد بعده حضيض..تقلق فقط لو كان حكمه استمر يوم واحد..هذه فقط أيام للفرح والإبتهاج..هي أحلامنا بعد نصف قرن من حكم آل الأسد تتحقّق، هي حرية كل مظلوم من سجونه، وانعتاق أمة كاملة بسقوطه..وفّر مخاوفك الكاذبة لنفسك، والتي تحاول بها أن تداري تأييدك له، انتهى بشار..سقط البعث..ولا ليس سوريا لوحدها حرّة..بل العرب أجمعين.
‏الكل يدين للسنوار..كل معتقل سوري تحرّر من تدمر وصيدنايا وحلب..كل سيدة سورية خرجت رفقة أطفالها من قبو الزنازين غير مصدّقة أن الأسد قد رحّل..كل نازح سوري عاد لمدينته التي هجرها قسرًا، وكل مدينة سوريا سقط فيها تمثال الأسد..سوريا الحرّة الجديدة تدين للسنوار الذي قلب الشرق الأوسط رأسًا على عقب وجاء بطوفان أسقط كل عدو للحرية من طريقه..لولا السنوار بعد الله، ما كنّا رأينا ذرّة من ذلك..ادعوا لشهداء سوريا بالرحمة، مجدّوا أبطال التحرير، وتعشّموا في مستقبل جديد..لكن وسط كل ذلك..ادعوا لأبي إبراهيم بالرحمة..فوالله إن السنوار بدمه وأرواح شبابه القساميين، بعصاه التي هشّ بها مسيّر إسرائيلية، والله كان أول طلقة أطلقت في صدر بشار وزبانيته..ولم يكن دم السنوار فداء للأقصى فحسب، بل لكل شعوب العرب أجمعين.
‏طبيب نفسي سعودي..ألحد ثم طلب اللجوء في ألمانيا، يقول عن نفسه بأنه "أشد كاره للإسلام" في التاريخ..مؤيد لإسرائيل بشدة في سحق الفلسطينيين، ومؤيد لبشار الأسد في محو السوريين..يعني ألم بالحقارة من كل أطرافها..ولأنه مرعوب من أسلمة ألمانيا، ويتهم سلطات برلين بالتقاعس في مواجهة ما أسماه ب"المد الإسلامي"، قاد شاحنته ثم قتل 11 ألمانيا حتى يجذب الاهتمام لأفكاره..فجأة انكتم الخبر في وسائل الإعلام العربية قبل الألمانية..إعلام عربي معين جهز الاستوديوهات تحسبا أن يكون الفاعل سوريا لاجئا في ألمانيا، وبدأت تلميحات إن تلك نتائج الثورة السورية التي تشجع التطرف، فلما علم الكل إنه ملحد محب لإسرائيل والأسد، فجأة ساد الخرس، لأن القصة خربت..أهم حاجة مذيع BBC يسأل عن شرب الكحول في سوريا الجديدة، ثم يأتيهم شخص على مقاييسهم بالمللي، ويشرب الكحول بالسطل، ويعمل فيهم القتل..سبحانك يارب.
‏ترامب بدأ حروبه مُبكرًا.. واليوم أعلن رغبته في شراء جزيرة جرينلاند..قد تعتقد أن الخبر غير هام، لكن جرينلاند المجهولة تلك، هي إحدى المناطق التي قد تُسبّب الحرب العالمية الثالثة..

ما هي قصّة جرينلاند؟..وما علاقتها بالصفقة في قطاع غزّة؟

كانت جزءً من مملكة الدنمارك منذ القرن ال 18، وفي أواسط القرن ال 20 سقطت الدنمارك في يد النازيين، الذين بدورهم سعوا لبسط سيطرتهم علي تلك الجزيرة القطبية، لكن السفير الدنماركي في واشنطن تجاهل طلب حكومته المعيّنة من النازي، ومنح الولايات المتحدة حق السيطرة علي الجزيرة، وبالفعل وصلتها طلائع القوات الأميركية عام 1941..انتهت الحرب العالمية الثانية، وبدأت الحرب الباردة بين الولايات المتحدّة والإتحاد السوفياتي..وفجأة تعزّزت أهمية جرينلاند في ذهن المخططين العسكريين الأميركيين، لأن الجزيرة يُمكن استخدامها كمحط هبوط وإقلاع للقاذفات بعيدة المدي، والتي بمقدورها قطع الطريق إلي السماء السوفياتية في مدة وجيزة.

لكن واشنطن رغبت في إنهاء الأمر بشكل جذري..لم نبني قاعدة عسكرية في جرينلاند بينما يمكننا التقدم بطلب لشراء الجزيرة من الدنمارك؟..لكن الأخيرة رفضت التفريط بها، فما كان من الطرفين إلا أن وقّعا معاهدة عام 1948 وبموجبها أرسلت الولايات المتحدة 120 سفينة و12 ألف رجل و300 ألف طن من المعدات من فيرجينيا لبناء القاعدة الجويّة في ثوول، وفي 10 سنوات فقط كان هناك 20 ألف مدني يقطنون الجزيرة ويقابلهم 6800 جندي أميركي مدعومين بسربين من قاذفات B-36 الإستراتيجية..الحرب الباردة انتهت..والقاعدة العسكرية الأميركية بلغت سعتها القصوي ب 10 آلاف جندي..وجب الآن تخفيض عددهم وصرف الإنتباه الأميركي عن الجزيرة؟

لا..الإهتمام تضاعف..لماذا؟..الإجابة علي الدوام هي القطب الشمالي..هناك 5 دول مطلة علي القطب الشمالي بصورة مباشرة ‘‘أميركا، روسيا، كندا، النرويج والدنمارك‘‘..والخمسة جمّعوا أنفسهم تحت مظلة مجموعة تُعرف باسم ‘‘الخمسة القطبيين‘‘، يتقابلون بصفة دورية ويتفقون علي المسائل الخلافية..وما الذي يجعل الخمسة أصلًا يهتمون بالقطب الشمالي؟..السبب هو احتياطي الثروات العملاق، والمقدّر ب 1669 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي و44 مليار من سوائل الغاز و90 مليار برميل بترول..وهل اتفقوا؟ لا..كل لديه استراتيجيته الخاصة، وفي المقدمة يأتي الروس الأكثر نفوذًا ب 43 حقل نفط مكتشف في القطب الشمالي، فضًلا عن مليونين من سكانهم القاطنين علي سواحله، مقابل نصف العدد لباقي الدول الأربع مجتمعة، وفوق ما سبق، الإستثمار العسكري الروسي للدفاع عن تلك المصالح وتوسيعها.

