الشيخ محمد سالم بحيري
14.1K subscribers
416 photos
14 videos
43 files
282 links
قناة تجمع الفوائد المنثورة للشيخ على الشبكة العنكبوتية .. جزاه الله خيرًا و نفعنا بعلومه في الدّارين.
Download Telegram
رُبَّ أشعَث أغبَر .. وكانَ عند الله وليًّا ...
فلا دليل على التحريم وحديث لعن النامصة المراد به ‍النمص تدليسا أو تشبها بالفاجرات، أو ترقيقًا، أما الأخذ بالمعروف بإذن ولي المرأة من غير تدليس على خاطب وخداعه فجائز عند جماهير أهل العلم، وجماهير العلماء على جواز ‍النمص لأنهم فهموا أن هذا اللعن مخصوص بحال بعينها، لأن الشريعة لا ترتب لعنا كهذا على مجرد أخذ شعرات قد أباحت أخذ مثلها من الرأس والوجه والذراع وغير ذلك، والشريعة لا تفرق بين المتماثلات، فعلموا أن هذا اللعن ليس على ما يتبادر لأفهام العوام بل له فقه، فذهب بعضهم لتخصيصه ب‍النمص تدليسا على الخاطب، وحمله بعضهم على ‍النمص حيث كان شعارا للفاجرات يعرف أن المرأة فاجرة محل للريبة إن رؤي منها، واستفاد بعضهم منه منع الأخذ المسرف المشوه لطبيعة الحاجب كزينة للوجه، وفسر بعضهم ‍النمص بالنتف أما الأخذ بالقص فليس نمصا.
ف‍النمص المحرم عند الأكثر هو ما كان:
١- إزالة بالكلية، أو الإسراف في الترقيق، ويؤيد هذا أن الإمام أبو داود صاحب السنن بعد روايته لحديث تحريم النمص قال: ((والنامصة: التي تنقش الحاجب حتى ترقه))، فلم يفهم من النمص المحرم أنه مجرد الأخذ بالمعروف وإنما حمله على الترقيق وهو أخذ بإسراف.
٢- تدليس على خاطب؛ لعموم أدلة منع التدليس. فيجب مصارحة الخاطب بطبيعة الحاجب وترك الاختيار له.
٣- مقصود به فتنة الناس لا إصلاح الزينة المأذون في ظهورها، فتكون حرمته بأدلة خارجية وهي أدلة منع القصد إلى الفتنة ولو بفعل مباح.
٤- على وجه يشبه عمل الفاجرات مثل التقاليع التي تظهر في طرق رسم الحاجب.
٥- النتف وهذا عند أحمد فيجيز الأخذ بالقص دون النتف أما غيره فلا يشترطون هذا بل يجيزون النتف ما دام لم يقع معه مخالفة من المذكورة قبلها.
طيب يا شيخ انتم بتقولوا يجوز بالضوابط وفيه نساء لا تلتزم بالضوابط.
طيب يعني عشان اللي ما بتلتزمش= نحرم على اللي بتلتزم عيشتها؟
على كل حال هذا أوان ذكر مصادرنا من نصوص الفقهاء:
مذهب الأحناف:
في حاشية ابن عابدين: ((النمص: نتف الشعر ومنه المنماص المنقاش اهـ ولعله محمول على ما إذا فعلته لتتزين للأجانب، وإلا فلو كان في وجهها شعر ينفر زوجها عنها بسببه، ففي تحريم إزالته بعد، لأن الزينة للنساء مطلوبة للتحسين، إلا أن يحمل على ما لا ضرورة إليه لما في نتفه بالمنماص من الإيذاء. وفي تبيين المحارم إزالة الشعر من الوجه حرام إلا إذا نبت للمرأة لحية أو شوارب فلا تحرم إزالته بل تستحب اهـ، وفي التتارخانية عن المضمرات: ولا بأس بأخذ الحاجبين وشعر وجهه ما لم يشبه المخنث)) [6/373].
مذهب المالكية:
قال الإمام النفراوي في شرح الرسالة: ((والتنميص هو نتف شعر الحاجب حتى يصير دقيقا حسنا، ولكن روي عن عائشة - رضي الله عنها - جواز إزالة الشعر من الحاجب والوجه وهو الموافق لما مر من أن المعتمد جواز حلق جميع شعر المرأة ما عدا شعر رأسها، وعليه فيحمل ما في الحديث على المرأة المنهية عن استعمال ما هو زينة لها كالمتوفى عنها والمفقود زوجها.
)). [2/314].
وقال الإمام العدوي في حاشيته على شرح الرسالة: ((والمتنمصات بضم الميم وفتح الفوقية والنون وتشديد الميم المكسورة وفتح الصاد بعد الألف فوقية جمع متنمصة وهي التي تنتف شعر الحاجب حتى يصير دقيقا حسنا، والنهي محمول على المرأة المنهية عن استعمال ما هو زينة لها كالمتوفى عنها والمفقود زوجها فلا ينافي ما ورد عن عائشة من جواز إزالة الشعر من الحاجب والوجه) [2/459].
وقال القرافي: ((قال صاحب المقدمات تنبيه لم أر للفقهاء المالكية والشافعية وغيرهم في تعليل هذا الحديث إلا أنه تدليس على الأزواج ليكثر الصداق ويشكل ذلك إذا كانوا عالمين به وبالوشم فإنه ليس فيه تدليس وما في الحديث من تغيير خلق الله لم أفهم معناه فإن التغيير للجمال غير منكر في الشرع كالختان وقص الظفر والشعر وصبغ الحناء وصبغ الشعر وغير ذلك)). [13/315].
