عشاق الروايات II
3.28K subscribers
50 photos
4 videos
20 files
15 links
لست أهوى القراءة لأكتب و لا لأزداد عمرًا في تقدير الحساب
إنما أهوى القراءة لأن لي في هذه الدنيا حياة واحدة ،
وحياة واحدة لا تكفيني
قناة للروايات الخليجية

القناة الأولى الروايات السودانية و العامة
https://t.me/nasra8ya

للتواصل
@Ahwa_al8ra2a
Download Telegram
-٨-

ثم اردفت بحنان عميق: فديت أبي ياناس.. نعنبو لايمني في حبه

ثم أردفت بحماس: بس والله إن زايد مخ.. شوفي إبي مامعه إلا ثانوية وكسّاب معه ماجستير إدارة أعمال

ومع كذا شوفي أشلون إبي حقق ذا النجاح كله باعتماده على روحه بس.









عفراء تبتسم: إبيش ماشاء الله مخه نظيف.. وعنده حاسة اقتصادية عجيبة

والشيء الثاني ترا إبيش يوم بدا شغله بدا برأس مال مهوب شوي

يعني زايد باع أكثر نصيبه من إبل أبيه اللي كانت كلها من الابل الطيبة وجابت له مبلغ مهوب بسيط أبد







ضحكت مزون: بس عقب سنين رجع واشتراهم..



ضحكت عفراء: البدوي أعز ماعليه حلاله.. غلاها من غلا عياله..

تدرين وسمية الله يرحمها كانت تقول إنه تيك السنين كان مثل اللي مضيع له شيء وفيه حزن لين رجعهم





مزون بحنين وحزن: الله يرحم أمي.. مالحقت أعيش حنانها ..

ثم أردفت بحب غامر وهي تضع رأسها على كتف خالتها: والله يخلي اللي ماخلتني أحس بغياب أمي وكانت هي أمي وأعز..





عفراء بتأثر: أنتو وصات وسمية الغالية لي.. والله لو تبون عيوني ماغلت عليكم..



مزق أجواء حديثهما المنسجم صراخ الخادمة من الأعلى: مـــامـــا مـــامـــا

تعالي شوفي جميلة





عفراء قفزت وهي تتعثر برعبها وجزعها على صغيرتها وهي تركض صاعدة للأعلى ومزون تجاوزتها لتركض أمامها

حين دخلتا وجدتا الخادمة تحاول رفع جميلة عن أرضية الحمام

حينها انخرطت عفراء في بكاء هستيري: شفتي يا مزون شفتي!!

راحت ترجع اللقمتين اللي غصبتها عليهم

شفتي!! شفتي!! تبي تموت ذا البنت!! تبي تموت











مزون همست بتهدئة وثبات وهي تقترب من جميلة: هدي خالتي فديتش.. مافيها إلا العافية وأظني صرتي متعودة على كذا



كانت مزون تحاول التجلد وهي تمسح وجه جميلة وتنظفه ثم تحملها بخفة كما لو كانت تحمل طفلا

فكل ما بقي من عود جميلة الريان هو وزن طفل في السابعة من عمره

حوالي 28 كيلوجراما مازالت في تناقص

كل مابقي من ذلك الجمال الملائكي العذب هو خيال شاحب لمومياء توشك على مغادرة الحياة..

عروق بارزة وعظام ناحلة وجسد خالٍ من كل معالم الحياة











مزون وضعت جميلة على سريرها ثم همست في أذنها: جميلة حرام عليش اللي تسوينه في نفسش وفي أمش



جميلة أدارت جسدها الجاف كغصن ذاوٍ..وهي تهمس بصوتها المختنق الضعيف الذابل:

تكفين مزون اخذي أمي وخلوني في حالي







*****************





الدوحة

منطقة الأبراج بالقرب من الكورنيش

مقر مؤسسة ضخمة من أكبر مؤسسات قطر تضم تحت لوائها عدة شركات وتحتل بمجمل شركاتها برجا ضخما







الطابق الأخير من البرج




مكتبه الضخم البالغ أقصى حدود الفخامة والأناقة

يراجع عدة أوراق أمامه.. بحسه المتيقظ دوما.. لا يمكن أن تفوته صغيرة ولا كبيرة..

ذكاءه الفطري متحفز دوما.. وهاهي شركاته تمر بمرحلتها الذهبية التي صنعها هو أولا وأخيرا

طلته مهيبة رغم أنه للقصر أقرب.. وكأنه بهذا يلغي مقولة عاشت في الأذهان وتجذرت "الطول هيبة"

غزت الشعيرات البيضاء رأسه ولكن عارضيه مازالا يقاومان الغزو الأبيض مع شدة سوادهما

رن هاتفه.. رأى الاسم وابتسم...كم اشتاق لهذا الفتى الغائب!!

مع علي يشعر براحة عميقة..فلهذا الفتى قدرة هائلة على الاحتواء

معه لا يشعر بتحفز كسّاب ولا حزن مزون

بات عاجزا عن تفهم الشابين اللذين يساكنونه...ويشتاق لهذا الساكن بعيدا عن حناياه

يشتاق لعلي الذي كان يفهمه بدون لغة الكلمات الممجوجة

حينما كان أولاده صغارا..كان ارتباط كسّاب ومزون ببعضهما أكبر
بينما علي كان مرتبطا به هو..رغم مشاغل زايد المتعددة كان دائما ملتصقا به
ومع ذلك كان علي بعد كل هذا من أصرَّ على الابتعاد والعمل في وزارة الخارجية



رغم رفض زايد لعمله الذي أجبره على التنقل من بلد إلى بلد منذ التحاقه به منذ أربع سنوات


"هل أردت أن تهرب من أحضاني يا علي؟!!

أفقد الولدين وفي وقت واحد!!

كسّاب فقدته وهو يسكن معي في بيت واحد..وعلي فقدته بالبعد

وحتى مزون ماعادت مزونا..حزن عميق يغلف نظرة عينيها الغالية

مابهم أولادي؟!!

ما بهم؟!!"













أشجانه طاردته مع اسم علي المضيء على الشاشة

فتح الاتصال وهمس بصوته الثقيل العميق الموغل في الفخامة.. صوت من اعتاد أن يأمر فيُطاع:

هلا والله إني صادق!!







صوته المرح العميق: حيا الله أبو كسّاب.. تجيني ذا الصيفية وإلا أجيك؟!!



ابتسم بذات الفخامة: إلا تجيني أنت و أنت سنافي ونشمي..

ولو أنك تخليني أكلم الوزارة كان ريحتك من ذا الشحططة من ديرة لديرة..وتقعد في الدوحة





يبتسم علي: أنا مرتاح كذا



تنهد زايد في أعماقه بحرارة

لا يريد أن يستجديه.. رغم أنه يتمنى أن يستجديه..ويستجديه ويستجديه

يستنزفه الاشتياق له

فمهما يكن هو أب وهذا صغيره

أتعبه هذا الاشتياق وهذا البعد الذي بات يحيط بروحه إحاطة السوار بالمعصم




همس زايد بهدوء حازم: جعلك مرتاح دوم

ثم أردف: وها متى جاينا إن شاء الله؟!!





علي باحترام ودود: شهر شهرين .. في ذا الحروة
-٩-



زايد بجزع لم يظهر في صوته الثقيل: ياكبرها عند الله يأبيك..قد لي 3 شهور ما شفتك



علي بمودة: سيّر عليّ جعلني فدا عينك



زايد يتذكر شيئا ثم يهمس بحزم أبوي: أنا الأسبوع الجاي عندي سفرة لفرنسا

تعال لي أنت هناك





علي بحماس: من جدك؟!!

أبشر.. أبشر أنا اللي باستقبلك في المطار.. بتلاقيني بايت في ديغول من قبلها بليلة





زايد بذات الحزم الأبوي: لا لا تعطل شغلك.. تعال لي في الويكند حقك المهم أشوفك..



علي برجاء لطيف: يبه تكفى جيب مزون معك.. هي قالت لي أمس إنها خلصت امتحاناتها خلاص



زايد يبتسم: أنت عارف إن مزون مستحيل تطلع من الدوحة وكسّاب وراها.. تقول أخاف يحتاج شيء



علي بألم لم يظهر في صوته: ويعني لو أحتاج بيطلب منها أو من غيرها؟!!



زايد بذات طريقة الرد ..الألم المختبئ خلف حزم صوته: المهم هي مرتاحة كذا





*******************





بيت زايد آل كسّاب

أروقة الطابق العلوي الشاسعة والممتدة

الساعة الحادية عشرة ليلا








تقف أمام باب غرفته منذ أكثر من عشر دقائق

ليست المرة الأولى التي تدخل غرفته حتى تعاني هذا التردد الذي يقتلها

فهي تدخل غرفته بشكل يومي

فهي لا ترضى أن ترتبن الخادمات ملابسه أو ملابس علي أو والدها.. فهي من اعتادت على فعل هذه المهمة يوميا...ولكنها كانت ترتب في غرفة خاليا من حضوره

مرت أشهر متطاولة لم يتبادلا فيها حوارا بالمعنى المفهوم للحوار

فكيف بهذا الموضوع الذي جاءته به الليلة؟!!













تنهدت بعمق وهي تستجمع كل قواها الخائرة وكل ثقتها التي توشك على الهرب خوفا من سطوة كسّاب

كساب منذ مراهقته المبكرة وهو حاد الطباع وسريع الغضب.. ولكن شتان بين حدة الطباع مع طيبة قلبه البالغة سابقا.. وحدة الطباع مع شخصيته القاسية المتحفزة الجديدة التي برزت في السنوات الأخيرة





طرقت الباب

وصلها صوته الحازم فيه رنة غضب " نعم؟؟"





ابتلعت ريقها وكانت على وشك الهرب من أمام الباب لولا أنها فُجعت بالباب يُفتح وكسّاب يقف أمامها في فرجة الباب المفتوح بكامل اتساعه

لا ينكر أنه تفاجأ أن تكون هي الطارقة

ولكن تفاجئه لم يظهر لصوته الحازم البارد: "نعم؟!!"







مزون تبتلع ريقها: ممكن أتكلم معك شوي؟!!



همس بذات الصوت البارد الحازم: آسف ماعندي وقت



ثم أغلق الباب في وجهها بصوت مسموع..

وقفت مصدومة لثوانٍ.. ولكن صدمتها تبددت قسرا

فليس هذا أسوأ ما قد يفعله تجاهها!!

فطوال السنوات الماضية مارس ضدها صنوفا مختلفة من التجاهل الموجع

وحين يقرر بعد أشهر أن يخترق أسوار التجاهل ليشعرها أنها قد تكون مخلوق مرئي يسكن على مقربة منه

يكون اختراقه للتجاهل أكثر قسوة من تجاهله.. كلمات جارحة قاسية حادة وقصيرة.. لكن أثرها عميق.. متوحش.. وطويل.. طــويـــل !!














تنهدت وهي تقوم بمحاولة جنونية لم تقم بمثلها مطلقا

فالموضوع الذي تريد محادثته فيه لا يحتمل التأجيل





لذا فتحت الباب ودلفت للداخل..ام تجده في الصالة حيث توقعت أن تجده

فتجاوزت صالته لغرفة نومه بخطوات مترددة وجلة وهي تدفع كل القوة في عروقها المتهاوية وجلا

كان يتمدد على سريره ويقرأ كتابا

حين رأها دخلت.. قفز وهو يهتف بغضب حقيقي: أشلون تجرأين وتسوين كذا؟!!









حاولت أن تهمس بهدوء واثق مصطنع: فيه موضوع مهم أبيك فيه



كسّاب بذات الغضب المحرق: صدق مافي وجهش سحا

بس وش نتوقع مع وحدة تدرس مع الرياجيل كتف بكتف؟!!

وبكرة بتروح تهيت من ديرة لديرة..

إذا جا العيب من أهل العيب ما يكون عيب









شهقت بعنف..شعرت أنها عاجزة عن التنفس..

كانت طعنته مؤلمة.. مؤلمة حقا!!

تكاد تقسم أنها شعرت بملمس نصل طعنته وهي تخترق لحمها بقسوة ثم تشعر بدمها يفور ويتدفق لزجا ساخنا ملتهبا

ولكنها لم تعلم أنه بطعنته آلم نفسه قبل أن يؤلمها.. ونصل طعنته انغرس في روحه المثقلة الموجوعة

وكلماته جرحت رجولته قبل أن تمزق بقايا أنوثتها











تنهدت بعمق موجوع..

التحسس من هذا الموضوع بات ترفا ماعاد يليق بها

ولكن ماذا تفعل.. لا تستطيع منع نفسها من الاحساس بكل هذا الألم

ولكن بما أنها الآن تتألم.. ويستحيل أن تتألم أكثر من هذا

فلن تسمح له أن يثينها عما جاءت من أجله

همست بهدوء كانت روحها تتمزق خلف متاريسه: ماني برادة عليك

تدري ليش؟!!

لأني شعرة من شعر وجهك

هيني.. هيني مثل ماتبي.. لأنك بتهين نفسك معي






أصابته في الصميم

الـــصـــمـــيم

هذا وهي لا تريد الرد عليه فكيف لو كانت سترد؟!!




تقلصت قبضته التي كان يكورها ويعتصرها بينما أكملت مزون حديثها وهي تهمس بذات الثقة:

أنا أدري إني ما أهمك في شيء..وأنا ماني بجاية عشان موضوع يخصني

أنا جايه عشان خالتي عفرا..وأدري إن خالتي لها معزة كبيرة عندك





قاطعها كسّاب بحدة: خالتي عفرا طيبة وبخير وتوني مكلمها

ووريني عرض مقفاش الحين





لم تهتم لطرده له وأكملت: وبنتها بعد طيبة وبخير؟!!



بذات النبرة الحادة: و الله بنتها اللي جابت ذا كله لنفسها
-١٠-
جابت ذا كله لنفسها



شهقت مزون: يعني عاجبك حالها؟!!



عاد كسّاب للجلوس على السرير وهو يهمس ببرود: على قولت الشوام.. اللي من إيده الله يزيده



شهقت مزون بعنف أكبر: حرام عليك



حينها التفت لها كسّاب بحدة: واللي تسويه هي في نفسها مهوب حرام

تدرين بنت خالتش هذي لو ماتت بتكون من أهل جهنم والعياذ بالله





انتفضت مزون بجزع كاسح: أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. استغفر ربك.. استغفر ربك



كسّاب يرفع حاجبا وينزل الآخر: بنت خالتش لو ماتت بتكون منتحرة

والمنتحر وش مصيره عند ربه؟!!





مزون بدأ صوتها بالاهتزاز: حرام عليك.. هذي وحدة مريضة



كسّاب بسخرية: مريضة؟؟

هذا والله مرض البطرة!!

جميلة عشان الله رزقها شوي صحة وجمال.. ماقالت الحمدلله على النعمة.. تبطرت

لو عرفت وش معنى إنها تشتهي الأكل ولا تلاقيه؟؟

لو عاشت في فقر وحاجة؟!!

لو حتى بس شافت الأخبار وشافت الناس اللي عايشين في المجاعات كان عرفت قيمة النعمة اللي كانت فيها قبل تضيع من يدها













مزون بصوت مختنق: حرام عليك كسّاب.. مرض فقدان الشهية مرض نفسي في المقام الأول



كسّاب بذات السخرية:نفسي؟!! حلوة ذي!!

وويش كان سبب المرض النفسي على قولتش في البداية؟!!

لإنها كانت تبي تضعف مع أنها ما كانت متينة أساسا..







مزون بارتجاف: لا مهوب كذا ..وهذا مهوب موضوعنا.. أنت ماتبي تساعدها؟!!



كسّاب بثقة حازمة: أنا عشان خالتي عفرا مستعد أسوي أي شيء

لكن جميلة ما تستاهل

وأظني أني أكثر من مرة قلت لخالتي خل نسفرها برا هي اللي عيت

وخالتي ما تبي وسيط بيني وبينها

عشان كذا اقصري الحكي اللي طال أكثر من اللازم.. وهوينا

ماني بطايق شوفتش قدامي













مزون تنهدت بعمق أكبر والكلمات تخرج من بين شفتيها مرتجفة متقطعة خائفة:

كـــسّـــاب

تكفى عشان خالتي اللي غلاها عندنا كلنا مثل غلا أمي

تكفى...تزوج جميلة.. تكفى










#أنفاس_قطر#

.

.

.