موسكو أسّست فرقة عسكرية قطبية شمالية من فرقة البنادق الآلية، وتتمركز في ألاكورتي قرب الحدود الفنلندية، وتوسعت في إقامة قواعد علي جزر سيبيريا الجديدة، ورانجل وكيب شميدت، وتبني 10 محطات للرادار، وقامت بتركيب صواريخ S-400 علي أرخبيل نوفايا زيلميا وميناء تيكسي..ليست روسيا فحسب من يهتم بشدة بالقطب الشمالي..الصين أيضًا..وهنا التساؤل الأساسي..الصين ليست دولة مشاطئة للقطب الشمالي..بأي صفة ترغب في المجيء وأي مصالح تدافع عنها؟..صحيح..لكن بالتعبير العامي ‘‘هو كده‘‘..الصين قوة عظمي وستحشر أنفها في كل رقعة يتبدّي لها فيها مصالح إقتصادية ولن تعدم إيجاد المسوغ القانوني..في البداية انضمت بصفة مراقب إلي المجلس القطبي والذي يضم الخمس دول السابق ذكرها فضلًا عن السويد، فنلندا وأيسلندا..لكن صفة المراقب ليست كافية للصين.

الصين أطلقت علي نفسها لقب Near Arctic State..يعني أنا دولة جوار للروس والأمريكان، ولي مصالح لا بد من مراعاتها..دولة جوار ليس بالأمر الكافي أيضًا..الصين سوف تبني حضورها ببطء، وبوسيلتها المفضّلة ‘‘الإستثمارات‘‘..جرينلاند حصلت علي وضع الحكم الذاتي عام 2009 تحت غطاء المملكة الدنماركية، وسعيًا لتوسيع مواردها، ذهب رئيس وزراءها كيم كيلسين إلي الصين بدعوة رسمية، وبكين ضخّت استثمارات في مناجم التعدين في جرينلاند واستحوذت علي 12% من شركة جي.إم.إيه المسئولة عن التنقيب محليًا في الجزيرة.

ثم طورّت الصين حضورها وكانت مستعدة لتوسيع المطار الرئيس وبناء إثنين آخرين علي الجزيرة، لكن الدنمارك صرخت تلك المرة حرفيًا، اعتراضًا علي النفوذ الصيني المتنامي وذهبت هي لتطوير الميناء الجوي في الجزيرة، والإنتباه الدنماركي دفع أيسلندا والنرويج لإلغاء مشاريع مشتركة مع الصين..لكن الصين لن تتوقف عن المراوغة..وهنا يظهر مشروع الحزام والطريق أو ما يُعرف شعبيًا بطريق الحرير الجديد، والذي تُخصص له الصين استثمارات بقيمة 900 مليار $ لربط آسيا وإفريقيا وأوروبا بشبكة خطوط برية وبحرية تخدم شركات الشحن وخطوط التجارة الصينية.
في يناير 2018 طرحت الصين ورقة بيضاء عن مصالحها الإستراتيجية القطبية، ومنها تبلور امتدادًا جديدًا لمشروع الحزام والطريق..ليس طريقًا بريًا أو بحريًا تلك المرة..أسمته الصين ‘‘طريق الحرير القطبي‘‘..الصين تسعي لتقليص المدة التي تستغرقها سفن الشحن عبر استخدامها طريقًا أقصر وهو ‘‘الممر القطبي الشمالي‘‘ والذي يوفر مثلًا في حال سفينة تتجه من شنجهاي إلي ميناء روتردام الهولندي 30% من الوقت، عما إذا استخدمت قناة السويس..مشروع صيني عملاق بالتأكيد، لكن تحدياته أكثر عملقةّ، لأنه يستلزم توافر كاسحات جليد مرافقة للسفن، فضلًا عن تأثره بالأحوال الجوية في الشتاء.

لكن الصين تنظر للمدي البعيد، مع التغير المناخي الحاد وذوبان كميات أكثر من الجليد، وبالتالي انفتاح الممر بصورة أكبر، فضلًا عن الإستثمار بكثافة في تطوير كاسحات الجليد، وبالتالي تسعي لتوكيد حضورها في الممر الشمالي، بجوار القوتين الرئيسيتين، روسيا ثم كندا..ومن هنا يُفهم سعي ترامب لتجديد الحلم الأميركي بشراء جرينلاند القطبية..لموازنة الوجود الروسي والسعي الصيني المتنامي وبدرجة أقل كندا التي تحكمها خلافات مع واشنطن حول اعتبار الممر الملاحي أرضًا داخلية..لكن الدنمارك ترفض بشدة، لأن جرينلاند هي امتدادها القطبي الأوحد، وهي السبب الأول والأخير لكي تجلس دولة صغيرة السكان والمساحة مثلها علي طاولة مفاوضات واحدة تضم العمالقة، أميركا، روسيا والصين.

جرينلاند هي الرئة الأميركية المطلوبة بشدة للقطب الشمالي..القطب الشمالي الذي يمثّل أحد 3 ساحات عالمية يُمكن أن تُسبب حربًا كونية..الساحة الأولى وهي منطقة إقليم شمال شرق آسيا، الذي تتواجد فيها 3 قوة نووية رئيسية وهي الصين وروسيا وكوريا الشمالية، فضلًا عن الولايات المتحدة بأسطولها البحري..الساحة الثانية هي أوروبا أو بالتحديد مناطق التماس بين الناتو وروسيا ( بولندا/لاتفيا/لتوانيا/استونيا)..

الساحة الثالثة البارزة بشدّة هي القطب الشمالي الذي سوف يصبح جنّة عالمية جديدة في الموارد الطبيعية والمعدنية..وعندما يصرّح ترامب ألف مرّة بأنه يريد تسوية الأوضاع في الشرق الأوسط، حتى يعّم الهدوء.فذلك معناه في الوجه الآخر رغبته في تركيز الاهتمام الأميركي عسكريًا واقتصايدًا على المناطق الأكثر سخونة وأهمية لأميركيا وهي شمال شرق آسيا ثم القطب الشمالي..هناك سوف تدور معركة كبرى تتنافس فيها القوة العظمى.