مابعد انتهت عايلة زايد.. باقي واحد ..شخصية مثيرة جدا

بنتعرف عليها بعدين

الحين خطرت ببالي قضية جدل طريفة جدا

هذا الجزء قبل تنزيله قرأه شخصين

أختي الصغيرة وبنت خالتي خوخة

غزالتي الصغيرة على طول ربطت إنه قصة حب بتصير بين مزون ومهاب.. معركة وبعدين حب على طريقة الأفلام الهندية

خوخة قالت مستحيل.. لأنه قالت هذا توقع ظاهر جدا ومستحيل أني أجيبه بهالطريقة المكشوفة ومن أول القصة كذا
نشوف أرائكم ولو أنه هذا كلام سابق لأوانه بكثير.. بس حبيت أحطكم في صورة المعركة اللي صارت بينهم
وعلى فكرة هذا أول وأخر جزء يقرونه قبلكم!!
.
همسة: اشتقت لكم والله العظيم بشكل ما تتخيلونه
-١٢-
كسّاب بثقة حازمة: أنا عشان خالتي عفرا مستعد أسوي أي شيء
لكن جميلة ما تستاهل
وأظني أني أكثر من مرة قلت لخالتي خل نسفرها برا هي اللي عيت
وخالتي ما تبي وسيط بيني وبينها
عشان كذا اقصري الحكي اللي طال أكثر من اللازم.. وهوينا
ماني بطايق شوفتش قدامي


مزون تنهدت بعمق أكبر والكلمات تخرج من بين شفتيها مرتجفة متقطعة خائفة: 
كـــسّـــاب
تكفى عشان خالتي اللي غلاها عندنا كلنا مثل غلا أمي
تكفى...تزوج جميلة.. تكفى


حينها التفت كسّاب لها بحدة.. وهو يقول لها بقسوة من بين أسنانه: نعم؟؟ عيدي ما سمعتش عدل


تراجعت مزون خطوتين وهمست باختناق: تكفى كسّاب.. البنت بتموت
وأنت عارف إن خالتي مستحية وماتبي تثقل على حد عدا أنها مستحرمة سفر جميلة مع حد منكم


كسّاب تنهد بعمق في داخله ثم جلس على سريره وهمس ببرود: أظني الكلام بيننا انتهى
وأتمنى ما تشرفيني بذا الزيارة مرة ثانية


حينها جثت مزون على ركبتيها لتجلس على الأرض جواره وتناولت كفه تقبلها باستجداء محزن مهين
كسّاب انتفض بعنف وهو ينتزع يده بحدة ويقف ليبتعد عنها وذكرى جلسة استجداء مريعة ومؤلمة كان هو بطلها قبل أربع سنوات تعود لذاكرته..
وكأن الذكرى المقيمة في خلايا ذاكرته غادرته أصلا!!
بينما كانت مزون تهمس بوجع حقيقي ورجاء مثقل بالألم: تكفى كسّاب ماعرفنا لنا أم صدق إلا خالتي عفرا
ولو صار لجميلة شيء خالتي بتموت من الحسرة
تزوجها لو تبي تطلقها عقب ما تشافى


كسّاب بذات النبرة الباردة المحايدة: زواج بنية الطلاق أنتي عارفة عدل إنه حرام
والشيء الثاني جميلة طول عمري اعتبرها اختي الصغيرة ومستحيل أفكر فيها زوجة


مزون بوجع: زين والحل؟؟


كسّاب يشعر بصداع فعلي وأعصابه على وشك الانفلات من تزايد الغضب.. الحالة التي لابد أن تصيبه كلما رآى مزون
همس من بين أسنانه: الحل مهوب شغلش.. ويالله.. برا.. اطلعي برا


مزون توجهت للخارج مجبرة.. تجر أذيال خيبتها وحزنها للباب 
ولكن قبل أن تخرج رأته يلتقط شيئا من جيب ثوبه المعلق ثم يخرج لشرفة غرفته
عادت وتبعته وقلبها تتصاعد دقاته رعبا من المشهد الذي تتوقع أنها ستراه بعد أن لمحت الشيء الذي أخرجه من جيبه
كانت عاجزة عن مجرد التصديق
أ يعقل؟!!
أ يــــعــــقـــل؟!!!!


حين وصلت للشرفة وقفت أمام بابها ثم شهقت بكل الرعب:
تدخن كسّاب؟؟ تدخن؟؟
من متى؟؟ وإبي يدري عنك؟؟


كسّاب تفاجأ برؤيتها.. لم يكن يريدها أن تراه بهذا المنظر
رغم كل الألم الذي بعثته في حياته.. ورغم كثرة ما تبادلا الجرح
ولكنه يبقى منظرا يكره الرجل الحر أن تراه محارمه
"تلك الرفيعة اللعينة تنثر دخانها وتتمدد بين شفتيه!!"


همس كسّاب بسخرية مرة وهو يلقي السيجارة على بلاط الشرفة ويدهسها بقدمه العارية دون أن يهتم باللهيب المحرق الذي انطفأ في باطن قدمه :
الحين تبين إبي يحاسبني أنا الرجّال على أني أدخن
وهو ما حاسب البنت اللي سوت أكثر من التدخين بواجد..
احنا بيت القيم عنده مقلوبة..
جات على التدخين يعني؟!!


مزون امتلئت عيناها بالدموع: كسّاب حرام عليك اللي تسويه في نفسك 
أخرتها تدخين.. وش عندك بعد تبي توجعني فيه؟!!


كسّاب يعطيها ظهره وهو يتسند على طرف حاجز الشرفة ويهمس ببرود قارس:
وهو كل شيء في حياتنا كلنا لازم يتعلق فيش يعني؟؟!!
مزون اطلعي برا.. وحياتي مالش دخل فيها
إذا أنتي سويتي اللي في رأسش..تبيني أنا كسّاب ما أسوي اللي في راسي
أدخن ما أدخن مهوب شغلش
لو حتى شفتيني أحرق روحي بغاز.. مهوب شغلش ولا تدخلين


خرجت وهي لا ترى طريقها من عينيها الغارقتين في طوفان من الدموع..
بينما هو زفر بحرارة لاهبة أحرقت صدره قبل تغادر روحه المثقلة بالغضب
وهو يوجه للحاجز الحجري عدة لكمات فرغ فيها بعضا من غضبه.. ولم يشعر بنفسه إلا مع تصاعد الألم في كفيه
ليتناول علبة السجائر ويقذف بها إلى أبعد مدى عبر الشرفة
ليمنع نفسه من تناول سيجارة أخرى
فهو منذ بدأ التدخين في ذلك التاريخ المشؤوم قبل أربع سنوات
لم يكن يدخن إلا حينما يغضب.. ولا يتجاوز ما يدخنه سيجارة واحدة في اليوم..
شبكة ليلاس الثقافية 
وقد تمر أيام كثيرة لا يدخن مطلقا إن لم يعكر مزاجه شيء
كان يستطيع تركها بسهولة.. ولكنه احتفظ بهذه العادة الرديئة حتى يحرق أعصاب والده فقط!!
الذي كلما رأى السجائر معه غضب ليعنفه حينا.. ويعاتبه حينا آخر
ليرد كسّاب عليه ببرود وقح: واحد أخته كابتن طيار.. وش تتوقع منه يسوي؟؟




بعد ذلك بساعة
غرفة مزون


مازالت مستمرة في بكاءها الهستيري
فاليوم كان أكثر من احتمالها بكثير
جميلة أولا ووضعها المتردي
ثم حوار طويل مع كسّاب لأول مرة منذ سنوات
ثم ختامها تدخين كسّاب


أي نهار مريع هذا؟!!
بل أي حياة مريعة هذه؟!!
هاهي أنهت دراسة كرهتها .. وعلى وشك استلام عمل لا تعلم إن كانت ستكرهه أيضا
ولكنها لا تستطيع التراجع
فهي فقدت معنى الفرح في حياتها من أجل أن تحقق حلمها المجنون


ماعاد للتراجع قيمة الآن..
عائلتها تغيرت قبل أربع سنوات.. تغيرت للأبد
كلهم تغيروا.. وكانت هي السبب
عناد كسّاب
-١٣-
الموجوع المطعون في رجولته وثورة شبابه المعتزة في مقابل تشبث والدها بقراره الذي كانت هي من دفعته نحوه دفعا
مع رفض علي الذي لم يكن راضيا مطلقا ولكنه آثر التعبير عن رأيه بهدوء
ثم قرر الصمت والرحيل
حان لها أن تحصد الحصاد المر.. بل هي ظلت تتجرع مرارة هذا الحصاد قبل أن ينضج حتى
وهاهو نضج.. نضج تماما.. فلتتذوقه رويدا رويدا
تشعر أن خلاياها تتمزق ألما وتصرخ يأسا
فهي لم يكن لها أي حياة مطلقا بعيدا عن أسرتها.. هم محور تفكيرها وسعادتها الماضية 
والآن محور آلمها!!!
فأي ألم هذا؟!! يحز في خلاياها وشرايينها وتلافيف عقلها الموجوع المثقل بالوجع والتفكير والهم الذي أضاف لعمرها سنوات كثيرة!!


*******************




قبل أربع سنوات


طرقات خافتة على باب مكتبه في بيته.. يرفع صوته بحنو وهو يتعرف الطارقة من رقة الطرقات: تعالي يأبيش.. ادخلي


رغم أنه في داخله كان يتمنى ألا يراها الآن، فلديه من الهموم الكثير.. هموم ولدّها خبران قصما ظهره تماما.. خبران كانت هي سببهما!!


تدخل بخطوات مترددة.. قلقة وهي تخفي وجهها المحمر عن مدى نظراته.. نظراته التي كانت على أوراق أمامه: اقعدي.. دقيقة وحدة وأفضي نفسي لش

تجلس على المقعد المقابل وهي تدعك كفيها بتوتر.. وتمسح بشكل متكرر أنفها المتفجر احمرارا


يرفع رأسه وهو يبتسم لتتحول ابتسامته لتجهم قلق وهو يقف ليتوجه ناحيتها ويرفع وجهها 
ويهمس بقلق مبطن بالتدليل: وأشفيش يأبيش؟؟ كنتي تبكين.. أفا ياذا العلم.. وش اللي مضايق حبيبة أبيها؟؟


لم يُحمل الأمر أكثر مما يحتمل.. فهي مدللة.. وكثيرا ما تستخدم دموعها للضغط عليه.. فهو يدلل وكساب كان يدلل.. وعلي يدلل.. وخالتها تدلل
فكونها الأصغر التي لم تتمتع بحنان أمها..فجّر حنانهم كلهم عليها


ولكن قلقه كله تفجر حين انفجرت في بكاء هستيري: ما أبي الكلية خلاص.. ما أبيها.. أبي أطلع.. تكفى يبه خلاص


زايد يتنهد بحزم: والسبب؟؟


مزون بين عويلها: ما تشوف كسّاب أشلون تغير.. وأشلون يعاملني.. البيت ما يجيه إلا أخر الليل.. ولو شافني يصد ويقلب وجهه كنه شايف زبالة
تكفى يبه.. خلاص ما أبيها..

زايد يتركها ويعود لمكتبه ليجلس ويقول بكل حزم: ماعاد هو بعلى كيفش
تحملي نتيجة قراراتش.. 
قبل شهر يوم جيتيني.. وقلتي لي أبي طيران... قلت لش هذا تخصص ما يدخلونه بنات الحمايل ولا ينفع لش..
حاولت أقنعش بأي تخصص ثاني بس أنتي ما رضيتي
كسّاب عصب وكسّر الدنيا.. وحتى علي بين لش إنه رافض نهائيا تدخلين ذا التخصص
ومع كذا أصريتي.. وقعدتي تبكين عندي.. أنت وعدتني أنت وعدتني..
خليتي وعدي لش سيف على رقبتي
زعلت خلق الله عشانش
خليتيني قطيت وجهي عند الوزراء والشيوخ عشان أدخلش الكلية بشروطش
وكل واحد منهم أكلمه يقول لي: يازايد من جدك تبي تدخل بنتك طيران
لكني بديت رغبتش على كل شيء.. حتى على قناعاتي أنا


ثم انفجر زايد وهو يقف بعنف و براكينه المكتومة منذ أكثر من شهر تثور وتثور:
أثرش شايفة السالفة لعبة من ألعابش.. تلعبين فيها شوي وتقطينها
تبين تراجعين الحين عشان كسّاب.. وينش منه وهو مرة يترجاش ومرة يعصب عليش مرة؟!! .. ماكسر خاطرش؟!!.. هان عليش تسوين فيه كذا؟؟..

وإلا يمكن قلتي لنفسش أنا دلوعتهم.. يوم ويومين وينسون
كنش ما تعرفين كسّاب وعناده يعني...
كسّاب لو مابعد دريتي سجل في جامعة في أمريكا خلاص.. وبيروح عقب شهر بالكثير
وعلي طلب نقله لمكاتب التمثيل الدبلوماسي الخارجي


خلاص يامزون اللي انكسر ما يتصلح...وطريقش بتكملينه لين آخره.. برضاش، غصبا عنش بتكملينه..
أنا ما خسرت ذا كله عشان لحظة طيش منش وعناد... مثل ما أتخذتي ذا القرار وأنتي تقولين مقتنعة... تحملي نتيجة اقتناعش..
ويا ويلش لو ما نجحتي وتفوقتي بعد.. والله لا تشوفين شيء عمرش ماشفتيه
وإن قد تشوفين وجه زايد الثاني اللي مابعد شفتيه



زايد أنهي سيل كلماته المتفجر.. وخرج..
كان يريد الاختلاء بنفسه.. لأول مرة ينفجر في صغيرته هكذا.. ولكنه وصل منتهاه.. بل أقصى منتهاه
أ هكذا تفعل به.. وبإبنائه.. ثم تقول تراجعت.. لا أريد..

" ماعاد الأمر بيدك يا مزون.. ماعاد بيدك
فكل شيء خرج عن السيطرة من أجل تحقيق رغبتك المجنونة
حققيها إذن!!
حققيها.. 
تذوقي ما كسرنا بقلوب أخوتكِ من أجله
اجعلي تضحيتي بهم من أجلك تستحق"



انهارت مزون في بكاء أعمق وكلمات والدها تنزل فوق رأسها كالصواعق...
كيف تعيش من غيرهم.. كيف يرحلون ويتركونها.. كيف؟؟!!
كيف تصمد من دون فوضاهم المرحة المليئة بالحياة حولها؟!!
كيف تعيش دون عبق رجولتهم الحانية يحتويها؟!
كيف ستعيش في هذا القصر الضخم مع الأطلال والخيالات الموحشة؟!!
أ تهجر البيت لتسكن مع خالتها؟! وزايد ؟؟ زايد الذي ضحى بكل شيء من أجلها.. لمن تتركه؟؟ لمن؟؟
ستبقى من أجله.. ليتجرعا الحزن والوحدة سويا!!



كان هذا قبل أربع سنوات..
وكم تغيرت خلال هذه السنوات الأربع
من فتاة عنيدة مدللة خالية من الهم.. لأنثى مكسورة على كتفيها أطنان من الهموم..
قبل ذلك لم تكن حتى تلحظ تواضع
-١٤-
جمالها.. كانت ترى نفسها جميلة
فروحها محاطة بالاحتواء والود وكل ذلك كان ينعكس على نفسيتها وصفاء روحها
ولكنها الآن أصبحت ترى نفسها خالية من أي حسن.. وكأن تمّزق روحها ويأس مشاعرها انعكس على صفحة وجهها البائس..
وكانت كلما ازدادت حزنا.. كلما ازدادت في دراستها تفوقا..
مثل بعض ممن يعانون من السمنة.. كلما إزداد تاثره من سمنته.. كلما ازداد أكله وكانه بذلك يعاقب نفسه..
وهي كانت تعاقب نفسها... 
كانت تدرس وهي تكره الكتب.. وتود لو تمزقها بأسنانها
كانت تتدرب على قمرة القيادة وهي تود لو تحطم كل هذه الأزرار والأضاءات وتنتزع كل هذه الأسلاك
كانت تؤدي الامتحانات كأفضل ما يكون وهي تشعر أنها على وشك التقيء على ورقة الامتحان


" أ لم أضحي بالجميع من أجل هذه الدراسة التي أصبحت تثير غثياني؟!!
إذن لأزدد غثيانا.. 
لأزدد غثيانا!!"





****************






اليوم التالي يوم أحد
بيت آخر في الدوحة 
العصر



في صالة البيت السفلية تجلس بعد أن صلت العصر قبل أكثر من نصف ساعة وأمامها قهوة وفوالة العصر المعتادة
تحكم لف جلالها حول وجهها.. فهي وإن كانت لا تلبس برقعها في بيتها حين لا يكون عندها زائرات
فإنها اعتادت ألا تكشف شعرها مطلقا ودائما جلالها ملفوف حول رأسها بإحكام 
رغم أنها وهي في الخامسة والأربعين مازال شعرها جميلا بلونه الكستنائي الذي ناسب الحناء التي لا تستغني عن وضعها
ولم يكن شعرها هو الشيء الوحيد الذي مازال جميلا.. فهي بمجمل تفاصيلها مازالت رائعة الجمال
ولكن لم يعد لملامحها ذات التحدي الموجع الذي كان يلسع القلوب ، فالأمومة ومرور السنوات أكسبا ملامحها رقة دافئة
وإن كانت روح التحدي مازالت تقبع داخل تلك المهرة التي ما أخضعها رجل يوما حتى مع زواجها مرتين..
ولكن روح التحدي الشرسة الوثابة أورثتها مضاعفة أضعافا كثيرة لسواها!!!!!



"يمه.. يمه.. شفتي جوالي؟!!"


همست بهدوء وهي ترفع عينيها للشابة التي تنزل الدرج في غلالة جلابية من حرير سماوي: 
زين قولي السلام عليكم أول.. داخلة على مسلمين مهوب يهود


ابتسمت الشابة وهي تصل وتطبع قبلتها على رأس والدتها وتهمس من قرب بصوتها الحريري ببحته المستحيلة: السلام على أحلى مزنة في تاريخ البشرية


كان صوتها خليطا مستحيلا من برودة الفولاذ وقسوته.. ونعومة الحرير وانسيابيته.. 
صوت تعجز عن تصنيفه.. هل هو أشبه بتغريد العصافير؟!! أم بطبول الحرب؟!!
ولكن المؤكد أن تأثيره هو خليط منهما.. سكون العصافير وتدمير الحروب
حين تتكلم العيون والآذان تتجه فورا لهمسها وكأن به سحرا يجبر الآذان على البحث عنه للاستزادة منه.. أو الهرب منه!!


همست مزنة بذات الهدوء: جوالش أنا خذته أكلم فيه امهاب.. عشان شحني فضا وحطيت تلفوني على الشاحن


الشابة بعذوبة صوتها المستحيل: الجوال وراعيته فدوتن لعيون أم امهاب


ابتسمت مزنة : ماذا بعندش وأنتي نازلة تصايحين كنش مفلوجة


الشابة بابتسامة: خلاص عديها يا مزنة
ثم أردفت وهي تتلفت: وين جدي.. مابعد جابه سليم من المسجد؟!!


مزنة بحزم هادئ: جاء قبل شوي ودخل ينسدح
الحين اقعدي خل أتكلم معش وعقب روحي جيبيه من غرفته


الشابة تعقد حاجبيها مستفسرة: عسى ماشر؟؟


مزنة بذات الحزم الهادئ: الناس اللي يتنون ردنا.. وش أقول لهم؟؟


الشابة برنة سخرية: ليه أنتي مابعد رديتي عليهم؟!!


مزنة بنبرة بها بعض غضب: ليه أنتي رديتي علي عشان أرد عليهم


تقف وتهز كتفيها باستهزاء: طبعا مرفوض.. وخلني أروح أجيب جدي أحسن من ذا السيرة


حينها وقفت مزنة وأمسكت عضد ابنتها بقوة وهمست بغضب حازم:
اقعدي لين أكمل كلامي ياقليلة الحيا.. 
بتروحين وأنا عادني أحكي يا للي ما تستحين؟!!


حينها التفتت الشابة لوالداتها بحدة ولهيب آسر يشتعل في موج العينين الأسطوريتين..
الليل الموغل في السواد والسحر والتعذيب.. الذي تقف أهدابها حوله كرماح متراصّة من سواد صقيل :
أنا يمه اللي ما أستحي؟!!


تنهدت مزنة وهي تحاول السيطرة على غضبها فهي تعرف أن ابنتها تشبهها 
ولو غضبت فيستحيل أن تكمل معها الحديث الذي لابد من انهاءه
وبما أنها الأم ومن يجب أن يمسك بزمام الأمور خففت حدة صوتها وهي تدفع في صوتها بعض الحنان المدروس:
يأمش ما يصير يشب شبيبش كل ما جبنا ذا الطاري
اقعدي يأمش.. اقعدي الله يهداش


تنهدت الشابة وهي تعاود الجلوس رغم أنها لا تريد الجلوس إطلاقا: 
يايمه قلت لش من أول يوم ما أبيه


تنهدت مزنة: وأنا قلت لش فكري


أجابت بنفاذ صبر: وأنا قلت لش ما أبي أفكر.. وحسبت الموضوع انتهى خلاص


مزنة تعاود التنهد للمرة الالف حتى لا يتفجر غضبها الذي تحاول كتمه:
أنتي يا بنتي ماعادش بصغيرة قدش بتكملين 26 سنة 
احمدي ربش عاده يجيش خطّاب..


حينها رفعت الشابة حاجبا وأنزلت الآخر وهي تهمس بغرور حقيقي غير مصطنع إطلاقا:
هم اللي يحمدون ربهم إنه كان لهم شرف المحاولة
يمه.. من هي مثلي المفروض تاخذ ملك.. مهوب ذا البزارين التافهين اللي الواحد منهم مايستاهل ظفر رجلي


والدتها بغيظ: تراش مسختيها.
-١٥-
إذا على شوي الزين اللي عندش.. ترا المزايين واجد..

الشابة بسخرية: شوي الزين؟!!!
ثم أردفت بثقة: يمه حلفتش بالله قد شفتي من هي أحلى مني في الحقيقة وإلا حتى في التلفزيون
يمه ذا الزين كله حرام يضيع على واحد تافه إمعه
أكيد الله سبحانه ماعطاني ذا الزين وذا الذكاء كله عبث.. أكيد له حكمة


تنهدت مزنة للمرة المليون: يأمش الزين من زانت أفعاله
والرجّال اللي جايش رجّال فيه خير.. نقيب في الجيش ومن ناس معروفين وعندهم خير
ومهوب صغير في السن.. عدا الثلاثين


الشابة بذات السخرية: يعني آخرته طار وإلا وقع جندي..
وخير ياطير 30 سنة؟!!.. بزر بعد
ويوم إنه عاجبش كذا.. عطيه بنتش اللي ما منها فود

مزنة بغضب: عيب عليش ذا الكلام
وضحى مهيب بايرة..تقطين عليها اللي ماتبينهم.. بيجيها نصيبها..لكن أنتي الكبيرة
وأم الرجّال جايتش أنتي على الوصف.. جعل أمحق وصف وزين ماعينا من وراه إلا يباس رأسش


الشابة وقفت وهي تتنهد لتنهي الموضوع: يمه فديتش خلاص جعلني الأولة..
تأخرت على جدي


ثم تركت والدتها غارقة في غضبها وابتعدت لناحية أخرى من البيت حتى وصلت لغرفة لها بابان
باب لداخل البيت وباب يفتح على حوش المنزل من ناحية مجلس الرجال
حركت مزلاجا يقفل الباب من ناحيتهم وفتحت الباب فتحة صغيرة جدا وهتفت بأمر حازم: سليم اطلع روح المجلس
بقيت واقفة خارج الباب حتى سمعت صوت الباب الآخر يقفل
حينها دخلت وأغلقت الباب المتوجه للخارج
ثم توجهت لسرير جدها النائم
جلست بجواره وهي تنظر لوجهه الأسمر المتغضن بحنان بالغ
جدها هو الوحيد الذي يذيب خلايا قلبها.. معه تتحلل من عنادها وتسلطها وغرورها 
مدت يدها تمسح على جبينه المحفور بتجاعيد غائرة 
تتمنى لو أستطاعت أن تمسح هذه التجاعيد علها حين تمسحها تطيل في عمره
فأكثر ما تخشاه في هذه الحياة أن تكون حياة خالية من وجود هذا الشيخ


" ريحة يدش المعطرة ما تخفاني"
همسه الموغل في الشيخوخة وصل طيات روحها قبل أن يصل أذنيها


ابتسمت بحنان ومرح: ماشاء الله عليك يبه.. عديت التسعين.. وعادك تشم كذا


ابتسم وهو يفتح عينيه الغائرتين في تجاويفهما ليكشف عن فم شبه خال من الأسنان: ول عليش.. كلمة نضول


انحنت لتقبل يده الممددة على صدره وتهمس من قرب: جعل عمرك طويل.. وجعلني ما أذوق حزنك


مد يده لتساعده على الجلوس وهو يهمس بما يشبه اليقين: اللي بتذوقينه يأبيش

انتفضت بجزع حقيقي وهي تمد يدها لتعدل من جلوسه وتحتضن كتفيه ثم تقبل عضده وتهمس:
تكفى ما تقول كذا.. ما تدري يمكن يكون عمرك أطول من عمري
شبكة ليلاس الثقافية 
حينها كان هو من انتفض بجزع بعمق شيخوخته: جعل ربي ما يفجعني في حدن منكم.. مثلي يا أبيش يقول يالله حسن الخاتمة
قد الموت أحسن لي من الحياة.. 
ماعاد باقن من صفتي حد.. (أي أن أبناء جيلي كلهم ماتوا)

حينها ابتسمت بشفافية: لأنه أنت نادر يبه.. والنادر ما يقارن نفسه بصفته ولا غيرهم


همس بهدوء عميق: ماعلى الموت نادر..


يضايقها هذا الموضوع كثيرا.. تكره مجرد التفكير فيه.. ولكنه بات موضوعه المفضل.. مشغول بالموت وانتظاره بل وتمنيه..
مشتاق للقاء ربه وإنهاء رحلة هذه الحياة التي طالت كثيرا..
ولكنها تريده جوارها.. ولا تعرف للحياة معنى بدونه.. هو الأحب إلى قلبها 
تحبه أكثر حتى من والدتها وأشقائها.. بل حبها له لا حدود له.. تفضله على كل شيء في العالم
ومستعدة للتضحية بكل شيء وأي شيء من أجله وحده


همست بشبح ابتسامة: أفا ياجابر تبي تروح ما زوجتني..لازم تزوجني أول..


همس بضعف باسم: والله يأبيش مابقى من هل ذا المقطر حد ماخطبش.. صبيهم وشيبتهم.. صاحيهم وخبلهم .. (المقطر: كلمة تستخدم لحي متجاور من الخيام)


ابتسمت بعذوبة لتكشف الشفتان المتوردتان المثيرتان عن صف أسنان استثنائي في صفائه وصفوفه: شأسوي يبه لحد الحين ماجاء الرجّال اللي في بالي

ابتسم الجد جابر ثم قال بجدية: أنتي يأبيش ما تأخذين رجّال.. تأخذين خروف

قطبت حاجبيها بغضب عاتب: هذا قدري عندك يبه؟!!.. تزوجني خروف؟!!


عاود الابتسام: يأبيش أنتي أصلا رجّال.. واللي مثلش مايقدر يعيش معها إلا خروف تعقد حبلها في رقبته وتقوده..


هذه المرة قطبت حاجبيها بحزن.. لو كان من قال لها هذا الكلام أحد سواه لم تكن لتقبل حتى حرفا واحدا.. وكانت أشعلتها حربا شعواء:
كذا يبه.. هذا وأنت الغالي عندي!!!

لم يعلق على كلامها.. بل واصل كلامه بنبرة منطقية: تدرين يأبيش.. أنتي كنش أمش.. 
من غير حقران في أبيش ولا في أب امهاب الله يرحمهم اثنينتهم.. لكن أمش كانت أرجل منهم.. والثنين كانت مزنة شايخة عليهم
والواحد منهم مايقدر يخطي لها كلمة.. ولولا أنهم كذا أو ماكانوا صبروا عليها.. وأنتي مثلها .. اللي بتأخذينه إذا ماشختي عليه.. منتو بعايشين سوا


قطبت جبينها: مابي واحد أشيخ عليه.. أبي لي رجّال صدق.. رجّال يهز المجالس
وأمي لو كان لقت رجّال مثله ماكان عيّت منه..الله يرحم أبي وعمي أبو امهاب

تناول غترته من جواره بيد مرتعشة ليضعها على رأسه ويلفها حول وجهه ويهمس بهدوء
-١٦-
أمش جاها الرجال اللي يهز المجالس بدل المرة مرتين وعيت منه.. وأنتي كنش إياها
والرجّال اللي جايش ذا الحين مافيه قصور..


همست بغضب: يبه لا تقارنني كل شوي بأمي.. والرجّال اللي جايني ما أبيه.. مايملأ عيني..


مد يده يبحث عن عصاه ليتوكأ عليها وهمس بذات الهدوء العميق: وش اللي يملأ عينش يا بنت مزنة؟؟


همست وهي تمد يدها لتسنده وتقوده لصالة البيت ليتناول قهوته مع والدتها.. همست بما يشبه الحلم: أبي رجّال صدق.. رجّال بمعنى الكلمة
ولو مالقيته الأحسن أقعد في بيت هلي



**
جامعة قطر
بوابة كلية العلوم بنات
الساعة الرابعة عصرا



شابتان متسربلتان بالسواد تقفان قريبا من الباب من الداخل
صبا المشاعر.. وحزن في القلب.. كلاهما تطوي حزنا ما في قلبها الغض!!
حزن لم تكن هي سببه.. ولكنها نشأت فيه!!
تحاول أن تنحيه في نقطة عميقة من أعمق خفاياها..تنساه أو تتناساه!!
ولكنه لا يلبث أن يطل برأسه القميء!!



تهمس أحداهما للأخرى: وضوّح من اللي بيجي يأخذش.. لو السواق بأروح معش


تهمس وضحى بهدوء عذب: مالش لوا اشعيّع.. بيجيني تميم..


تبتسم شُعاع بخبث مرح: أحسن بأروح معش.. ماتقولين إن تميم يدور عروس.. هذا أنا موجودة.. خسارة يروح عليّ ذا المزيون


نظرت وضحى لشعاع بشكل مباشر وهمست بنبرة عتب مقصودة: وأنتي جد بتوافقين على تميم؟؟


حينها ابتلعت شعاع ريقها بحرج: تميم من غير قصور فيه.. بس أنتي عارفة إني أمزح..


هزت وضحى كتفيها بألم: رجاءً شعاع.. تميم مهوب موضوع تمزحين فيه


شعاع بحرج حقيقي: خلاص وضحى.. أنتي عارفة إنه تميم ولد خالي.. ومثل إخي وأنا ما أقصد شيء


وضحى وهي تنظر لشيء غير مرئي: أو حتى تقصدين.. ما أقدر ألومش..


شعاع تحاول تغيير دفة الحديث والتغطية على حرجها: أشرايكم تسيرون علينا الليلة..


وضحى بشبح ابتسامة باهتة: ماله داعي.. أنتي عارفة إنه أختي وأختش ما يتواطنون.. والقعدة تصير مملة وأختش تحاول تستفز أختي


شعاع بعتب: وأنتي ليش تحطينها برأس جوزا.. كأن أختش هي اللي ملاك ماتسوي شيء


وضحى بذات الابتسامة الباهتة: صحيح أختي عيوبها واجد.. وأنا ما أدافع عنها
لكن إذا جينا للحق.. تراها تكبر عقلها واجد على خبال أختش
ترا أختي ما تنغلب في الكلام وسهل عليها تخلي جوزا ماتسوى بيزة.. بس هي تحشم عمتي


شعاع بابتسامة: زين خلينا منهم.. جد وضحى وبدون زعل وبصراحة وبيني وبينش.. أنتي وأختش علاقتكم ببعض طبيعية.. مثل الخوات العاديات؟؟


هزت وضحى كتفيها وهمست بطبيعية: لا..


شعاع باستغراب: لا.. بكل بساطة..؟!!