العالم يتغيّر من تحت أقدام العرب قبل غيرهم..حتى المنطقة التي يعيشون فيها لم يعودوا فيها فاعلًا رئيسيًا..يعولون على ترامب لتحقيق السلام، لكن ترامب لا يعوّل قيد أنملة عليهم، هم بالنسبة له مخزن سلاح يشحن منه عوائد المجمع العسكري الأميركي..ويرغب في الانسحاب من منطقتهم لتركيز الجهد العسكري الأميركي في أهم منطقتين بالنسبة له ( شمال شرق آسيا/ القطب الشمالي)..وبينما يفعل سوف يترك الإدارة بالكامل لإسرائيل التي وسعت، بفضل التخاذل العربي والدعم الغربي، مساحتها بقضم أراضي، وتحييد مناطق اشتباك.

ومن بعدها تركيا التي عهد إليها الأميركيون بإدارة العملية السياسية الجديدة في سوريا، وهو ما سيجعل أنقرة الفاعل السياسي الأهم بلا شك في المشرق العربي ( موطن القلق الأميركي التاريخي بعد تراجع الدور المصري)..وإعلان صفقة في غزّة كما يتوقع في أوائل عهد ترامب..ليس إلا ترسيخًا لتلك المعادلة..تكفي إسرائيل لإدارة 400 مليون عربي، أما القوة الأميركية فيكفي استنزافها، وعليها الآن تأمين مواقع أكثر أهمية استراتيجيًا..ومن هنا كانت جرينلاند.
٢ مليون إنسان في الشوارع، قاعدين في خيام، ولا عندهم غطا ولا تدفئة..٢ مليون إنسان غارسين في الوحل حرفيا، من كتر ما مياه المطر دخلت خيامهم..٢ مليون إنسان لايمتلكوا بعد كل ده، وقود يشغلوا به بوتوجاز، يعملوا حتى حاجة دافئة يشربوها، ولا حبة دواء تعالج حمى الجسد، وكل اللي حيلتهم ورق شجر يأكلوه، إن وجدوه أصلا..٢ مليون شايفين المر وحواليهم ٤٠٠مليون عربي عندهم بدل الدفاية ثلاثة وبدل البطانية خمسة وبدل الطقم الشتوي عشرة وبيشتكوا من البرد..دول لو كانوا حيوانات كان العالم اهتم بأمرهم أكثر من كده، لكن والله ما اتبقى لهم شيء من الدنيا غير ربنا، هو الوحيد المطلع على الخذلان الذي ذاقوه..ده حتى الدعاء اتنسوا منه.
‏عبد الرحمن يوسف هو الإعلان الرسمي للشرق الأوسط الجديد..

بعض الناس ما يزال يعيش في عالم الصراعات العربية-العربية، والصراعات العربية-التركية في الفترة من 2013-2020..يعتقدون أن اعتقال مواطن يحمل الباسبور التركي، لا بد أن يتبعه استنفار كامل من الدولة التركية، التي رسموها في خيالهم ماردًا جبارًا، لتحريره من فم الإمارات، وبهذا ينتصر أردوغان المحنّك وتنساب البوستات المشيدة بمكر الرجل ودهائه وقوة دولته..بعض الناس حتى انتظر تدخل قطري على اعتبار أنه ابن الشيخ القرضاوي الذي حملته أرض الدوحة لعقود..وبعد ذلك تفاجأوا أن أنقرة قبلت تسليم مواطنها، والدوحة نشرت بالكاد خبرًا هامشيًا عن ترحيله..ومضى كلاهما لحال سبيله.

بعض الناس، وهذا أسوأ مما سبق، انتظروا من ‘‘بعض ‘‘ الثوار السوريين ما هو أفضل من التنكيل المعنوي بالرجل طوال إقامته القصيرة في دمشق، التي ما أتاها إلا فرحًا مبتهجًا بسقوط الأسد..انتظروا أن تكون سوريا الجديدة حاضنة للثوار العرب القدامى، بل وداعمة لخطابهم المناهض للمحور الخليجي، ثم استيقظوا على خبر عدم اهتمام سوريا الجديدة الرسمية أو الشعبية بمصير الرجل، بل والسعي لتبييض الوجه أمام الجهة الساعية لاعتقاله وزيارة أبو ظبي واحتساء القهوة العربية مع مسئوليها..والتقى المتعشّم في الثورة السورية، بالمتعلّق بالقشة التركية، في نهاية المطاف، معلّقين على خبر نشرته الجزيرة القطرية على ترحيل ابن الشيخ القرضاوي.

هذا مصير متوقّع لمن يقف عند لحظات زمنية بعينها ولا يدرك إلى اللحظة أن الزمن تجاوزها وتجاوزه هو شخصيًا..هذا شرق أوسط جديد، يسعى كل فاعلوه الأقوياء - باستثناء إسرائيل- لإيجاد صيغة أفضل لتقاسم المنافع ومساحات النفوذ..جرّبت تركيا الاصطدام بالخليج وجنت حصاد ذلك علقمًا بتراجع الاستثمارات والسياحة وتردّي العملة المحلية وفوق ذلك لم تجن مكاسب سياسية واضحة..وجرّب الخليج ( الإمارات والسعودية) الانقضاض على حلفاء أنقرة في الإقليم ( قطر بالتحديد) وما حصدوه كان مجرد مناوشات وأغاني يوتيوب على وزن هجاءات قبائل الجاهلية، واستنزاف الموارد فيما لا طائل منه..لم تنجح تركيا في التأثير على الأنظمة الملكية، ولم تنجح الأخيرة بدورها في محو النفوذ التركي في الإقليم..معادلة أجبرت الكل على التراجع خطوتين للوراء.

طبّعت تركيا وقطر مع الخليج ومصر مقابل تراجع الخطاب التحريضي من الجماعات المعارضة المقيمة في أنقرة والدوحة، والأهم مقابل إعادة الاتفاق على الاعتراف بالمصالح الطبيعية للأطراف كلها..لتركيا مصالح مكتسبة على امتداد الجغرافيا العربية والتخوم المحيطة بها ( ليبيا/ سوريا/ شمال العراق/ الصومال/ إثيوبيا) وللمحور الخليجي المصري مصلحة هائلة في عدم انبعاث جماعات الإسلام السياسي، مع التنسيق بوضوح بشأن الملفات الخلافية ( ليبيا/ شرق المتوسط)..الكل أرهقه الصراع، والكل يبحث عن تسوية..وكانت تلك كافية.