وضحى تبتسم: ليه أنتي شايفة (كاسرة) أخت عادية.. عشان تكون علاقتي فيها عادية؟؟


شعاع تبتسم: بصراحة كاسرة توصف بأي وصف إلا أنها عادية .. بداية من اسمها لشكلها لشخصيتها
تدرين وأنا صغيرة كنت متوقعة إن كاسرة لما تكبر بتغير اسمها.. استغربت اعتزازها فيه


وضحى بهمس: كاسرة اسمها لابسها تمام.. كاسرة وهي كاسرة.. أمي لما سمتها ذا الاسم كانت قاصدته تبيها تكون كاسرة في زينها وشخصيتها
وياسبحان الله.. صارت اسم على مسمى


شعاع بتساؤل: زين وليش علاقتش فيها غير عادية؟؟


وضحى تتنهد وهي تنظر للبعيد: احساس صعب إنك تكون موجود جنب شخص نوره يخليك غير مرئي.. يخليك مخلوق حقير جنبه..
مهما حاولت تبرز نفسك.. محاولاتك كلها تضيع


شعاع تنتفض بجزع: وضحى أنتي مافيش قصور عشان تقللين من قدر نفسش


وضحى تبتسم الابتسامة الباهتة اياها: زين أنا ماعلي قصور.. وكاسرة شتقولين عليها؟؟


شعاع بصراحة باسمة: كاسرة خليها برا المقارنات عشان ما نتحطم كلنا.. قارني نفسش فيني مثلا وانبسطي


وضحى بشبح ابتسامة لا لون لها : بس المقارنات غصبن عني وعنش تحضر
من وحن صغار والنسوان يقولون قدامي لأمي: أنتي اللي عندش من الزين كله عطيتيه كاسرة وزود.. ووضيحى ماخليتو لها شيء
وحتى بعيد عن الشكل لو عزيت نفسي أنه أساسا مستحيل أي وحدة مهما كانت حلوة إنها تقارن نفسها في كاسرة 
كاسرة شخصيتها القوية ألغت وجودي .. أحيان كثيرة أحسهم ينسون أني في البيت في الوقت اللي هي لو غابت خمس دقايق يقلبون البيت عليها



كم هو مر هذا الإحساس الذي تجرعته وضحى منذ طفولتها!!
إحساسها أنها مخلوق زائد العدد في أسرتها.. مخلوق مجرد من الأهمية والمميزات
شبح إنسان يعيش على أطراف حياتهم
ورغم هذا لكنها لم تكن تكره كاسرة مطلقا.. بل كانت مولعة بها في ذاتها
ولكن مرارة الإحساس جاءت لأنها أصبحت تشعر مع مرور السنوات أنها مخلوق هلامي بلا شخصية 
وفي الوقت الذي كانت كاسرة تزداد جمالا وتسلطا كانت هي تزداد بهوتا وضعفا
وكأن كاسرة تمتص منها كل شيء.. تقتات منها لتبرز هي..
لذا كانت علاقتهما مرتبكة غريبة ملتبسة.. بالتأكيد الحب موجود بينهما لأن هذه هي الفطرة السوية .. ولكن للحب ألوان عجيبة مجهولة وعصية على الفهم والتفسير
فكاسرة لا تفتأ تستهين بها وهي تتقبل الاستهانة بصمت.. لأنها تشعر أنها ليست 
ندا لكاسرة ولا بأي شكل من الأشكال
تشعر أنها جوارها غير مرئية.. 
"فمن سيرى حصاة
-١٧-
معتمة بجوار شمس شديدة الإشراق؟!!!"
رغم أنها هذا غير صحيح.. غير صحيح!!
فوضحى لها شخصية مثيرة لها اعتباريتها الكبيرة داخل أسرتها
ولكن هي لا تشعر بذلك.. ووجود كاسرة جوارها يشعرها بالضآلة!!



******************


مزنة تتحادث في الهاتف وحرجها يتصاعد من الطرف الثاني
بينما كاسرة تجلس بجوار جدها تسكب له القهوة وإبتسامة مرحة ترتسم بإثارة على شفتيها وهي ترى حرج والدتها من الطرف الآخر.. ومحاولتها لإيجاد أعذار ليست مطلقا الحقيقة


أنهت مزنة اتصالها لتلتفت إلى كاسرة بغضب: عاجبش كذا؟؟ خليتني في نص هدومي من المرة.. فشلتيني فيها وهي تقول ولدي وش عيبه تردونه
وأنا أتحجج لين عجزت.. كله من خبالش


حينها انفجرت كاسرة في ضحكات عذبة: شكلش يمه كان تحفة.. بس احمدي ربش إنها اتصلت قبل تجي.. عشان ما تنحرجين منها فيس تو فيس


مزنة بغيظ: أحر ماعندي أبرد ماعندها... والله إن الرجّال ماعليه كلام.. ضيعتيه من يدش كذا..


كاسرة مازالت تضحك: المركب اللي تودي..


حينها همس الجد بإبتسامة ولّدّها رنين ضحكات كاسرة التي تصب في روحه لتنبئه أن هذا العالم بخير ما دامت تعمره ضحكاتها الغالية:
خليها يامزنة.. بنتي ذي مهرة.. والمهرة ما تغصب


مزنة بغضب: ماحد مقوي رأسها إلا أنت.. كل ماجاها رجّال فيه خير عيت منه بدون سبب


جابر بهدوء عميق: مثل ما قويت رأسش قدامها.. وافقتش يوم عيتي من زايد


حينها ضحكت مزنة: يبه ما سجيت.. ياه يبه ذاك زمان مضى


جابر بذات هدوءه العميق: والله يأبيش كل ما أشوفه إلى ذا الحين.. يطري علي أشلون أسود وجهه يوم رديته.. ما يستاهل أبو كسّاب من يرده.. 
أنا أشهد إنه قرم.. وإنه واصل.. ما يسج منا ياشيبانه


حينها قاطعت كاسرة الحديث بإعجاب: بس يمه من جدش ومع احترامي لش.. فيه وحدة في كامل قواها العقلية.. تعيي من زايد آل كساب.. هذا مدرسة اقتصادية ذا الحين
عــبــقـــري!!


ابتسمت مزنة بروح خالية.. فما مضى مضى بالنسبة لها: يأمش زايد الله يهداه كان شديد بزيادة.. 
يوم كانوا جيراننا كان مجنني.. لا تطلعين.. لا تدخلين
وحتى الضرب ضربني.. وأنا إبي اللي هو إبي عمره ما مد يده علي
ثم أردفت بضحكة: لو أنا خذت زايد كان ذبحني .. أو أنا ذبحته


همست كاسرة باستفسار: تعرفين مرته الحين؟؟


مزنة بتأثر: وسمية بنت محمد.. الله يرحمها ماتت شباب.. وخلت عيالها بزارين
ثم أردفت بإعجاب: بس أنا أشهد إن خالتهم عفرا ماقصرت معهم.. حاضتهم كنهم عيالها.. (حاضى=أهتم بـ)
ثم أكملت بتاثر: الله يشافي لها بنيتها.. عين ما ذكرت الله.. شفت بنتها مرة وحدة قبل سنتين في عرس.. وقلت لها: ماتزوجينا ذا المزيونة..
هي ضحكت يا حليلها وقالت: امهاب ما ينرد.. بس بنتي عادها صغيرة..


ثم أردفت كاسرة بخبث: زين وليش ما خطبتي له بنت زايد بنفسها..


ضحكت مزنة: تبين امهاب ينجلط.. من يوم دخلت بنت زايد كلية الطيران.. وهو مولع ومحترق من زايد وبنته..
بس بصراحة إن زايد استخف على ذا الخبال.. يفضح روحه كذا..


كاسرة بإعجاب عميق: إلا رجّال بمعنى الكلمة.. اللي هو مقتنع فيه يسويه وما عليه من حد..
خلها تدخل كلية الطيران.. وتحرق أعصاب ولدش إللي يحسب إن مافيه طيارين غيره...


***




إنه مساء الدوحة...نقرات ناعمة خافتة على الباب.. ثم تنهدت وضحى بألم وهي تتذكر وتضغط زرا بجوار الباب..
حينها فتح الباب لها شاب طويل قوي البنية وعلى وجهه الوسيم ترتسم ابتسامة دافئة حنونة وأشار لها أن تدخل بعلامة ترحيبية
فهذا الزر عند بابه يشيع ضوءا في غرفته ليعلمه أن هناك من يطرق بابه
أشارت له وهي تبتسم: ليش ماتعشيت؟؟


ابتسم وهو يشير لجسده القوي: لازمني حمية شوي.. زايد وزني


حينها ضحكت وهي تشير وتهمس بصوت مسموع: إذا أنت زايد وزنك ..وش نقول على امهاب؟؟


حينها قاطعهما صوت قوي ومرح يدلف مع الباب المفتوح: سامع اسمي الله لا يبيح منكم


حينها دخل ليغمر المكان بإشعاع حضوره المختلف
كان أطول من تميم وأعرض ورغم أنه لم يكن وسيما بالمعنى المتعارف عليه
ولكن له حضورا استثنائيا يوحي بالرهبة والحنان في ذات الوقت ..
هاهو أصبح في الثلاثين: مسؤولياته تشغله عن كل شيء.. مسافر دائما
ولكن أسرته ترتحل معه وفي ذاكرته منذ أن تحمل مسؤوليتها بعد وفاة زوج أمه قبل أكثر من خمسة عشر عاما
وكانت حينها وضحى في عمر السابعة وتميم في التاسعة وكاسرة في الحادية عشرة


ابتسمت وضحى: ماقلنا شيء غلط نقول تبي لك شوي ريجيم..
همست بالجملة وهي تشير بها في ذات الوقت
هكذا اعتادت أن تتكلم في وجود تميم حتى لو لم تكن توجه الحديث له
كانت تهتم كثيرا لإشراكه معهم.. لذا كانت من أصرت منذ بلغت الرابعة عشرة على تعلم لغة الإشارة على أصولها
قد يكون جميع أهل البيت لديهم القدرة على التفاهم الجيد مع تميم.. لكن هي لديها قدرة على التحادث معه مطولا بلغته الخاصة
فهي كانت من لاحظت أن تميما بدأ بالتباعد في عوالمه الخاصة لأنه لا يجد من يتحدث معه بعيدا عن المدرسة
حينها أحبت أن تصنع شيئا لا تستطيع كاسرة التغلب عليها
-١٨-
فيه وفي ذات الوقت تحتفظ بقرب تميم منها
لذا تعلمت لغة الإشارة على يد معلمة خاصة وتعبت كثيرا وهي تتعلمها لتتفاهم مع تميم
رغم أن تميما رفض بداية أن تتعلم هذه اللغة من أجله..
ولكنه فيما بعد قدّر كثيرا جميلها هذه وهو يجد من يستطيع أن يتحاور معه بطلاقة..
وبدأت وضحى تفكر جديا حين تنهي دراستها أن تعمل في مجال تعليم الصم والبكم..


"وضحى وتميم عالمان زاخران مثقلان بالعمق والغموض.. "


تميم العالم المجهول المغلق على أفكاره.. أنهى الثانوية في مدرسة التربية السمعية بمجموع كبير ولكنه لم يستطع دخول الجامعة
لأنه لا توجد هنا جامعة لمن هم في مثل حالته..
شكّل هذا الأمر له احباطا كبيرا وحزنا أكبر..
أن تعلم أنك قد تكون أفضل من مئات ممن دخلوا الجامعات
ولكن لأنهم يمتلكون حاسة لا تمتلكها تكون فرصهم في الحياة والدراسة أفضل
ولكن هذا الاحباط لم يوقفه..فبعد عدة أشهر بدأ تميم يعلم نفسه ذاتيا على تفكيك أجهزة الحاسوب مستعينا ببرامج للتعليم الذاتي على الانترنت

هذا العالم جذبه وسحره.. مع هذه الحواسيب والبرمجيات لم يكن يحتاج للحديث أو لمن يسمعه
تكفيه هذه العلاقة التي صنعها بأنامله الذهبية.. علاقة حساسة ثرية ومفعمة بالتفاهم والود
وكأن هذه الأجهزة تستجيب لرقة أنامله.. لتفكك ماهو عصي منها وتصلح ما استعصى على الإصلاح


وقبل عامين أنشأ محله الخاص.. وأصبحت له سمعته الرائعة في السوق
ولأن هذا العصر هو عصر الحواسيب بالفعل.. فعمله كان مزدهرا حقا
ومدخوله الشهري يتجاوز راتب وزيرين معا


ولكن...
هذه الروح الوثابة المسجونة بين أضلاع صدره كانت تتوق للانعتاق
يشعر أن علاقته بالحواسيب باتت أقوى من علاقته بالبشر
فهذه الآلات صامتة وحساسة.. مثله تماما
ولكنه يتوق لروح إنسانية تحاوره وتتمازج معه.. تعايش معه همومه وأفكاره وآماله وطموحاته

لـــــذا
قرر أن يتزوج رغم صِغر سنه!!

ليصتدم بمشكلة أخرى:
"والـــدته!!"


فهو يريد أن يتزوج من فتاة تكون بنفس حالته
يريد شريكة يتفاهم معها بلغته التي يستطيع التعبير بها
يريدها أن تكون لغتها أيضا حتى يكون تعبيرهما على ذات المستوى من العمق والإحساس
لم يرد للمرأة التي تشاركه الحياة أن تشعره بالنقص وأنها تتفوق عليه
وأنها حين تحادثه بالإشارة فهي تتنازل من عليائها لكي تصل لمستوى فكره
كانت هذه الفكرة تؤذيه وتؤذي كرامته واعتزازه بذكائه وقدراته
ولكن مزنة كانت ترفض فكرة بشكل قاطع أن يتزوج من بكماء صماء مثله!!
فهي تفكر بالمرحلة الأبعد:
"أحفادها!!"

الأطفال حين ينشأون يتعلمون من أبويهم
وتميم وزوجته المفترضة قد تحكم ظروفهما مستقبلا أن يعيشا في بيت مستقل
فلو بكى الطفل من الذي سيسمعه
ثم حين ينشأ.. كيف سيتعلم اللغة ؟؟ من أبوين أبكمين؟!!
عدا أنها تخشى أن يكون للوراثة دورا فيؤدي ذلك إلى أطفال يعانون ذات الإعاقة
وكانت تعلم يقينا أن ابنها مع إعاقته سيجد من هي صحيحة الحواس لتوافق عليه
فهو شاب بكامل فتوته وصحته ووسامته ومقتدر جدا.. وتعلم أن نقطة الاقتدار وحدها تشكل إغراء يحسن فرصه في الزواج
فلماذا يتزوج من بكماء صماء؟!!!


***************


بيت آخر في الدوحة
بيت فاضل بن عبدالرحمن زوج أم عبدالرحمن عمة أبناء مزنة
الطابق العلوي
غرفة شُعاع




وجه ودود حنون يطل مع الباب: بنات تبون شيء قدام أرقد؟؟


الصوتان معا: لا يمه فديتش..
ثم أردفت شعاع باحترام: حن أصلا يمه بعد شوي بنصلي قيامنا وبنام بعد


ثم أردفت الأخرى بمرح: شفتي يمه الطردة المحترمة.. تبي تعلمني إني طولت السهرة عندها وأقوم أفارق أحسن


ابتسمت أم عبدالرحمن: روحي لولدش يأمش لا يتوعا ويتروع وهو بروحه


رفعت جوزاء جهازا في يدها أشبه بشاشة صغيرة وهمست برقة: الجهاز شغال عنده يمه


حينها ضحكت شعاع: شيبه عمره ثلاث سنين وعادش حاطه جهاز البزارين عنده..
يا بنت الحلال غرفتش جنب غرفتي.. خلي الباب مفتوح وبنسمع صوته


جوزاء باستنكار: يا سلام عليش عقب ما يقوم ويتروع بروحه.. لا أنا أحب أكون عنده أول ما يقوم


شعاع بحنان: فديت روحه.. الدلوع حبيب خالته


جوزاء همست بحنان مصفى: الله يخليه لي.. ماطلعت من الدنيا إلا بذا الولد


شعاع باستفسار مُلح: جوزا أنتي توش صغيرة.. حرام عمرش 25 سنة بس..
بتقعدين على ذا الولد بس؟؟.. منتي بمتزوجه؟؟.. المرحوم له أكثر من ثلاث سنين من يوم توفى


جوزاء باستنكار: لا إن شاء الله.. تبين عمام ولدي وجده يلاقون سبب يأخذونه مني..