والأهم أن كل هؤلاء السابقين هم حلفاء للقوة الأكثر بطشًا في الإقليم..إسرائيل..وجاءت حرب غزّة كاشفة بالمطلق، لشكل هذا العالم الجديد في الشرق الأوسط..كل الفواعل الخليجيين والمصريين والأتراك اتفقوا، في نفس واحد، على ترك غزّة لمصيرها، مع إدارة مخرجات الصراع فحسب، وليس التأثير لإيقافه..وساطة لإخراج الرهائن، جولات مفاوضات لوقف الحرب، إدخال مساعدات إنسانية، لكن في نفس الوقت الحفاظ على حد ممتاز من التنسيق مع الإسرائيليين، صادرات بضائع وقطع أسلحة ووقود ومعابر بحرية وكل ما تتخيلّه..حرب غزّة كانت اختبارًا حقيقيًا لصدقية التحولات في طبيعةالعلاقات العربية-الخليجية-التركية..والكل نجح في الاختبار..لم يندفع أي من أعضاء هذا الفريق لدعم غزة أو التنديد بالباقيين في حرب دعائية معتادة..فقط الصمت ومحاولة إدارة الحدث بما يخدم المصالح المحلية، وتجاهل الشعارات القومية-الدينية التي كانت حاضرة على الدوام في الصراع.

ثم جاء الحدثان الفارقان والأهم في تاريخ المنطقة العربية بلا شك منذ نكسة يونيو/ حزيران 1967..انهيار النفوذ الإيراني في الإقليم، ووصول الإسلاميين للسلطة في سوريا بعد الإطاحة بنظام البعث الإجرامي..هنا عادت المنطقة العربية لتوتراتها القديمة..بين خوف المحور الخليجي-النيلي من انبعاث الإسلام السياسي، وأي إنبعاث ونحن نتحدث عن تنظيم منتمي سابقًا للقاعدة، وطموح تركيا في استعادة مشروعها القديم بتوسيع نفوذها في المنطقة العربية كترضية بديلة-موافق عليها من الناتو - عن فشل مشروع أردوغان 2002-2010 بالانتماء للاتحاد الأوروبي..وتركيا أدارت الحدث إلى اللحظة بذات الكفاءة التي كانت تعمل بها قبل 2011..توسع دون إشهار في سوريا، مع تقدير كامل لعواقب إغضاب العرب الخليجيين تحديدًا، ومن ثمّ السعي لطمأنتهم عبر لسان الشرع نفسه..بأن إسقاط الأسد أنقذ الخليج نفسه من حرب إيرانية-إسرائيلية مفتوحة.
يتخوّف الخليجيون والمصريون من أن ترفع التغييرات السياسية السورية من احتمالات ‘‘التثوير‘‘ في المنطقة بما يُهدد حالة الاستقرار القائمة منذ ثمان سنوات..وفي المقابل تسعى تركيا ومن بعدها الإدارة السورية الجديدة لإقناعهم بشتى الطرق..بألا تثوير في الطريق، بل إعادة خلق نظام إقليمي جديد، تصبح فيه سوريا جزءً من الحاضنة العربية، بشروط مختلفة نسبيًا عما أراده المحور الخليجي -المصري، بزي ومظهر إسلامي مع الاندماج سريعًا داخل المنظومة الغربية بشقّها العسكري، أي التسليح الأميركي الذي لا مجال للفكاك منه حال الرغبة في بناء الدولة، وشقها الاقتصادي بإلغاء كل مظاهر الدولة الاشتراكية، والتوجه نحو سوق مفتوح وبالتالي الانتماء اقتصاديًا للرأسمالية الغربية..أما الإنتماء القيمي فذلك هو محل الخلاف ..وتلك المعركة تديرها تركيا الضامن للنظام الجديد في سوريا أمام العالم.

يعلم الخليج أن الكلام سهل، ويعلم الغرب كذلك..تستطيع سوريا أن تقول أي شيء للطمأنة، في وقت الضعف والتفكك، وهي التي يتخللها خمس احتلالات الآن، وتحتاج لعشر سنوات قادمة لإعادة الإعمار فحسب..لذا لن يتوقفوا عن الضغط مستغلين أدواتهم المادية العملاقة من أجل تحسين شروط النظام السياسي الجديد بما يتفق مع الحد الأدنى من مصالحهم..وتعلم تركيا في المقابل أن تثوير الداخل السوري أو هدوءه مرتبط بطمأنة الخليج لأن البديل حال القلق هو ضخ مليارات الدولارات للحصول بالتمرد الأهلي على المكاسب التي عجزت السياسة عن إمدادهم بها..ومن هنا كان الخطاب السوري الجديد المرحب بالخليج والمتغاضي كلية عن قضية عبد الرحمن يوسف..ومن هنا لم تتدخل تركيا لانقاذه..هو بالنسبة لها عربي مجنّس، لا قيمة له أمام تحولات استراتيجية عملاقة في المنطقة، من شأنها أن توفّر للأتراك رأس حربة مشرقية في سوريا وفوقها عقود بعشرات المليارات..استرضاء الخليج مقدّم للأتراك على حقوق الإنسان..وتركيا أصلًا سجلها رديء لا يختلف كثيرًا عن الأنظمة العربية في الاعتقالات وحرية الصحافة والتجمع.

أما لبنان فكانت بحق الساحة المناسبة لإطلاق هذا الشرق الأوسط الجديد..مرّة بالضربة القاسية التي تلقاها حزب الله من إسرائيل..والثانية بتسليم عبد الرحمن يوسف..لبنان على الدوام كانت معمّلًا تجريبيًا لإنتاج القوة الإقليمية المهيمنة..هل أغلقت التلفاز ودخلت في غيبوبة لعشر سنوات مثلًا ثم عُدت للحياة من جديد وترغب في معرفة من هي القوة الإقليمية الأهم في المنطقة العربية؟..انظر فقط إلى لبنان..ستعرف القوة الإقليمية الضاربة من تركيبتها الحكومية..السعودية أم إيران؟..الخليج أم تركيا؟..والآن تصرف حكومة ميقاتي هو بالضرورة إعلان لمن القوي اليوم..اخترق كل القوانين وكيّفها لصالح تسليم القرضاوي.لأن الطرف الآخر في المعادلة تراجع..حزب الله ببساطة..فلم يعد بمقدوره التحكم في كل تفصيلة في الحياة السياسية من جانب، ولم تعد له رغبة في الدفاع عمن لا يتقاسمون معه ذات الخط الأيديولوجي بالكامل..ويعلم بالضرورة أن أمامه معركة قاصمة في الداخل اللبناني، ولا حاجة له بالتورط في معركة جديدة مع المحور الخليجي..فلنسلم الرجل وخلاص.

هذا شرق أوسط جديد..لا مجال فيه لاستنزاف الماضي بين الفواعل السنّة ( العرب والأتراك) بل تعاون لتقاسم مناطق النفوذ..هذا شرق أوسط جديد ينمو في ولاية من أربع سنوات لترامب ، ولا مجال فيه لتعميم التثوير السوري، بقدر ما هو استغلاله لتثبيت وضع إقليمي صالح لسنوات قادمة بفضّ الاشتباك مع إسرائيل وترسيم مناطق نفوذها الجديدة مقابل الاعتراف بالمصالح التركية والعربية في الباقي من سوريا..هذا شرق أوسط جديد..اندحرت فيه إيران بخطابها وميلشياتها ورجالاتها وكل ما تتمناه ألا تدور دائرة الحرب عليها وأن يكون أمامها الوقت الكافي للنجاة بقنبلتها..هذا شرق أوسط جديد يختلف كل فواعله (العرب-الأتراك- الإسرائيليون) على مناطق الهيمنة..لكنهم وبرعاية أميركية يتفقون على شيء واحد..سحق الإنسان.
‏هل كان طوفان الأقصى فعلًا يستحق هذا الثمن؟..خمسون ألف شهيد ومليوني مشرّد ومدينة بالكامل مُحيت عن بكرة أبيها..هل غامر السنوار بالشعب الفلسطيني واتخذّ قرارًا مجنونًا؟..والآن تقبل حماس الصفقة بعد 500 يوم من المأساة..مقابل ماذا؟..أسرى مُحررون بالمئات، بينما اعتقل من سكان غزة قرابة 17 ألف بعد السابع من أكتوبر؟..كلها أسئلة منطقية ومشروع أن تُثار في عقل أي غيور على غزّة..لكن..الإجابة أعقد من الظاهر بكثير..

غزة كانت مدينة جميلة قبل الحرب..بيوت وشوارع وشواطيء ومدارس ومشافي..صحيح..كانت فعلًا مدينة بهيّة..لكن السنوار ورفاقه لم يريدوا هذا الأمر تحديدًا..الجمال والهدوء؟..لا..المقايضة..هدف الفلسطيني منذ انطلاق العمل الفدائي في منتصف ستينات القرن العشرين هو تحرير الأرض..دولة من النهر إلى البحر عاصمتها القدس..تولّت حركة فتح زمام المقاومة ونجحت في إحياء القضية في نفوس الناس، حتى انقلبت على أعقابها، وسلّمت سلاحها مقابل كرسي في رام الله..مقابل أن يعمل الفلسطيني المقاوم سابقًا كمخبر للإسرائيلي على أبناء شعبه.

ونال الشعب الفلسطيني في الضفة ما يشبه دولة..علم ومقر حكومي وموظفين وبنوك..لكن لا حدود ولا شعب يعود ولا جيش يسود..المواطن في الضفة ارتبط بمكاسب اللحظة الراهنة..لماذا أحمل السلاح وأنا بإمكاني الانتفاع من الإتجار مع الإسرائيلي ؟..ولماذا أجازف بحياتي وأنا في رقبتي أسرة وأقساط ثلاجة حديثة أرغب في شرائها؟..توزيع مكاسب الهزيمة هو ما أجاد الإسرائيليون فعله بطريقة مدهشة استغلت الاحتياج الإنساني الطبيعي للاستقرار..لا قضية ولا وطن في مقابل أن تحظى من تحت الضرس وعبر ألف معبر بشيء يشبه حياة البشر خارج الضفة..وبمقدار ما تتخابر بمقدار ما أفرج عن ضرائبك من البنوك الإسرائيلية..والنتيجة استئناس الشعب في الضفة..وتحت شعار العقلانية ومصلحة القضية مُررت أقصى أنواع الخيانات..من أوسلو إلى قضية جولدستون.

تحويل غزّة لضفّة أخرى كان هو غاية المراد الإسرائيلي..ويُمكن ملاحظة النمط بوضوح..حماس تحكم؟..لا بأس..تنتج قدرات عسكرية؟..حسنًا كل بضع سنوات حرب خاطفة لإعادتها للمربع الأول..مع السماح بتدفق المساعدات وإعادة الإعمار وتوفير مظاهر الحياة التي تبدو للوهلة الأولى آدمية..وفي الخارج تقف ترسانة عسكرية إسرائيلية هائلة تفصل القطاع عن العالم وتستغل احتياج الناس للتفاوض على عقيدة الحكم..الخروج للعلاج من السرطان في المشافي الإسرائيلية مقابل التجسس..السماح بدخول مواد البناء مقابل وقف إطلاق الصواريخ..كانت الصفقة واضحة..تحكم حماس غزّة، تتوافر المنتجات، يمرح السكان في بعض مظاهر الاستهلاك السلعي والتي هي أقل مما يُتاح لأقل مواطن في أحراش الأمازون..والنتيجة؟..تضعف همّة الناس، تحسب حماس ألف حساب لكرسيها..ترضى بالحكم مقابل تقليم السلاح، ويرضى الناس بالفتات في سجن مفتوح بدلًا من الحرية في وطن كامل.

المشكلة الكبرى.أن حماس رفضت في غزة ما قبلته السلطة في الضفة..رفضت أن تحتفظ بالكرسي للأبد مقابل أن تتحول لآلة قمع لشعبها..رفضت أن تتخلى عن مشروع الوطن الحُر مقابل الحكم في مساحة مائتي كيلو متر مُقتطعة منه..حماس تمسكّت بالرومانسية الفلسطينية الكلاسيكية بأن شرف المواطن في سلاحه، وعقيدة الفلسطيني هي أرضه..ولم تُدرك حتى حدود السابع من أكتوبر..أن الفلسطينيين ليسوا سواء..منهم من باع شرفه وأرضه ودينه للإسرائيلي..ومنهم من رضى وخنع وسلم وآثر السكوت..وأن الفئة القليلة الموجودة في غزة هي شبح فلسطيني من زمان قد ولى..وذلك كان خطأ التقدير الأولي من السنوار وأبو خالد الضيف حينما توجه الأخير بنداء لأبناء الضفة والداخل المحتّل للخروج والفداء..والنتيجة صمت الحملان المستأنسة..في تلك اللحظة تحديدًا تجلّى معنى الانقسام الفلسطيني..ليس انقسام أحزاب وتيارات وحركات..لا..بل انقسام حول القضية نفسها..بين مقاوم مؤمن بالحريّة، ومنتفع رضى بالدنيّة.