شعاع بمنطقية مستنكرة: لا تصيرين غبية.. أنتي عارفة إنه الولد في حضانتش.. وحتى لو تزوجتي.. وأعمامه وجده رفضوا حضانتش له.. الحضانة بتكون لأمي مهوب لهم..
ثم غمزت بعينها: وإلا تزوجي عم ولدش اللي خطبش أكثر من مرة.. وحلي المسألة كلها


جوزاء بغضب: تدرين.. أنتي الليلة مستخفة!!
تبين أتزوج رجال متزوج وعنده عيال؟؟!!


شعاع هزت كتفيها: بس أنا سامعة إنه مرته لها شهور زعلانة عند أهلها
لو بترجع كانت رجعت من زمان


جوزاء بنفاذ صبر: تكفين شعاع لا تدخلينا في ذا المواويل
أنا أعرف صالح يحب
-١٩-
مرته.. مهوب بس يحبها إلا يموت فيها
وش صاير بينهم ما أدري.. بس أكيد بترجع...وأنا خلاص ما أبي أتزوج عقب عبدالله الله يرحمه..
ثم أردفت بوجع عميق كأنها تنتزع ذكرى أليمة من بئر وجع لا تنضب: كفاية اللي صار لي.. والله كفاية!!
وانا خلاص مابي من ذا الدنيا شيء إلا أني أتفرغ لولدي


ثم أردفت لتغيير الموضوع: وينه الدكتور عبدالرحمن.. وش فيه تأخر الليلة؟؟
ماعنده محاضرات بكرة؟؟


شعاع تبتسم: حلوة قلبت الموضوع ذي.. دكتور دحومي عند كابتن امهاب..


جوزاء بسخرية: أخيش هذا ما يمل.. يبي يكون قريب من ريحة حبيبة القلب يعني؟!!


شعاع باستنكار: جوزا عيب عليش ذا الكلام.. أنتي عارفة إنه عبدالرحمن وامهاب ربع من يومهم بزارين
وبعدي كاسرة عن الموضوع.. ترا شكلش يصير سخيف وأنتي يبين عليش غيرانة منها


جوزاء باستنكار مشابه: أنا غيرانة منها؟!!


شعاع بتأكيد مستفز: إيه غيرانة.. وإلا شتسمين الحركات البايخة اللي تسوينها كل ما تشوفينها


جوزاء بغضب: أنا لا غيرانة يا شعاع هانم ولا شيء.. السبب الوحيد إن بنت خالش هذي تستفز الواحد وتطلعه من طوره بغرورها وبرودها


شعاع تتنتهد: زين هي مغرورة وباردة.. أنتي كبري عقلش عليها
الحين الناس صايرين يقولون إنها هي اللي مكبرة رأسها عليش


جوزاء باستنكار أشد: أنا؟؟ أنا؟؟


شعاع بثقة حنونة: إيه أنتي.. أنا أدري إنه أطيب من قلبش مافيه.. بس لو تمسكين ذا اللسان شوي
تكفين خلي كاسرة في حالها.. ومافيه داعي تخلين حزازيات بيننا وبين بيت خالي


جوزاء وقفت وهي تقول بغضب هادر تنقلب فيه من النقيض للنقيض:
إيه.. إيه!!!
أنتي تبين الشيخ امهاب أخ عيال خالش وأخيش يبي الشيخة كاسرة.. وزيتنا في طحينا
وأنا اللي صرت العزول اللي مخرب عليكم الجو ومسوي حزازيات


شعاع وضعت يديها على رأسها استنكارا.. في الوقت الذي خرجت فيه جوزاء تنتفض غضبا وصفقت الباب خلفها بصوت مسموع




*************






تأخر الوقت لم يتبق جالسا سواهما في مجلس مُهاب..
رفيقا الطفولة والصبا والشباب.. وحتى الغربة لم تستطع مطلقا قطع تواصلهما
حينما سافر عبدالرحمن للدراسة في بريطانيا.. حوّل مُهاب ما أستطاع من جدول رحلاته إلى مطارات لندن بين مطار هيثرو ومطار غاتويك
لذا كان يراه بشكل شبه أسبوعي..فالصلة الروحية بينهما استعصت على كل شيء
حتى حينما أراد عبدالرحمن كاسرة.. كان مُهاب هو أحد الأسباب الجوهرية للخطبة..
عبدالرحمن يعلم أن كاسرة رغم جمالها الموجع هي غير قابلة للاحتواء
ويعلم أنها حين تتزوج ستعاني ليعاني معها مُهاب وربما كل أسرتها
أراد أن يجنبهم جميعا هذا المصير..ولكن كاسرة أمعنت في رفضته ولعدة مرات
لا ينكر أن ذكرى جمالها الفتي المراهق قبل أن تتغطى عنه مازال يسكن ويسكر ذاكرته
ليبعث رعشة عميقة في أوصاله
ولكنها سلطة الجمال فقط!! فلم يكن عبدالرحمن من يشغله مظهر المرأة عن جوهرها
ولكن كاسرة كانت كاسرة بالفعل!!


همس بهدوء حذر: ها امهاب وافقت كاسرة على الخطيب الجديد؟؟


مُهاب يقلب شفتيه: لا.. مثله مثل اللي قبله


عبدالرحمن بذات الهدوء: وبما إنه خلاص الخطيب ورفضته كاسرة.. فهل لو رجعت وتقدمت بعد مرة... بترفضني؟؟


مُهاب بامتعاض: عبدالرحمن وش لك بذا السالفة كلها؟؟ ترا كاسرة هي الخسرانة.. المره اللي ما ترضى فيك، حظها مهوب حولها


عبدالرحمن بهدوء عذب: أبي قربك ياسنايدي


مُهاب بهدوء مدروس: تبي قربي؟؟ أظني عندي أخت غير كاسرة وأحسن منها




#أنفاس_قطر#
.
-٢٠-
بعد عدة أيام


جامعة قطر


إحدى قاعات المحاضرات




تدخل وضحى القاعة .. تجلس .. تخلع نقابها وتطويه جوارها لأن محاضرتها هذه عند دكتورة


تجلس بجوارها فتاة منقبة يظهر بياضها الشديد المشرق من خلال فتحات النقاب


ومن خلال أناملها الكريستالية الشفافة التي كانت تحركها برقة مرحة


وهي تهمس بمرح طبيعي ينبع من طبيعتها: وضحى صدق الدكتور عبدالرحمن ولد عمتش؟؟



وضحى بعدم اهتمام وهي تفتح دفتر محاضراتها لتسجل التاريخ: والله يقولون كذا



الفتاة الآخرى بذات المرح: ياثقل الطينة.. ترا التكشير يجيب التجاعيد يالخبلة



وضحى تترك القلم وتلتفت لها لتبتسم باصطناع ضحكة سخيفة: هذا أنا ابتسمت.. قومي فارقي لمحاضرتش يالأذوة.. وش جابش وراي؟؟


أنا أكيد أمي دعت علي عشان كذا تصاحبنا



الفتاة بذات الابتسامة الشاسعة وهي تتجاهل عبارة وضحى: ليش ماقلتي لي إن دكتور عبدالرحمن ولد عمتش؟؟



وضحى بهدوء نافذ مرح: سميروه يالدبة أنتي تعرفين عمتي وعيالها زين مازين.. وتدرين عندي ولد عمة اسمه عبدالرحمن.. وش تبين أقول لش بعد؟؟


هذا وأنتم أصلا كنتم مناسبينهم.. وولد عمش عبدالله الله يرحمه كان رجّال جوزا بنت عمتي



سميرة بابتسامتها المرحة: بس مادريت إنه عبدالرحمن أخ اشعيع هو نفسه الدكتور عبدالرحمن..



وضحى بنفاذ صبر: هذا أنتي دريتي.. قومي فارقي الدكتورة بتجي الحين



سميرة بحالمية مصطنعة: وه فديت قلبه بس.. يهوس يخبل طيّر برج من عقلي وأنا عقلي أصلا كل اللي فيه نص برج


ثم أردفت بمرح: ما تبون عروس له؟؟ تكفين.. إكسبي أجر في وخيتش العانس



وضحى بشبح ابتسامة خبيثة: والله هو يبي كاسرة.. تحبين تنافسينها؟؟



سميرة بضحكة مدوية: كاسرة مرة وحدة.. مهوب هين ذا الدكتور.. لا يأختي.. وين أنافس كاسرة.. زين الواحد يعرف حدوده


ثم أردفت باهتمام وهي تتذكر شيئا: ترا جميلة تعبت زيادة ودخلت المستشفى قبل كم يوم.. أشرايش نروح نزورها؟؟



وضحى بحزن: والله مسكينة جميلة.. وش ذا المرض اللي مص عافيتها.. ياحرام ذاك العود الملفوف والوجه اللي ماينشبع من شوفته..



سميرة بذات الحزن: عين ماذكرت الله.. هاه تروحين معي؟؟.. فيه كم بنت متفقين نروح سوا هنا من الجامعة



وضحى باهتمام: أستأذن أمي أول وأكيد بأروح معكم..


ثم أردفت بخفوت وهي تفتح الدفتر: يالله قومي الدكتورة جات






*****************






إحدى هيئات الدولة


مقر عمل كاسرة التي تُعد أصغر رئيس قسم في الهيئة


وتولت هذا المنصب بطريقة استثنائية تجاوزت فيها عدة ترقيات.. فرئيس القسم ووكيله كلاهما أصيبا في رحلة عمل مشتركة


ليترشح للمنصب عدة موظفين كانت كاسرة أفضلهم.. لتفوز هي بالمنصب..




في أحد مكاتب القسم الذي يتوزع بطريقة خاصة منفصلة ليعطي خصوصية للموظفين من الجنسين..


وخصوصا بعد تولي كاسرة لرئاسة القسم التي اهتمت بهذه الناحية كثيرا



زميلان منكبان على إنهاء بعض المعاملات.. يرفع أحدهما رأسه ويهمس بضيق:


ضيقت علينا ذا الكاسرة الله يضيق عليها.. الواحد مايشم حتى شوي هوا



الآخر بدون أن يرفع رأسه: والله رئيسة القسم ما طلبت منك أكثر من الشغل اللي تاخذ راتبك عليه


إشتغل وأنت ساكت..



الأول بغيظ: صدق حظها يفلق الحجر.. أصغر مني وتصير رئيستي.. كان المفروض إني اللي خذت المنصب



الآخر وهو مازال منخرطا في عمله: والله مؤهلاتها أحسن من مؤهلاتك..وزود على كذا وش قرب وحدة متخرجة بامتياز بخريج مقبول مثلك


السالفة موب صغر وكبر..



الأول بنبرة خبث: بس تدري.. والله الواحد يستغرب وحدة بذا الجمال اللي ما أنخلق مثله.. تكون مفترسة كذا..



الثاني يلقي بالقلم ويهمس باستنكار: استغفر ربك.. استغفر ربك.. وش تبي بالمستورة.. البنت ما يطلع منها حتى ظفر في الاجتماعات..


وعمرها ما خلت حد منا يدخل عليها إلا في وجود سكرتيراتها الثنتين.. فشلون تكلم على شكلها؟؟



الأول يهز كتفيه: والله سمعت.. ماجبت هالكلام من عندي..



الثاني: أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.. وهل يكب الناس على وجووههم إلا حصائد ألسنتهم.. ليس كل ما يسمع يُقال..



الأول بذات الخبث: يعني أفهم من كذا إنك أنت بعد سمعت.. بس مسوي نفسك ما سمعت


ثم أردف وهو يخفض صوته: يعني عمرك ما حاولت تتخيل هالغولة المرعبة أشلون الجمال يركب عليها



الثاني يقف ليخرج وهو يهمس بغضب: أنت جمعت الشياطين كلهم فوق روسنا.. أعوذ بالله.. أعوذ بالله منك ومن شرك


ذات الوقت.. في مكتب كاسرة..


تحاول ألا يرتفع صوتها المشحون بالغضب: أشلون يمه تخلينها تروح مع بنات من الجامعة.. سايبة يعني وإلا مالها والي


يعني ماكانت تقدر تنتظر للعصر تروح معي أو معش


مزنة بحزم: كاسرة اقصري الحكي.. مري أختش في مستشفى حمد ورجعيها معش للبيت إذا طلعتي من دوامش وبس بدون كثرة حكي.


كاسرة بذات الغضب: ياسلام.. وهذي صارت القضية.. اشلون تخلينها تروح من غير وحدة منا

بس زين دواها عندي


مزنة بحزم شديد: والله لو أدري إنش قلتي لها كلمة.. أنتي
-٢١-
اللي دواش عندش

بنتي وترخصت مني.. ورخصت لها..

وش حارق بصلتش أنتي؟؟


كاسرة بغضب متزايد: زين يمه زين.. إذا رجعت البيت تفاهمنا






*********************



ذات الوقت..كسّاب في مكتبه.. كان مستغرقا في تقليب أوراق أمامه.. دخل السكرتير وهمس بنبرة احترام تقليدية: العم منصور برا..



كسّاب رفع عينيه بغضب: أنت ماتفهم؟؟!!.. كم مرة قايل لك عمي منصور لا جا ما تخليه ينتظر برا.. تدخله على طول



السكرتير بارتباك: والله قلت له.. بس هو أصر أني أقول لك أول



كسّاب بذات الغضب: دخله لا بارك الله فيك



دخل العم منصور


اســـتــثــنــائــي


اســـــتـــــثــــنـــائـــي


استثنائي تماما.. تـــمــاما هذا العم منصور.. وإطلالة العم منصور .. وحضور العم منصور!!


قائد .. قـــائــد فعلا... كما هو عمله.. وكما يوحي بفخامة مظهره الشديد الفخامة.. وانعكاس تأثير مخبره القيادي


رجل اعتاد على القيادة!!!


بل تشرب بها.. لتشع روح القيادة من جنباته !!



وقف كسّاب ووجهه يتهلل وهو يتجه ناحية عمه


بينما همس منصور بصوته الموغل في العمق والفخامة والرجولة: حرام عليك وش سويت في السكرتير.. طالع المسكين يتنافض



كسّاب يبتسم: ألف مرة قايل له أنك لا جيت تدخل على طول



منصور بابتسامة مشابهة: وأنا ألف مرة قلت لك أحب اللي يمشي على غيري يمشي علي



حينها وصل كسّاب لعمه ليسلم عليه.. وينحني منصور من عليائه بطوله الفارع ليسلم على كسّاب


ابتسم كسّاب بمرح غريب عليه.. مرح لا يحضر حتى يرى شخصين منصور أو علي:


تدري ياعمي لولا فرق الـ14 سنة اللي بيننا وإلا والله ماعاد أقوم في وجهك.. تفشلني وأنت تدنق علي..



منصور بمرح شفيف: إذا أنت تقول كذا وفرق الطول بيني وبينك بسيط..أجل زايد المسكين وش يقول؟؟



كسّاب بمرح: شايل حسرته في قلبه.. شكلك ياعمي مصيت عافية جدتي.. عشان كذا ماعاد جابت حد عقبك



منصور يبتسم: ول عليك ياولد.. تنّظل عمك؟؟



كسّاب بذات الابتسامة الدافئة: والله عمي مفشلني بذا الطول..



منصور بفخامة: أفا عليك ياولد.. عمك يعر الرياجيل مهوب في الطول بس (يعر: يهزم ويغلب)



كسّاب بفخامة مشابهة: كفو يابو كسّاب..



منصور يجلس وهو يقول بمرح: ومن اللي قال لك باسمي كسّاب واثق الأخ من إني باسمي عليه؟!!



كسّاب بابتسامة: زين أبو علي؟؟



منصور بهدوء مرح: ولا علي..



كسّاب بتساءل: أجل؟؟



منصور بثبات حميم: زايد..



كسّاب باستغراب مرح: غريبة مهوب عوايد..



منصور يبتسم: صحيح أنا وزايد نتناقر دايم.. بس أنت أكثر واحد تدري إن زايد غلاه عندي غير..


يمكن ما بيننا إلا سبع سنين.. بس زايد اعتبره أبي مهوب أخي الكبير بس..


ماعاش على أمي وأبي غيري أنا وياه



كسّاب يعود للجلوس خلف مكتبه.. ويضغط الجرس للساعي ليحضر لهما قهوة ليقول بعدها بابتسامة: أنت الحين تزوج يالشيبة وعقب سمي الولد اللي تبيه


ثم أردف بخبث مرح: أصلا يمكن لا تزوجت ماعاد تجيب عيال.. شيبت ياعمي!!



منصور يضحك: شابت عظام عدوينك..ثم أردف بابتسامة: عادي.. استفزني مثل ما تبي


ماني بمتهور وقايل لك بأتزوج بكرة وأوريك



كسّاب باهتمام: جد عمي.. ما مليت من الوحدة في بيتك الكبير اللي مافيه إلا أنت والصبيان..