وماذا عن فارق القوة العسكرية بين القسام وإسرائيل..هل أخطأت المقاومة في تقديرها؟..لا..بالتأكيد..أي حركة مقاومة تعلم بالضرورة أن فارق القوة بينها وبين المُحتّل هو بالضرورة عملاق، وإلا ما كان الاحتلال قد نشأ بالأساس..والقسّام أعدّت ما يكفي من القوة التي تضمن ليس فقط تحقيق نصر ساحق في السابع من أكتوبر، بل والصمود تحت الأرض وإيلام العدو فوقها لشهور طويلة..وبالفعل..الثلث الأول من الحرب كان كابوسيًا على الإسرائيليين، صمود أسطوري وقدرة مدهشة على إخفاء الأسرى..لكن ما فاجأ المقاومة، فاجأ العالم كلّه..هو الترسانة الغربية المتاحة أمام إسرائيل..لم يسبق في تاريخ الاستعمار أن حظيت قوة بهذا الدعم كما حاز نتنياهو..في حرب الهند-الصينية عام 1956 سئمت أميركا من دعم فرنسا بحريًا وجويًا في فيتنام..وتركتها لهزيمة مذلّة في ديان بيان فو حيث قُتل 16 ألف جندي فرنسي..الأوروبيون نفضوا أيديهم عن الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا عام 1904 بعد جرائمه في حق الشعب الكونجولي وأجبروه على التخلي عن الكونغو
كملكية شخصية..والأمثال كثيرة.

لكن هذا الاصطفاف الاستعماري وراء إسرائيل كان أمثولة شارحة لطبيعة المعركة التي تخوضها الحضارة الغربية بأكملها في وجه البؤر المتمردة من أوكرانيا لبحر الصين الشرقي وحتى قطاع غزة..حماس لم تكن تقاتل إسرائيل وحدها..كانت الحرب لتنتهي في أيام وليس شهور..حماس كانت تحارب منظومة قيمية تعلم أن هزيمتها في غزة سوف تلحق ضرر بالغ بالنموذج الغربي بالكامل..وتكثيفه هنا إسرائيل..إسرائيل للغرب في المنطقة ليست وكيلًا استعماريًا قائم على إدارة شئونها فحسب..بل نقطة التقاء خيوط شبكة العنكبوت التي أسّستها الآلة الاستعمارية - الرأسمالية الغربية..السيادة الإسرائيلية تضمن بقاء الأنظمة الرجعية، الملكية منها والعسكرية، تضمن استمرار شبكات الاستغلال تحت حجة الحماية، تضمن تأخير مطالب الشعوب بحريتها الأساسية، وتضمن استنزاف الموارد للحرب وليس للتنمية الوطنية..لا نتحدث عنها عن زوال إسرائيل..بل عن ضعفها أو اضمحلال سيادتها الذي قد يقود لتأليب واسع للمنطقة وخروجها من تحت العباءة الأميركية..هذا ما تحدّته حماس..لم تكن المعركة غزّة أبدًا..بل عالم عربي حرّ لأول مرة في تاريخه.

وماذا عن مئات ألوف الشهداء والجرحي..أليست دماؤهم في رقبة السنوار وحماس؟..هذه هي المغالطة التي يروج لها أنصار معسكر التطبيع العرب..بل دماؤهم في رقبة العربي الذي حاصر جيرانه، في رقبة الإسرائيلي الذي قصف، وفي رقبة الغربي الذي دعم بالسلاح..في رقبة سلطة ‘‘وطنية‘‘ متعاونة ذهبت لتقمع جنين في عز سحق غزة...كل ما أرادت حماس فعله من المعركة هو تنبيه العالم إلى أن هناك شعب لا يقبل نسيان حقه، ولا تمييع قضيته..وكان الثمن مريرًا..والآن يسهل إدعاء الحكمة بأثر رجعي..الندم على معركة كانت هي الأنبل في تاريخ العرب..هذا أصلًا هو هدف الآلة الإبادية الأميركية-الإسرائيلية..أن تجعلك تندم على الطوفان، أن تتعلّم أن ثمن مواجهة إسرائيل هو السحق المطلق، وأن تذهب إلى التطبيع هرولة لا طمعًا في المنافع بل خوفًا من المدافع...قالها الإسرائيلي في بداية الحرب..بأنه، ولثمانين عام قادمة، لن يجرؤ عربي على تحدّي إسرائيل ومن هنا كانت المقتلة..وما يُروج له كخيار العقل..هو أصلًا ترويج للسردية الإسرائيلية..المقاومة ثمنها الإفناء.

لم يكن السنوار رجلًا مجنونًا ليشعل المنطقة..في كتب التاريخ هناك الكثيرون من أمثاله ممن نعتوهم بالجنون والخبل..كان هناك ثورة الملاكمين في الصين وحينما سقط مليون قتيل صيني ضد جيوش 8 دول غربية عام 1901 نعت الكل المقاومة الصينية بالخبل لأنها تجرأت على المساس بالمبشرين الألمان..العالم كله وسم ‘‘هو تشي منه‘‘ بالجنون لأنه تجرأ وخاض في عشرين عامًا حربين ضد قوتين نوويتين وراح ضحيتها أزيد من خمس ملايين فيتنامي..الكل يصم أبطال الحرية بالجنون..لكن ما جعل الصين وفيتنام تلقى بعد ذلك تقديرًا عابرًا للحرية والفداء مقابل أثمان باهظة..أنها انتصرت في النهاية..ولم تنتصر إلا بالدعم الخارجي..بمليارات الدولارات التي ضًخت في أيدي مقاتليهم..لا لموازنة الكفة مع الاستعمار بل لإتاحة مجال للتنفس..أما السنوار..فقد خنقه الكل..كبلوا أقدامه ويديه وغطّوا عينيه..واذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون..ثم يستنكرون لمذا لم تأت بالنصر المطلق؟..

وحتى بعد كل ذلك وقفت حماس في شمال غزة لتفسد مخطط الجنرالات..مقاوم بأدوات بدائية منع تقسيم القطاع وتهجير أهله وإقناء القضية مرة واحدة وللأبد..المدهش أن حماس رغم كل ما أنفق على إفنائها لم تمت..وفي الوقت الذي انهارت فيه قوى إقليمية أشد تجهيزًا منها ألفي مليون مرة..جلست هي حتى اللحظة الأخيرة على قدم المساواة مع الإسرائيلي لتنتزع اتفاق هدنة..ربما تتراجع في قادم الأيام خطوتين للوراء وتفسح المجال -برضاها المطلق- لبديل فلسطيني يتولى تسيير أوضاع القطاع..لكنها لم تفنى لا الحركة ولا الفكرة التي تمثلها..المقاومة..هذا بلا شك وقت لملمة الجراح الفلسطينية الهائلة..وقت استيعاب الصدمة وإعادة بناء المجتمع من تحت الصفر بألف درجة..لا شك..هذا حتى ربما هو وقت الغضب المكتوم..لكن وأنت تفعل..تذكّر جيدًا أن حماس كانت بمقدورها أن تجعل غزّة نسخة من الضفة، بل ويجلس السنوار ملكًا متوجًا مع فصيله لألف سنة قادمة..لكن الحركة قبلت أن تفنى هي وقيادتها وألوف مؤلفة من مقاتليها في سبيل ألا تكون فلسطين مرحلة هامشية..ألا يتحول الفلسطيني ‘‘لهندي أحمر‘‘ جديد..نقرأ عنه في كتب التاريخ ونرى نماذج منه باقية كأحفوريات..وآخر ما يناله منّا هو مصمصة الشفاه.

هل ترغب حقًا في معرفة خطيئة السنوار؟..أنه كان حرًا في زمن إخفاض الرؤوس وإحناء الهامات..أنه كان بطلًا في زمان عربي لا يُمجد فيه إلا الخونة..أنه كان فلسطينيًا أكثر من المطلوب !
‏الاستخبارات المضادة لحركة حماس أسطورية..

تخيّل أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية والبريطانية تراقب قطاع مساحته مائتي كيلو متر لقرابة 500 يوم، من أجل إيجاد مئات الأسرى في عز حرب بربرية تسحق فيها إسرائيل القطاع برًا وبحرًا وجوًا..تخيّل مليوني شخص مسحوقين، وليس لهم سوى الخيام والبرد والقوارض..تخيّل بعد ذلك كله..لا نجحت إسرائيل في إيجاد أسراها بالتكنولوجيا، ولا نجحت في الميدان بزرع جاسوس واحد يستطيع اختراق تحصينات حماس المعلوماتية..وفي النهاية تحقّق وعد المقاومة..لن تأخذوا الأسرى إلا بإيقاف الحرب، وفي المقابل سوف نسترد ألوف من أسرانا المعتقلين..ولا عميل من خارج القطاع سوف يأتي ليقود عملية التسليم..لأ..بل أبطال القسّام المنتشرين في الشوارع، والذين ما تزال لديهم القدرة الاستخباراتية الهائلة على التنقل بخفة والتسليم في الموقع والزمان الذي تُقرّره المقاومة..ليس فقط نجاح استخباراتي على كيان نووي يحظي بدعم العالم..لأ..بل نجاح أخلاقي باهر..يخرج أسراهم معافون في عز سقم أبناء القطاع، بطونهم ممتلئة بينما الغزاويون بطونهم خاوية، مصانين الشرف والكرامة حتى لو تعرّض أسرانا في سجونهم للتنكيل..لكنها أخلاق المقاومة التي ما تخلّت عنها حتى في عز الكرب..يومًا ما عندما تنكشف تفاصيل حفظ الأسرى في الأنفاق..سوف يعرف الصديق قبل العدو أن حماس بأقل الإمكانات صنعت مجدًا لم تبلغه حتى أجهزة دول عاتية..وإلى حين المعرفة لا يملك المرء سوى الدعاء بالرحمة للسنوار الذي طهّر القطاع من الجواسيس وشيّد مع رفاقه عقيدة حصينة ضد العمالة..نرى أثرها اليوم حتى وهو في قبره..رحمات الله تترى عليك يا أبا إبراهيم.
‏لم تنجب الأمة العربية بطلا مثل السنوار في آخر قرن من الزمان..بطل كان ممكن أن يهد السجن لربع قرن من عزمه، لكنه لم يضعف ولم يلن..بطل كان يمكن أن يستجيب لغواية السلطة ويرى في صولجان غزة تعويضا عن تضحياته، فإذا به يضع مجد الدنيا تحت أقدامه ويشن الطوفان..وفي النهاية حارب بين جنوده، لم يختبىء في نفق عتيد، ولم يتصرف كقائد رعديد..كان فقط جنديا بين جنود أعدهم ودربهم ولم يطلب الزعامة عليهم، فحق على الله أن يخلد سيرته رمزا يصنع الطريق لأجيال من بعده..رحمة الله يا سيد شهدائنا، يا فخر زماننا، وتاج رؤوسنا..رحمة الله عليك يا سنوار.
‏حماس أهانت إسرائيل مرة بالطوفان، وثانية بالصمود، وثالثة بتسليم الأسرى..كل خطوة محسوبة، أماكن التسليم، زي الأسيرات، مظهر المقاتلين، كل شيء مصمم لغرس نصل إضافي في قلب المجتمع الإسرائيلي..قد تستهين بتلك الصور اليوم، لكنها ستظل محفورة في قلوب الأعادي كرمز الفشل المطلق وكسر الكرامة..ومن حيث أرادوا أن يكسروا المقاومة، انكسروا هم وأصبحوا عبرة..ولن ينسوا يوما..أن كيان نووي يحظي بترسانة أسلحة بحجم إمبراطورية..وقف في الأخير يشاهد أسراه بين مقاتلي القسام وهم يقررون متي وأين يتم تسليمهم، وسط احتفال الجمهور الذي لم يبالي بمدينته المدمرة، بل بلحظة نشوة وهو يسلم الأسيرات، وكأنه لم يذق مرارا قط..حماس انتصرت في معركة الميدان ومعركة الأخلاق ومعركة الصورة..ويوما ما سوف تنتصر في معركة الأرض.
‏لو كانت القسام استجابت للمنبطحين وألقت سلاحها في منتصف الحرب، لكانت إسرائيل قد نفذت مخطط الجنرالات وفصلت شمال غزة عن جنوبها، ولكنا قد رأينا المستوطنين الإسرائيليين يبنون الكيبوتسات على أنقاض بيوت الفلسطينيين في شمال القطاع..لكن بفضل سلاح المقاومة وصمودها الأسطوري ودماء ألوف من مقاتليها يعود اليوم أهل غزة للشمال، في حين أن الإسرائيلي نفسه لم يتمكن إلى اللحظة من العودة للمستوطنات التي أذاقتهم فيها المقاومة جحيم الطوفان..الرحمة لكل مقاتل فدى شعبه، ولكل قائد صمد في وجه العالم، ولكل مقاوم لم يلتفت لدعاة الذل، بل تمسك بسلاحه حتى استرد حق أهله..الرحمة لسيد ساداتنا..يحيى السنوار.
‏والله لا أبكي محمد الضيف وهو الذي اختار الجهاد..