منصور بابتسامة: تعال اسكن عندي وونسني..



كسّاب يبتسم وهو يخفي خلف ابتسامته حزنه المتجذر: لو عليّ.. أنت عارف إنه ودي أسكن عندك من سنين.. خلها على الله


ثم أردف لتغيير الموضوع: لك أكثر من عشر سنين من يوم طلقت مرتك رقم 3.. جرب رقم أربعة يمكن تضبط معك ذا المرة



ضحك منصور: الله يرحمها أمك.. ذكرتني فيها وهي تحن علي أتزوج.. وعقبها خالتي الله يرحمها ياكثر ماحنت


حنت علي خالتي أخر مرة وهي تقول: "الثالثة ثابتة يأمك.. أخر مرة.. "


وماحد طلع عيني مثل الثالثة..



كسّاب يضحك: بعد ياعمي.. مرتك مهيب جندي عندك في الثكنة..


المرة تبي شوي حنية..



منصور ينزل حاجبا ويرفع الآخر: عشتو... شوفو اللي يتكلم عن الحنية بس..


وعلى العموم ياعمك.. خلاص الدور دورك


أنا راحت علي.. مالي خلق على الحريم خلاص..



كسّاب مازال يضحك.. فحضور عمه بعث في روحه سعادة اختلسها في غفلة من أطنان ضيقه المتراكم:


والله ياعمي مهوب ذنب حريمك إن الله خلقك طويل ومزيون وتلفت الانتباه..


يعني حق لهم يغارون.. وانت حتى الغيرة ماتبيهم يغارون



منصور بغضب: تدري إنك سخيف ياولد أخي.. احشم عمك لا بارك الله في عدوينك..


ولا تسخف مشاكلي مع حريمي.. أنت عارف إن هذا مهوب الموضوع



كسّاب يضحك: خلاص خلاص لا تحمق علينا ياحضرة العقيد



منصور يتوجه لكسّاب بنظرة مباشرة كنظرته لمجندينه في الثكنة:


أنت هاللفة كلها عشان تهرب من سالفة عرسك اللي أنت عارف إني جاي أكلمك فيها



كسّاب يهز كتفيه: أنت عارف زين ياعمي إني ما أهرب من شيء


السالفة كلها إني مالي خاطر في العرس الحين.. وأنا عارف إن أبي هو اللي دازك علي عقب ما تعب مني..


أبي ظنه إن العرس بيصلح حالي.. ما دري
-٢٢-
إن حالي ما تصلحه مرة


ثم أردف بألم عميق من أعمق نقطه في روحه لم يظهر في نبرة صوته الباردة:


وعلى العموم قل له يريح باله.. مافي داعي نفشل روحنا..


من الرجّال اللي فيه خير اللي بيزوج بنته لواحد أخته كابتن طيران؟!!


وأنا مستحيل أتزوج إلا بنت رجّال فيه خير.. بنت الرخمة مالي حاجة فيها



منصور انتفض بغضب: أخس واقطع ياولد.. وش ذا الحكي؟؟



كسّاب بهمس مهموم مغلف بالسخرية: عمي مافيه داعي نمثل على بعض..


أنت بروحك مستوجع من ذا الموضوع حتى لو أنكرت..


وإلا ناسي إنك كنت بتتذابح أنت وإبي على سبت ذا السالفة..


وعقب تقول لي: اخس واقطع ياولد !!






********************





مساء ذات اليوم


مستشفى حمد العام


إحدى غرفه




تحيطان بسريرها وهما تنظران بألم لجسدها الذابل الموصل بأنابيب التغذية.. وطاقم التمريض يحقنونها بشكل مستمر بمنوم حتى لا تصحو وتنزع الأسلاك عن جسدها



همست مزون بحنان: خالتي صار لش كم يوم غايبة عن المدرسة


أنا ماعندي شيء.. روحي وأنا باقعد عندها



عفراء تمسح بحنان على ذراع ابنتها الجاف المتخشب وتهمس بألم عميق:


وش مدرسته؟؟ ما أقدر يامزون يأمش أخليها.. قلبي مهوب مرتاح


وعلى العموم أنا قدمت على إجازة


وأنا أدري إنش تنتظرين موعد المقابلة الشخصية



مزون بانقباض يعيدها لمأساتها: تكفين لا تذكريني خالتي... متخوفة.. وقرفانة..


ثم أردفت بكره شديد: لا خالتي وتخيلي مثلا أرجع أقابل امهاب لسان الحية الله يقطعه ويقطع أيامه



خالتها بطمأنة: مهوب لازم كل الطيارين يشوفون بعض.. مواعيد الرحلات متضاربة


وإن شاء الله ما تصدفينه



مزون برجاء عميق: الله يسمع منش ياخالتي.. الله يسمع منش.. أحس إني لو شفته عقب ذا السنين يمكن أسوي فيه شي


وأطلع العذاب اللي شفته السنين اللي فاتت على رأسه


عمري في حياتي ماحد ذلني مثله



عفراء تبتسم بإرهاق: إنسي يا بنتي انسي.. الحقد ما يأكل في شيء كثر ما يأكل من روح صاحبه



مزون تبتسم لتغير الموضوع: يا حليلهم صديقات جميلة اللي جاونا اليوم.. يجننون.. حبيتهم بصراحة



عفراء بألم عميق: ياقلبي ياجميلة ولا درت عندهم.. كانت بتنبسط فيهم..


ما أقول إلا الله كريم



مزون تحتضن كف خالتها: الله أكرم من كل شيء ياخالتي.. ورحمته وسعت كل شيء.. كل شيء



عفراء بأمل عميق: الله كريم



أملها شاسع.. فهذا القلب قلب أم.. الشيء الاكثر رحابة في كل الكون


تقنع نفسها أن طفلتها بخير وأنها تتحسن.. وأنها ستعود لأحضانها


وتحاول أن تتناسى بكل قوة الحقيقة التي تعلمها جيدا


طفلتها تذوي.. تذوي!!


تقترب من الموت بخطى حثيثة


فهذا الجسد اليابس كأرض بور شققها الضمأ ينتظر لحظاته الأخيرة


ماعاد به من ملامح الحياة سوى نفس ضعيف يتردد في صدرها يوشك على المغادرة وترك كل شيء خلفه


صبا لم تعشه..


وأم نذرت حياتها لسواها..


وقلوب أثقلها الهم


وذكريات لم تعطرها رائحة أب أثقلتها الأماني للقائه!!






**************







الوقت أصبح منتصف الليل ووضحى مستغرقة في طباعة بحث على الحاسوب.. تدخل عليها كاسرة.. لتتنهد وضحى بعمق.. فهي تعلم تماما ما الذي سيحدث الآن


لذا همست برجاء عميق قبل أن تتكلم كاسرة: تكفين كاسرة عندي بحث لازم أخلصه وأسلمه بكرة



كاسرة بنبرة هادئة صارمة: عندش دقيقة وحدة تسيفين شغلش.. قبل أطفي الكمبيوتر..



وضحى برجاء أعمق: تكفين كاسرة



كاسرة وكأنها لم تستمع مطلقا لرجاءتها: قومي صلي قيامش الحين ثم نامي.. وكملي بعد صلاة الفجر


مهوب مسموح لش تسهرين أكثر من كذا..



وضحى برجاء أخير مستجدي: تكفين كاسرة ماراح يجيني نوم وأنا ماكملت شغلي


بترت جملتها وابتلعت ريقها وهي تردف وتنظر لنظرة كاسرة الباردة الصارمة: خلاص إن شاء الله إن شاء الله



لا تعلم لِـمّ تمارس عليها كاسرة هذا التسلط؟!!


خوفا عليها؟!! اهتماما بها؟!!


أو مجرد اثبات لسلطتها المطلقة وأنه ليس هناك من يعارض قراراتها؟!!


وتعلم أنها لابد أن تستجيب وخصوصا أن كاسرة سكتت على مضض على موضوع ذهابها اليوم مع صديقاتها لزيارة جميلة


لأن والدتها أوقفتها عند حدها.. وهذا الشيء أغضب كاسرة لأبعد حد


ولو أتاحت وضحى لكاسرة الفرصة الآن فهي لن تتوانى عن فتح الموضوع وتقليب الدفاتر


وهي تعرف تماما كيف تُعنف بمهارة.. وخصوصا بعد أن أصبحت رئيسة قسم صُقلت هذه المهارة لأبعد حد..


تعرف كيف تجعل من أمامها يشعر بالذنب والضآلة من شدة كلماتها المُعنفة الـمُختارة بعناية!!



لذا أطفئت وضحى حاسوبها وهي تستعد للصلاة ثم للتمدد وهي تعلم أنها لن تستطيع النوم..


ولكنها لابد أن تجبر نفسها وكل ما تستطيع فعله أن تكثر الدعوات أن يقرب الله الفجر


شعور مر بالانهزام والخيبة يجتاح خلاياها..


قد يكون الموضوع بمجمله بسيطا.. ولكن مايبثه فيها من مشاعر معقدة مؤذية ليس بسيطا مطلقا.. مطلقا


انقلبت على جنبها اليمين وهي تولي وجهها للقبلة


لتسيل دمعة شفافة من بلور وألم!!


*
-٢٣-
قبل واحد وثلاثون عاما





منطقة في غرب قطر... بيوت طين قديمة متلاصقة.. أجري على بعضها بعض التعديلات.. ليدخل إليها الحجر والتسليح وأسقف الألمنيوم


فقدت بعضا من رونقها القديم وبعضا من روحها المثقلة بالأصالة.. ولكن رائحة العمق الإنساني مازالت تعبق بعطر شفيف




صلت للتو صلاة الظهر بعد أن أنهت صنع غداء والدها مبكرا.. وهاهي تكنس (الحوش) تحت شمس لاهبة


طرقات هادئة على الباب.. توجهت لفتح الباب لوالدها..


شرعت الباب على اتساعه لتقف في فرجته بخديها المحمرين في صفحة وجه ذي اسمرار لذيذ


لوحته شمس لم تخجل من ملامسة هذا الحسن المهيب الذي بدأ ينضج للتو!!


خصلات شعرها الفاتحة من أثر الحناء تطايرت في خصلات عنيدة أبت إلا أن تخرج من تحت أطراف (بخنقها) الذي أحاط باستدارة وجهها


ومازال غبار الحوش عالقا بوجهها وببخنقها مختلطا بحبات عرق تساقطت على جبينها الأزهر وعينيها النجلاوين..


فوجئت بالطارق يوليها جنبه ليتأخر إلى طرف الباب ويستند إلى ضلفته الجانبية


احتراما لأهل البيت أولا


وثانيا حتى لا ينهار على الأرض ورؤيتها بهذه الصورة الموجعة الموغلة حسنا وألما حتى أقصى درجات التعذيب.. تغتال كل مشاعره وتهزه كزلزال لا حدود لقوته


فهو كان منهكا من الشوق الذي أذاب مابقي من جَلده وصبره!!



تماسك في ثوان ليهمس بصوت غاضب مبحوح يحاول فيه تهدئة وجيب قلبه الذي يكاد يقفز من بين جنبيه:


كم مرة قايل لش لا تفتحين الباب لين تسألين من


وعقب تفتحينه وأنتي مندسة وراه.. مهوب تشرعينه وتوقفين على طوره ياللي ما تستحين


نعنبو دارش مافي وجهش سحا أنت!!



أجابت في غيظ: وأنا شدراني إنه أنت.. أمك تقول إنك فارقت بتسكن في الدوحة.. وش ردك علينا؟؟!!



زايد في غيظ أكبر: يعني إن غاب القطو العب يافار.. عشانش دارية إني ما انا موجود تخالفيني..



مزنة في غيظ أكبر وأكبر: على شنو أنت شايف حالك أخالفك وإلا ما أخالفك..


أظني اسمي مزنة بنت جابر.. مهوب مزنة بنت زايد



زايد بغضب: سكري بابش عليش.. قدام أدخل وأوريش شغلش الحين


وأنتظري علي كم شهر إذا ماجبتش لبيتي وأدبتش فذا الشنب مهوب على رجّال وأنا ولد إبي



حينها أطلت مزون عبر الباب ووجهها محمر من الغضب: شوفوا من اللي يهدد؟؟


"ولد الراعي شبر القاع"..


ثم أردفت وهي تلمس شعرها من خلف بخنقها: نجوم السما أقرب لك مني يا ولد الراعي



ثم أغلقت عليها الباب رعبا وخوفا بسرعة قبل أن يقتحم زايد البيت عليها.. كما فعل قبل عدة أشهر وفي وجود والدها


ليصفعها وأمام والدها





ـــــــــــــــ





نهار حار كان ذلك النهار.. بعد صلاة العصر.. للتو تعتاد على لبس البرقع الذي لبسته قبل عدة أشهر رضوخا لأوامر والدها..



طرقات حادة على الباب وصوت أنثوي يرتفع خلف الباب.. يهمس لها والدها وهو أمام قهوته: قومي البسي برقعش وافتحي لأم زايد شوفي وش تبي



مزنة برجاء: يبه حر موت.. ماني فاتحة الباب كله.. بافتحه شوي وأوقف وراه وأشوف وش تبي



والدها بحزم: زين إياني وإياش تطلعين رأسش



مزنة قفزت وهي تعدل وضع بخنقها على رأسها.. وتفتح الباب قليلا وتهمس بمودة: ادخلي ياخالة..



أم زايد بمودة مماثلة: لا يامش هاش اخذي ذا العصيدة.. عادني بأروح أودي لأم ناصر قسمها



مزنة بأريحية: خلاص عطيني حق أم ناصر وأنا بأكفيش..



أم زايد بمودة أكبر: لا جعل عيني ما تبكيش.. بأروح أتقهوى معها.. هاش اخذي



وفي الوقت الذي كانت أم زايد تمد يدها للداخل أخرجت مزون رأسها لتتناول الصحن من أم زايد.. لم تتوقع أن يكون أمام بيتهم أي مار في هذا الوقت.. لتصدم بل تفجع أن زايدا ومعه رجل آخر يجلسان في دكة بيت أبي زايد المقابل لبيتهما..


تراجعت مزنة بسرعة لأنها شعرت أن دقات قلبها تصاعدت للحد الأعلى من نظرات الرجلين.. نظرات الغضب العارم في عيني زايد.. ونظرات الإعجاب في عيني الآخر



كانت على وشك إغلاق الباب بسرعة ورعبها يتزايد.. لولا صدمتها المرة الفاجعة بالساعد الأسمر الذي امتد لمنعها من قفل الباب..


لم تحتج أن تعرف ساعد من هذا..ولا ماذا ينوي أن يفعل بها..


لأن نظرته التي تلتها قفزته السريعة ثم ركضه السريع اتجاهها.. أنبأتها أي مصير سيء مرعب ينتظرها


رغم أنها في شخصيتها أبعد ما تكون عن الجبن ولكنها في تلك اللحظة شعرت أن قلبها توقف من الرعب وهي تركض باتجاه والدها


ولكن زايدا وصلها قبل أن تصل إليه وتختبئ وراء ظهره.. ليمسكها من عضدها ويديرها ناحيته


تكاد مزنة أن تقسم أن هذه اللحظة كانت كانت أكثر لحظات حياتها كلها رعبا



شعرت كما لو أن الهواء سكن وتوقف عن المرور بينها وبين زايد..


كما لو كان هرب خوفا من زايد تاركا رئتيها تئنان من الضغط الناتج عن قلة ضخ الهواء


وعينا زايد ترسلان لها شرارات من لهب مرعب شعرت بها تلسع وجهها وتحرق عينيها


ويده التي تمسك بعضدها كما لو كانت وصلت لعمق عظمها لشدة الضغط والألم الذي شعرت به يتفجر في خلايا عضدها



كل هذا الرعب ومازالت يده لم تصل خدها!!!
-٢٥-
ومايصير إلا خير



سكتت وسمية على مضض.. لم تكن تريده أن يكلم شقيقتها قبل أن تكلمها


فهي تعلم مدى احترام عفراء الأسطوري له..


ويستحيل أن ترفض شيء هو مقتنع به


كانت تتمنى أن تكلم أختها أولا.. لتسمع رأيها قبل أن تتأثر برأي زايد


ولكن هذا لم يحدث.. لم يحدث..!!



ظلت دائما تشعر بحسرة ما.. حسرة ولّدها التفكير المترسخ الذي عاشت به


"ثنائية البدو والحضر الممقوتة"


وخصوصا حين توفي خليفة بعد ذلك بأشهر قليلة.. تاركا أختها تحمل طفلا في أحشائها..


ذكرى ربطتها به.. وظلت وفية لها.. وشبابها الغض يذوي.. وزهرة سنين حياتها تتسرب على أطلال رجل لم تعرفه حقا


ولكنها احترمته حتى التقديس.. احتراما لذكراه في عقل وقلب زايد..


كرهت أن تخدش أو تجرح هذه الذكرى المقدسة بزواجها مرة أخرى


وكان هذا أيضا سببا ثانويا من ضمن أسباب جوهرية جعلتها ترفض الزواج من زايد نفسه بعد ذلك بعدة سنوات!!!






********************






قبل أكثر من 19 سنة


مقبرة أبو هامور




رائحة الموت تغمر الأجواء..رائحة ثقيلة خيمت على المكان.. خليط من الوجع الجارح والسكينة الهادرة



الناس متجمهرون وهم يدخلون الجسد الملفوف بالبياض إلى اللحد


صراخ يتعالى.. ورجل يحاول التفلت ليلقي بنفسه داخل القبر



" بس يازايد.. بس.. فضحتنا.." يهمس في أذنه بصوت مكتوم وهو يكتفه بقوة وينحني عليه من أعلى



"فكني يامنصور.. فكني ياخيك.. مابي حياة مافيها خليفة" صراخه المكلوم الموجوع يتعالى


كان ينشج من أعماقه كأنه نشيج مذبوح في لحظاته الأخيرة..


مليء بالأنين.. مليء بالوجيعة.. مليء بالحسرة



منصور مازال يكتفه وزايد يحاول التخلص ونشيجه يتعالى وهم يراهم يهيلون التراب على القبر..


وكأنهم مع كل كومة تراب يهيلونها على القبر.. يهيلون على روحه أطنان من الوحشة المعتمة


يحاول التخلص.. يريد منعهم من طمر روحه تحت التراب.. يشعر أن هذا التراب ينسكب في رئتيه وأنه عاجز حتى عن مجرد التنفس..


يحاول التخلص للمرة الألف وهو يضرب بكوعيه في صدر منصور بكل قوته.. ولكن منصور لم يفلته مطلقا وهو يهمس في أذنه بصرامه: زايد طول عمرك رجّال.. خلك رجّال


حتى يوم ماتوا أمي وأبي ماسويت كذا


أطلب له الرحمة.. أطلب له الرحمة






******************





مازال زايد جالسا في مجلسه ينتظر آذان العشاء..والمجلس خال على غير العادة


والهموم تتزاحم على كتفيه.. والذكريات المؤلمة تغتال ذاكرته.. لينتزعه من كل هذا رنين هاتفه


نظر للاسم ورد بقلق: هلا أم جميلة



جاءه صوت عفراء المرهق المبحوح: هلا بك أبو كسّاب



زايد بقلق: بشريني من جميلة



عفراء بذات الإرهاق: على حالها..


ثم أردفت بتردد: أبو كسّاب.. طلبتك.. قل تم



زايد بحمية: أفا عليش يابنت محمد.. آمري لا تطلبين..



عفراء بهدوء حذر: أنا أبي أسفر جميلة.. بس تكفى تخليني أحجز.. أنت عارف إنه الخير واجد.. ورثي من هلي ثم ورثنا من خليفة


وأنت أساسا ماتخلينا نصرف شيء.. طلبتك أبي أسفر جميلة أنا..



زايد بثقة بها بعض من غضب: مالش لوا يا بنت محمد.. أول شيء الحجز خلاص حجزت.. حتى جوازاتكم في السفارة الفرنسية عشان الفيزا..


وحجزت المصحة خلاص وبأسافر معكم أنا ومزون وبيستقبلنا علي هناك



عفراء باستنكار خجول: بس يابو كسّاب



زايد يقاطعها بنبرة غضب: بس ..بدون مرادد.. أنا أصلا غلطان من يوم طاوعتش وتأخرنا ذا كله.. لين تدهورت حالة البنت



سكتت عفراء على مضض..وسكت هو على غضب كاسح متزايد خشي أن يفجره في عفراء



فهو بالفعل غاضب من عفراء التي كان يلح عليها أن يسافروا بجميلة


لكنها كانت ترفض بحجة أن وضع جميلة تحت السيطرة


وهاهو الوضع خرج عن السيطرة.. خرج تماما



بعد أن هدأت أعصابه.. قام بإجراء اتصال جديد..حالما أجاب الطرف الآخر بعد السلامات المعتادة


همس زايد بثقة حانية: علي .. رحلتي اللي قلت لك عنها لفرنسا تقدمت شوي


أنا جايك بعد يومين أنا وخالتك وأختك.. جميلة تعبانة شوي



علي بثقة مثقلة بالغموض: أنا اصلا كنت أبي أتصل فيك.. أقول لك أنا جاي الليلة


أبي أعقد على جميلة.. وأنا اللي بأسافر معها


مافيه داعي تروحون كلكم


إلا خالتي لو بغت تروح.. بكيفها






#أنفاس_قطر#


.
-٢٤-
.. ولكنها وصلت ختاما.. شعرت حينها كما لو أن رأسها يطن من قوة الصفعة.. وصفير مرعب يمزق أذنها اليسرى ألما



قفز والدها بغضب كاسح ولكن زايد عاجله وهو يصرخ بغضب مشتعل:


الحيوانة طالة مع الباب بدون برقع وشافوها الرياجيل اللي في دكتي عيني عينك



رغم الألم الموجع الذي انتشر في روح جابر وهو يرى وحيدته تُصفع أمامه


شعر كما لو كان يريد البكاء معها وهو يرى عينيها الغاليتين تتفجران بدموعها الأغلى


ولكنه عاود الجلوس وهو يصطنع الثبات ويتناول فنجانه ويقول بحزم: حجت يمينك.. لو أنك ما ضربتها أنا كان ضربتها


هذا وأنا ناهيها ألف مرة ما تطل من الباب ماعلى وجهها شيء



حينها شعرت مزنة بقهرها يتزايد يتزايد ووالدها يخذلها بهذه الطريقة.. ليرتفع صوت نحيبها المفاجئ وهو تركض باتجاه غرفتها


كانت المرة الوحيدة في مطلق حياة مزنة التي بكت فيها بهذه الطريقة الهستيرية


المرة الوحيدة!!!





ــــــــــــــ



كما كانت صفعة زايد هي الصفعة الأولى والأخيرة في حياتها


لذالم تسامح زايد مطلقا عليها..


قررت أن تجرحه!! تهينه!! أي شيء يبرد بعضا من نارها فيه!!



وجاءها الانتقام سريعا.. بعدها بأيام.. ويالا جرأته !! جاءها ليخبرها بعشقه لها ورغبته في الزواج منه


يصفعها بوحشية.. ليعود لها عاشقا يريدها أن تبادله العشق!!


لذا كانت حكاية ابن الراعي الطفولية التي اخترعتها


لا يهمها ان تكون قصة كاذبة


المهم أن تؤلمه.. تؤلمه كما آلمها.. كما جرح كبرياءها الثمين



كما تعلم أنه يتألم الآن وهو يقف خلف الباب يعتصر كفيه حتى لا يحطم الباب عليها


وهي تقف وظهرها مسند للباب وتضم كفيها لصدرها الذي تمزقه مطارق دقاتها الصاخبة هلعا.. وتدعو الله أن يحضر والدها بسرعة


فهو وإن كان لم يدافع عنها في المرة الأولى لأنه رآها مخطئة


فهو يستحيل أن يسمح لزايد أن يمد يده عليها للمرة الثانية



وهاهو زايد بالفعل يقف مسندا ظهره لحائط بيتهم


غارقا في ألم عميق عميق عميق


لا يهمه تهجمها الطفولي بقدر ما يؤلمه معرفته أن مشاعره المتجذرة التي تمزق صدره بلا رحمة بلا هوادة..لا صدى لها مطلقا في قلبها الغض





*******************






قبل 38 سنة..



أول أيام عيد الفطر


قصر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني في منطقة الريان


مجلس الاستقبال



كان الشيخ خليفة يستقبل أفواج المهنئين بالعيد


وفي ليوان المجلس مجموعة من الأطفال الذين حضروا مع أبائهم وينتظرون دورهم للسلام على الشيخ


(الليوان : بهو مفتوح يقوم على أعمدة)



جلسا متجاورين مصادفة.. ولم يعلما أن هذه الصدفة شاء الله عز وجل أن ترسم تغييرا في مسار حياتهما لتربطهما معا وللأبد


- شاسمك؟؟


- خليفة


- زايد


بعد عدة جمل حوارية


- أنت ليش تحكي كذا؟؟


- وأنته ليش تتحجه جذيه؟؟


ضحكتان صافيتان محلقتان والروحان تتعانقان كالسحر تماما


سحر إنساني خالص آلف بين قلوب تشابهت


مضى وقت لم يكن له حساب ملموس في حساب الزمن.. حتى تلقيا أشارة والديهما للدخول


سلما كما سمعا من والديهما عشرات المرات من نصائح مكررة حتى حفظاها..


فهذه مرتهما الأولى ولابد أن يثبتا أنهما رجلان يستحقان السلام على الشيخ حتى يضمنان حضورهما في عيد الأضحى أيضا



خرجا وكل منهما يده في يد والده وكل منهما يشير للآخر بالتحية


- يبه ماعليه أروح أسير على خليفة/ زايد في بيته؟؟


- ما يخالف.. مايخالف يصير خير






***************








يجلس في صدر مجلسه الضخم المفتوح على الشارع مباشرة بعد أن صلى المغرب


يمرر يده على شعيرات عارضه.. مشغول بالتفكير والهم


يكاد يموت قلقا على هذه الصبية التي أبلغته ابنته مزون أن وضعها الصحي يتدهور


فهذه الصغيرة لها مكانة أثيرة وشاسعة في قلبه.. فهي تزاحم ابنته مزون على افتراش هذا القلب


" كيف تركتها حتى وصلت لهذا الحد؟!!"


"لكنك لم تراها.. وهم لم يخبروك بحقيقة تدهور صحتها"


" لا تبحث لنفسك عن عذر يازايد.. لا عذر لك.. لا عذر لك"



منذ دخول الصغيرة للمستشفى قبل أيام...ومعرفته عن تفاصيل وضعها الصحي المزري


وهو مشغول بالتجهيز لسفرها.. الذي سيكون بعد يومين


لن يستمع بعد الآن لعفراء..ولا لرفضها


مادام الله قد وهبه الوسائل.. سيحارب حتى تبقى أنفاس جميلة تعطر الكون




"فما فائدة كل أموال العالم إن كانت لن تنقذ ما تبقى من رائحة خليفة؟!!"






*******************






قبل عشرين عاما




"خليفة؟؟"



"إيه خليفة... وش فيه؟"



أم كسّاب بتردد: مافيه شيء والنعم.. بس أختي يتيمة وفي ذمتنا ويجيها خطاطيب واجد ماشاء الله


ليش نزوجها حضري مهوب منا.. يبعدها عنا



زايد بغضب عميق: ذا الحضري أطلق من شارب كل اللي خطبوها



تراجعت أم كسّاب بوجل..بينما تنهد زايد وهو يزفر بعمق:


أنتي عارفة إنه عفرا مثل أختي الصغيرة.. ومن يوم توفوا هلش في الحادث عقب عرسنا بكم شهر.. وهي في بيتنا


ووالله إني مابي إلا مصلحتها


ومستحيل نغصبها على شيء

خليني بس باكلمها ..
-٢٦-
الدوحة
وقت ما بين منتصف الليل وقبل صلاة الفجر
أرض المطار..


سخونة لزجة ولدتها رطوبة أثقلت الجو 
نزل عن سلم الطائرة ليلفح الهواء الساخن برودة وجهه 
استعاذ بالله من الشيطان وهو ينفض رأسه ويفتح أعلى قميصه عن عنقه النحيل بحثا عن بعض الهواء
شعر كما لو أنه عاجز عن التنفس وكأن هذه الرطوبة ألتهمت كل الأوكسجين وامتصت مابقي من هواء رئيتيه
مسح عرقا وهميا شعر به يعبر شعر حاجبيه ليغشى رموش عينيه
واسم واحد يكتسح أفكاره

"جـــــــمـــــيــــلــــــة!!!"


لطالما بدت له جميلة أشبه ماتكون بلعبة
جميلة.. رقيقة.. وهشة.. هشة جدا كلعبة كريستالية قابلة للعطب السريع!!

ولطالما رآها أيضا طفلة!!
في كل سفراته كانت هديتها دائما دمية.. كان يتعب كثيرا في انتقاء دمية مختلفة لها كل مرة
يكاد يقسم أنها لابد ملئت غرفة كاملة من دماه التي أهداها لها هو!!
ولم يتوقف عن إهدائها الدمى حتى بعد أن قالت له مزون وهي تتناول منه هدية جميلة قبل عامين لتعطيها لها:
علي ترا جميلة صارت مره.. جيب لها شيء غير.. عبيت غرفتها ألعاب..
جيب لها شنطة.. عطور

حينها ابتسم وهمس: هي تنبسط على العرايس والدباديب اللي أجيب لها أو لا؟؟

ابتسمت مزون: بصراحة تنبسط..

همس بدفء حنون: خلاص خليها تنبسط بعرايسها وخلي الشنط والعطور لش

وها هي من لطالما أهداها العرائس ستصبح عروسه هو..
لا يعلم أي جنون أصابه حين أخبرته مزون قبل يومين بتدهور وضع جميلة
واشتكت له خيبة أملها في كسّاب حين عرضت عليه أن يتزوج منها ولكنه رفض
حينها صرخ بغضب مجنون: وليش تطلبين من كسّاب ومهوب مني؟؟ 
ولو كان وافق يتزوجها أنا وش كان بيصير فيني؟؟ مافكرتي فيني؟؟

مزون بدهشة عميقة وهي في استغراب أعمق لثورة علي الذي لطالما كان شديد التحكم في أعصابه: علي عمرك ماقلت أنك تبيها ولا بينت..

علي بذات الغضب: أبيها أو ما أبيها.. من حقي تشوروني.. وإلا حتى ذا الحق بتستكثرونه علي
أنا جاي بكرة أو بعده.. ولا تقولين لأحد شيء لين أتصل في أبي..

لا يعلم ما الذي أصابه.. وأي تيارات مجنونة تتقاذفه؟!!
تخيل نفسه يعود للدوحة وهي خالية من وجود جميلة؟؟
تخيل المكان كالحا خاليا من الحياة
أي مكان سيكون لا تزينه ابتسامة جميلة؟!!
أي سواد يعتصر بياض الطرقات؟!!
وأي نسمات هذه التي ستجرؤ أن تهب وهي لا تحمل دفء عطرها؟!!
بياض قلب طفلته!!
وعبق عطر دميته!!
بدت الحياة له حينها بلا طعم.. بلا نكهة.. بلا حياة!!


ثم تخيل جميلة زوجة لكسّاب فشعر بنار تجتاح عروقه وتسمم دمه وتعتصر خلاياه في وجع غير مفهوم شديد القسوة..
أي مشاعر هذه التي تتقاذفه؟؟ أي مشاعر مجهولة المدارك والهوية؟؟
طوال عمره ومشاعره متذبذبة تربطه بجميلة.. يريد أن ينظر لها كأخت صغيرة
ولكن داخله كان يرفض دائما أن تكون أختا له.. 
فما يشعر به ناحيتها مختلف تماما عما يشعر به ناحية مزون
حتى وإن بقي يراها طفلة.. فهذه الطفلة هو من طلب أن تتغطى عنه حين بلغت الخامسة عشرة..
وثار غضبه حين علم أنها تتغطى عنه ولا تتغطى عن كسّاب.. 
نهرها أن الخطأ لا يتجزأ.. ولا يعلم حينها هل كان إدعاء للتعقل أو ببساطة هي الغيرة اشتعلت في داخله
كاد يجن أنه حرم نفسه من رؤيتها بينما كسّاب يحضى بمتعة النظر إلى محياها

بعدها حدثت حكاية مزون.. ليرتحل بوجيعته.. وترتحل جميلة وذكراها المبهمة معه
يراها حين يعود بشكل متقطع.. مجرد تحية من بعيد..
ولكنه يعلم يقينا أنها بقيت رغم البعد.. قريبة.. قريبة جدا!!