الرجل الذي قضى عمره يرهب العدو ويثخن في أعتى رجالاته، فلم يقدر عليه أحد..الرجل الذي لم يطلب مالًا ولا جاهًا، وإنما حقًا مسلوبًا لشعبه، وإن كلّفه ذلك حياة أسفل الأرض طيلة عمره..يتنعّم الناس ويحرصون على مباهج الحياة ومسراتها، أما هو فقد ترك ما للدنيا للدنيا، وأخذ ما اتصل منها بالله، سيفًا ومصحفًا وبندقية، فكان أن رفع الله شأنه بين العالمين..وعندما ترجّل من جواده، كان نصل سيفه مغروسًا في قلب العدى، حتى انتزع منهم اللحم والعظم في الطوفان المجيد..رحل الضيف من الدنيا كما أتاها..ضيفًا وأي ضيف كان..ضيف أزعج طغاة الأرض وجبابرتها، ضيف تغلّب على استخبارات دول عاتية، ضيف نظّم من شبابِ أعزلِ جيشًا عرمرمًا يغزو به الأرض المُحتلّة حتى حار في شأنه العدى..والله لا أبكيك يا أبا خالد..لكنّي أبكي أمّة خسرت نبيلًا مثلك قلما جادت به الأزمان..أدّيت ما عليك..بلغ سلامنا لهنيّة والسنوار والعاروري ونزار ريّان وشحادة وياسين..وأخبرهم أنك كنت قدر الأمانة وأنك أعدّدت من بعدك جيلًا سوف يظل يلاحق العدى حتى تكون الفاصلة..إما نحن أو هم..وإنّا بحول الله لمنتصرون.
‏استشهد ياسين والرنتيسي وصلاح شحادة ويحيى عياش، جاء مشعل وهنية والضيف والسنوار..ضاق الإسرائيليون من صواريخ مداها ثلاث كيلومترات، وظنوا أن قنبلة من وزن نصف طن على منزل شحادة سوف تُعيد لهم الأمن، فأتاهم 5000 صاروخ مدى 100 و200 كم يوم الطوفان..اعتقدوا واهمين أن تليفون يحيى عياش سوف ينجيهم من العقول الفتّاكة، فأتتهم طائرات التونسي محمد الزواري من حيث لا يحتسبون..حتى في معركة الطوفان استشهد الصف الأول بشكل شبه كامل..وبعد رحيلهم وجد الأعادي أنفسهم مجبرين على قبول الهدنة، وتسلم أسراهم بأكثر الطرق إذلالًا..وفي الخلفية يمشي مقاتلوا حماس مزهوين بصمودهم ونصرهم..هذه حركة لا تعرف الوهن..لا تنهار برحيل شخص..هذه حركة لأول مرة في تاريخ المقاومة العربية، لا يحتكر فيها شخص القيادة، بل يمرر المعرفة المتراكمة من ورائها بطيب نفس لمن يليه، حتى إذا جاء، كان أشد وبالًا على الإسرائيليين..ويظنون أن حركة مثلها قد تُهزم..ننعي أبطالنا، ننثر الورود والرياحين على قبورهم، لكنّنا نعلم أن من خلفهم رجال لا يلينون..وقسمًا لو تبقّى إظفر من إصبع من طفل هو الأخير في غزّة، سينمو من حواف جلده رجل يسترد الأقصى..هذه معركة النفس الطويل..ولا منتصر فيها سوانا..نحن أصحاب الأرض.
شخص واحد اقتحم حاجز عسكري إسرائيلي في الضفة. كل ما يمتلكه هو بندقية وسترة واقية للرصاص. وبذلك العتاد فقط تمكن من اقتحام الحاجز والسيطرة على البرج العسكري، ثم دارت اشتباكات عند الحاجز، حاجز تياسير في شرقي طوباس، وامتدت لساعتين..مقاتل فلسطيني واحد أمام عشرات الجنود الإسرائيليين..سحقوه بسهولة؟..أبدا..قتل منهم إثنين، ولم ينجحوا في النيل منه، إلا بعد أن حركوا سلاح الطيران..طائرة في مواجهة فرد فلسطيني أعاد لهم أجواء الطوفان في غمضة عين..عزيزي المقاتل الفلسطيني..لا أعرف لك اسما ولا وجها حتى الآن.يستلزم الأمر جيشا لكي يقدم على ما فعلت..لكنك بمفردك كنت جيشا..ذاكرة شعبك هي جندك، قضية أرضك هي استراتيجيتك، وذخيرتك الوحيدة هي الإيمان..الإيمان بأنك صاحب الأرض..ولن تسع أبدا سواك.
‏موقف ترامب الجديد بأنه لا بديل للفلسطينيين سوى مغادرة غزة للأبد، وحديث مبعوثه بأن أهالي القطاع لن يعودوا لبيوتهم قبل خمس سنوات، يحمل تهديدا مبطنا بأن تدور المقتلة في غزة من جديد بصورة كارثية بمجرد الانتهاء من تسليم الرهائن، وهذا الاحتمال الأسوأ، ولا يقل عنه سوء الاحتمال الثاني بأن تتوقف عملية إعادة الإعمار تماما، ولا يسمح للفلسطينيين بالعودة لحياتهم، بما يهدد بتفجير القطاع من الداخل..نحن نتعامل ليس فقط مع مختل أميركي يحمل رسالة بيوريتانية تبشيرية تهدف لتمكين إسرائيل من تحقيق أحلامها التوسعية، بل نتعامل لأول مرة مع السياسة الأميركية بوجهها الحقيقي..لا مكان لدولتين، لا مكان حتى لحياة ممزعة للفلسطينيين بين شطرين دون علم أو سيادة..أميركا ترغب في التطهير العرقي مرة واحدة وأبدية..تحويل الفلسطيني لهندي أحمر جديد..إما القتل أو التهجير...كل الدول العربية صامتة عما يحاك ضد أهالي القطاع ومعهم مصر والأردن..يتخيلون أن أموال الجاز سوف تحميهم..هيهات..موعد دفع الأثمان سيدور علي بيوتكم وآبار نفطكم..وهذا ثمن خذلان غزة..الكل سوف يدفعه علقما..لا شك.