تنهد بعمق وهو ينفض أفكاره ليدخل مبنى المطار
أنهى إجراءات دخوله بسرعة وجواز سفره الدبلوماسي يمنحه مزيدا من السرعة

وجد كسّاب ينتظره في صالة الحقائب الداخلية.. لقاء مفعم بالكثير من المودة
وكذا بالكثير من القلق والترقب غير المفهوم
كلاهما يشعران بتوجس مموه غير محدد الملامح
يشعران برائحة شيء مقلق يصطرخ في الأجواء
وكلاهما أيضا يحاول طرد هذه الأفكار من مخيلته!!

لم يكن مع علي سوى حقيبة صغيرة في يده لذا لم ينتظرا مزيدا من الوقت وهما يخرجان متوجهان لسيارة كسّاب المتوقفة في مواقف المطار

استحكم الصمت بينهما للحظات
ليهمس كسّاب بهدوء حذر وعيناه على الطريق: صدق علي أنت جاي تبي تملك على جميلة؟؟

علي يريح رأسه على طرف المقعد ويهمس بهدوءه العميق المعتاد: صحيح

كسّاب بحذر ونبرة مقصودة: ومقتنع؟؟

علي يلتفت له بشكل مباشر ويهمس بثقة: لو مهوب مقتنع ماجيت عاني من جنيف..

كسّاب بنبرة مباشرة: وأسبابك؟؟

علي بهدوء: أحب أحتفظ فيها لنفسي

كسّاب بحدة مباشرة تظهر فيها طبيعته الأصيلة وهو يحاول يوازن بين القيادة والغضب: تدس عليّ ياعليان؟؟

علي بذات هدوءه: كسّاب فيه أشياء أحيانا الواحد يحب يحتفظ فيها لنفسه..
احترم خصوصياتي مثل ما أنا طول عمري محترم خصوصياتكم كلكم

كسّاب باستهزاء غاضب: قصدك سلبيتك اللي تبي تلبسها لبس كشخة اسمه "احترام خصوصيات الآخرين"

علي يتنهد وهو يسند رأسه للزجاج: سمها مثل ما تبي

كسّاب بذات النبرة الغاضبة: أبي أعرف أنت وش طينتك يابارد؟؟

علي بهمس واثق وهو يتنهد
-٢٧-
: نفس طينتك ياولد أمي وأبي

كسّاب يتنهد وهو يحاول السيطرة على غضبه الذي ثار بدون سبب منطقي.. أو ربما كان له سبب!! :
اسمعني ياعلي.. أقول لك قبل نجي للبيت.. لا تفكر يوم أنك تظلم جميلة أو تضيمها حسابك بيكون معي..

علي بذات الهدوء: كسّاب أنت أخر واحد يحق له يتكلم في هذي الحقوق
وعلى العموم جميلة في عيوني.. وما أحتاج أني أخاف من تهديد حد عشان أحطها فوق رأسي
على الأقل عشان خالتي عفرا اللي كانت أمنا أكثر من أمنا اللي يرحمها

كسّاب يعاود التنهد مرة أخرى وهو يحاول السيطرة على أعصابه المتوترة
يشعر بالندم العميق يتسلل لروحه أنه لم يوافق على اقتراح مزون الذي اقترحته عليه
لعدة أسباب ليست جميلة من ضمنها!!

السبب الأول والأهم هو شقيقه الأصغر.. علي
فكسّاب متأكد أن عليا سيتزوج من جميلة مضطرا لذا رفض اخباره بالسبب لأن عليا لا يعرف الكذب.. وفي ذات الوقت لا يريد اخباره الحقيقة كما يظن كساب.
لذا كسّاب كان يتمنى أن يجنب عليا هذا الزواج الذي قد يجلب له التعاسة


" أنا تعيس تعيس.. وهذا الزواج التعيس لن يغير شيئا بالنسبة لي
ولكن عليا كان يعيش بعيدا عن كل هذا الجو المشحون
تمنيت أن أجنبه كل هذا.. تمنيت!!
تمنيت أن أجنبه التعاسة مهما كانت قاهرة
فأنا عظمي أقوى.. والمشاعر لا تهمني.. لكن هو حساس ورقيق
من المؤكد إنه حلم في حياة رومانسية وقصة حب يعيشها مع من سيتزوجها
والتي من المؤكد لن تكون جميلة "


وإن كان السبب الأول هو خوفه على علي
فالسبب الثاني هو خوفه منه.. يخشى ألا يكون علي على قدر المسئولية الملقاة على عاتقه
أن يفشل في الخروج بجميلة من دائرة المرض بمشيئة الله
لينعكس هذا الأمر بكل حزنه ومأساويته على خالته الغالية عفراء..

ويخشى أكثر من كل شيء أن يجتمع السببين
تصاب جميلة بخطب ما لتصبح التعاسة هي مصير كل من علي وعفراء

السبب الثالث الذي يحاول دفنه في قرارة نفسه.. لو أنه تزوج جميلة كان سيجد له منفذا من إلحاح والده المتكرر عليه أن يتزوج..
زوجة والسلام.. أمام الناس.. وأمام والده!!
وليس في الأمر أنه مهتم لإلحاح والده.. ولكن لأن الإلحاح بدأ يتزايد كثيرا مؤخرا وبشكل مزعج!!
فزايد مقتنع أن صلاح حال هذا الشاب غير المفهوم هو في الزواج.. ليثقل على كساب بالضغط المستمر الذي بدأ يُشعر كسّاب بالملل.


يتنهد كسّاب وهو يهمس لعلي: وصلنا البيت.. توضأ للفجر ماعاد باقي على 
الصلاة شيء
صمت لثوان ثم أردف:
وأتمنى إنك تكون على قد قرارك..



*****************



قبل ذلك بساعات
مستشفى حمد
غرفة جميلة


"مزون يا قلبي.. كلمي أبيش وروحي.. أدري أنش تبين تروحين تأكدين من ترتيب غرفة علي وأغراضه قبل يجي"

مزون بحنين عميق: فديت قلبه.. مـــشـــتــــاقة له مووووت..ثلاث شهور ما شفته
ثم قطعت حماسها وهي تردف بحذر: خالتي سألتي جميلة عن رأيها وإلا لأ؟؟

عفراء بإرهاق: الليلة بدوا يخففون لها المنومات.. بكرة الصبح إن شاء الله تكون واعية وبأقول لها إن شاء الله
ثم أردفت بحزن : مع أني والله ماكنت أبيهم يتزوجون بذا الطريقة..
عيالي وأول فرحتي.. كنت أبي أسوي لهم عرس وأنبسط فيهم

مزون بمرح مصطنع تحاول بواسطته تغيير الأجواء الكئيبة: مهوب لو متزوجة إبي.. كان من زمان هو مودي جميلة غصبا عنش.. وكان الحين محتفلين بزواج علي وجميلة مثل الناس

عفراء ضربت خد مزون بخفة حانية: يا ملغش بس.. مملة
كم مرة قلنا ذا الموضوع ممنوع النقاش فيه!!


"لأنك لا تعلمين مزون.. لا تعلمين!!
تمنيت لو أستطعت أن أتزوج زايد من أجلكم أنتم فقط!!
لكن رؤيته أمامي ستعيد لي دائما ذكرى حسرات شقيقتي 
لا أستطيع أن أعيش ذات الحسرة التي عاشتها وسمية حتى ماتت وهي مازالت في عز صباها
وسمية كانت جبارة.. لكن أنا لا.. لا.. لا أستطيع
فهل يكتب لي ربي أن لا أعرف حب رجل حتى لو تزوجت مرتين
خليفة رحل وأنا للتو أتعلم التعبير عن مشاعري
رحل لتموت مشاعري في قلبي
وزايد كان قلبه دوما لأخرى.. 
لم ولن أستطيع مسامحته على مافعله بقلب وسمية الطاهر
حتى وإن كان لم يقصد
حتى وإن كان لم يقصد!!!"

**************

قبل 18 عاما



"هاتي الغزالة..حبيبة قلب خالتها.. ماحبيتها عدل.. مابعد برد خاطري"

عفراء بود غامر: خالتها شكلها تعبانة.. خليها فديتش منش
ثم أشرق وجهها بفرحة مفاجئة: وسوم لا تكونين حامل؟!!

ابتسمت وسمية بإرهاق: أي حامل الله يهداش!!

عفراء بابتسامة مشرقة: وش فيها؟؟ مزون صار عمرها 4 سنين.. وش تتنين بعد؟؟

وسمية بضيق: ما أدري عفراء حاسة إنه صحتي مهيب ذاك الزود..ما أبي أستعجل في الحمال لين أتأكد إن كل شيء عندي زين

عفراء تحاول أن تحمي شقيقتها من مجرد الفكرة التي أثارت أقسى مخاوفها:
وش ذا الكلام يا وسمية؟؟ مافيش إلا العافية.. توش 28 سنة وموسوسة كذا 
أجل لا صرتي 40 وش بتسوين؟؟!!

وسمية بهدوء خائف شفاف: مهوب أنا وبس اللي ملاحظة ذا التعب.. حتى زايد ملاحظ.. وجنني يبي يوديني للمستشفى
بس أنا خايفة ومتوترة وموسوسة على قولتش

عفراء تحاول إدعاء المرح وإبعاد الفكرة
-٣٠-
عفرا
بس الحين ماعاد إلا هو وعياله الثلاثة.. تبيه يعني يقول خلوني أشوفها وهو مهوب حلال لها؟؟
ثم أردف بحنين عميق مؤلم وبهمس خافت: مافي طرف خليفة قاطع

علي يحاول تجاوز ضيقه المتزايد بصورة غريبة.. فهو منذ وطئت قدماه الدوحة وشعور قلق مستنزف يجتاحه: يبه كذا بنتأخر في الموضوع!!

زايد بهدوء وهو يتناول فنجان قهوته من المقهوي الذي يقف بدلة الرسلان: لا متأخرين ولا شيء..
أنا من البارحة أصلا كلمت أحمد.. وبنروح له في بيته بعد شوي




******************




في غرفته يجلس
يشعر كما لو أن هموم الأرض كلها تجمعت لتتزاحم فوق كتفيه
مشوش التفكير.. لأول مرة يشعر أنه عاجز عن التصرف المنطقي أو المناسب
وأكثر ما يؤلمه...... وضحى
كيف امتدت يده الضخمة لخدها الرقيق..
هذه النسمة الرقيقة التي اعتادت أن تمر مر السحاب الهادئ..
لا يريد إجبارها على شيء.. ولكن في ذات الوقت يستحيل أن يخبر عبدالرحمن برفضها
أن ترفضه الشقيقتان على التوالي.. أمر لا يمكن احتماله
لا يمكن أن يضع عبدالرحمن في هذا الموقف
بل يستحيل أن يعرضه لهذه الإهانة!!!

وآخر آخر آخر ماكان ينقصه في فوضى التفكير هذا.. هذا الإعصار الذي اقتحم غرفته!!

" أنت أشلون تجرأ وتمد يدك علي؟!!
يعني عشان اسمك أخينا الكبير شايف لنفسك ذا الحق؟!!
وإلا يمكن عشان عارف إنه ماحد يقدر يوقف في وجهك
ماورانا حد يردك لا تفرعنت علينا
جدي وإلا تميم؟!!
بس لا يا امهاب.. لا.. وأظني إنك تعرف كاسرة من هي
أنا ما أبي لي ظهر رجّال أتحامى فيه..
وأقدر أوقف في وجهك.. وأحمي نفسي وأحمي أختي
وضحى مستحيل أخليك تجبرها على شيء هي ما تبيه لو على قص ربي

مُهاب يقف بحدة مرعبة ولون وجهه ينقلب من الغضب
ولكن كاسرة لا تتأخر حتى خطوة وهي تقف أمامه بكل برود
مُهاب يمسك كفيه ورا ظهره حتى لا يتهور للمرة الثانية
ويهمس من بين أسنانه التي تكاد تتكسر لشدة ضغطه عليها: هذي أخرتها ياكاسرة.. تطولين لسانش على أخيش الكبير؟!!
كاسرة انهدي الله يهد عدوينش
ترا شياطين الدنيا كلها تنطط قدامي.. فروحي إذلفي واتقي شري

كاسرة تقترب خطوة بعد وتهمس ببرود مستفز: ماني برايحة.. ورني وش تبي تسوي؟؟

مُهاب يزفر بحرارة محرقة كحرارة غضبه المستعر.. وهو يفتح كفيه ويغلقهما..
كم كان نادما على صفعها.. ولكنه يود الآن لو يصفعها مئة مرة
وحتى يتقي شر نفسه.. تراجع ليتناول غترته الملقاة على السرير.. ويخرج 
بينما تعالى صراخ كاسرة ورائه: علمن ياصلك ويتعداك.. ترا وضحى مهيب ماخذة عبدالرحمن.. وماعاش من يغصبها على شيء




******************



مقهى لاميزون النجار
شارع سلوى


في زواية الطابق السفلي يجلسان يرتشفان قهوتيهما
يهمس أكبرهما: وش عندك كسّاب؟؟ أعرفك ذا الوقت في شركتك؟؟

كسّاب بهدوء متوتر: ما أدري وش فيني ياعمي.. متوتر من موضوع علي..

يبتسم منصور: يعني عشان إخيك الصغير بيعرس قبلك؟!!

كسّاب باستنكار مستاء: وش ذا الكلام ؟؟ أنا متوتر من تأخير الموضوع
أنا وعلي كنا متفقين إنه يتملك اليوم الصبح بدري.. عشان سفرهم بكرة
بس أبي طلع بسالفة إنه لازم يشور أحمد ولد عم جميلة
يعني لا هو وكيل البنت.. ولا له حكم عليها.. 
وش له هالشكليات اللي مالها داعي.. يأخر علي من غير سبب

منصور بنبرة لا يعرف هل هي غيرة أم حنين: خليفة وهله عند أبيك غير
ثم أردف وهو ينفض رأسه: بعدين أنا أعرف أحمد.. رجّال أجودي وفيه خير
وما أعتقد إنه بيأخرهم 
وخصوصا إنه دايم يقول جميلة بنتكم..

كسّاب بذات التوتر الذي لا يزول: الله يجيب الخير




*********************




بيت فاضل بن عبدالرحمن

صالة البيت السفلية حيث تجلس جوزاء تطعم ابنها فطوره
تنزل شعاع وهي تقفز الدرج قفزا
لتقفز بجوار جوزاء وهي تهمس في أذنها بحماس وبصوت خافت: ماسمعتي أخر الأخبار؟؟؟

جوزاء بغضب لطيف: مفلوجة أنتي؟!! سلمي.. واقعدي مثل الأوادم مهوب القرود

شعاع تدعي الغضب: أجل موتي حرة.. ماني بقايلة لش شيء

جوزاء تهز كتفيها وتعود لإطعام صغيرها: عادي.. أخرتش بتقولين بتقولين
لأنش بتموتين لو ما قلتي

شعاع تشد الصغير وتهمس بحماس: هاتي حسّون أنا بأأكله..

جوزاء تترك حسن الصغير مع خالته وتسند ظهرها للكنب وهي تنظر بشبح ابتسامة لتعابير وجه أختها الصغيرة..كيف تلمع عيناها وتعض شفتيها

بعد مرور دقيقة همست جوزاء بخبث: نضجتي وإلا بعد؟؟

شعاع تضع الطبق والملعقة على الطاولة الصغيرة أمامها وتلف كامل جسدها ناحية أختها: مشكلتش عارفتني.. أنا اشهد أني نضجت ونضجت
خذي القنبلة

ثم صمتت لثانية وهمست بنبرة الأخبار المهمة: عبدالرحمن خطب وضحى

كانت وقتها جوزاء تعاود تناول الصحن وهي تشد ابنها ناحيتها.. فسقط الطبق من يدها وعيناها تتوسعان وهي تهمس بصدمة: من جدش؟؟

شعاع بجدية: ذا المواضيع فيها مزح؟؟

جوزاء تعاود التماسك ثم تهمس بثقة: وضحى أحسن بواجد من أختها المعقدة المغرورة.. الله يوفقهم

شعاع بحماس بريء: بس يعني ما أثار فضولش تغيير عبدالرحمن لرأيه..
لين الأسبوع اللي فات وهو يقول إنه بيرجع يخطب