قلت: والتدليس مفهوم في النمص، ويكون حمل التغيير على ما زاد على مجرد الجمال بأن كان فيه إسراف يشبه عمل الفاجرات= معنى معقول للتغيير الممنوع.
والشاهد هنا: أنه مال لاستشكال النص لا للقول بموجبه على خلاف باقي شواهد الشريعة.
مذهب الشافعية:
قال الإمام الماوردي رحمه الله في الحاوي الكبير : ((فأما النامصة والمتنمصة : فهي التي تأخذ الشعرَ من حول الحاجبين وأعالي الجبهة ، والنهي في هذا كله على معنى النهي في الواصلة والمستوصلة) )
أي : على التفصيل المذكور في الواصلة والمستوصلة .
وقد قال فيه قبله بأسطر : (( أن تكون ذات زوج تفعل ذلك للزينة عند زوجها ، أو أمة تفعل ذلك لسيدها ، فهذا غير حرام ؛ لأن المرأة مأمورة بأخذ الزينة لزوجها من الكحل والخضاب .... وحكي عن أحمد بن حنبل : أنه منع من ذلك بكل حال : لأن النهي عام ، وما ذكرناه أصح)([2/257].
قلت وهذا التفصيل في الواصلة الذي ألحق به الإمام الماوردي النمص= هو الذي عليه أئمة الشافعية ما عدا النووي الذي أطلق القول بتحريم النمص في شرح مسلم.
قال الشيخ محمد سالم بحيري: فيما يتعلق بالنوويِّ فقد حكى عنه الخطيب الشربيني والرملي أنه رجح التفصيل المشهور بين إذن الزوج وعدمه في (الروضة) ، وعبارة الرملي : (وتحمير الوجنة بالحناء ونحوه، وتطريف الأصابع مع السواد، والتنميص، وهو الأخذ من شعر الوجه والحاجب المحسن، فإن أذن لها زوجها أو سيدها في ذلك جاز؛ لأن له غرضا في تزيينها له كما في الروضة، وأصلها) .
ولم أرَ ذلك في المطبوع من (الروضة) ، مع عدم الوثوقية بالطبعات الموجودة حاليًّا ، ولم أراجع نسخًا خطية جيدة ، اللهم إلا أن يكون قولهم : (كما في الروضة وأصلها) راجعًا إلى التحمير والتطريف .
والتفصيل المشهور بين إذن الزوج وعدمه هو إطباق محققي علماء المذهب كشيخ الإسلام زكريا والخطيب والهيتمي والرملي .
مذهب الحنابلة:
في المذهب ثلاثة أقوال في النمص:
الأول: ما نص عليه الإمام أحمد أنَّ النماص المحرم هو نتف شعر الوجه، أما إصلاح الحاجب عن طريق الحلق (الحف) فجائز عند الإمام أحمد بل وكان يفعله.
قال ابن قدامة في المغني: ((فأما النامصة: فهي التي تنتف الشعر من الوجه، والمتنمصة: المنتوف شعرها بأمرها، فلا يجوز للخبر. وإن حلق الشعر فلا بأس؛ لأن الخبر إنما ورد في النتف. نص على هذا أحمد)). [1/70].
أخبرنا الوراق قال: حدثنا مهنا أنَّه سأل أبا عبد الله - أي: أحمد بن حنبل - عن الحف، فقال: ليس به بأس للنساء. قال: وسأله عن النتف، فقال: أكرهه للرجال والنساء. وقد كان أحمد يأخذ من حاجبه وعارضه.
والثاني: وهو وجه عند الحنابلة، قال الشيخ عبد الوهاب بن مبارك الأنماطي: إذا أخذت المرأة الشعر من وجهها لأجل زوجها بعد رؤيته إياها فلا بأس به، وإنَّما يذم إذا فعلته قبل أن يراها؛ لأنَّ فيه تدليسًا.
والثالث: ما ذهب إليه الإمام ابن الجوزي من أنَّ حديث النامصة محمول على التدليس أو على الفاجرات. فيكون النماص المحرم ما تفعله المرأة على وجه التدليس أو بقصد التشبه بالفاجرات.
وقال ابن حجر في فتح الباري: ((قال بعض الحنابلة (منهم ابن الجوزي): "إن كان النمص أشهر شعار للفواجر= امتنع، وإلا فيكون تنزيها". وفي رواية: "يجوز بإذن الزوج، إلا إن وقع به تدليس (أي غش) فيُحرَّم". قالوا: ويجوز الحف والتحمير والنقش والتطريف إذا كان بإذن الزوج لأنه من الزينة)). [10/378].
أما من ذهب لتحريم النمص فأهمهم في حدود بحثي: عياض (وقوله ليس صريحا) النووي (مع ملاحظة ما نقلناه بالأعلى من حكاية القول بالجواز بضوابط عنه)، وابن رسلان، والطبري وابن حزم، وكثير من المعاصرين، أما جماهير الفقهاء فقد أثبتنا أقوالهم بالأعلى بما يغني عن البيان ويغلق الباب أمام المكابرة وضعف التحرير.
والحمد لله رب العالمين.
حكم ارتداء المرأة للبنطلون داخل الصلاة ، وأمام الأجانب .
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعدُ ؛ فهذا تفصيل في حكم صلاة المرأة بالبنطال ، وكذا حكم بروزها به أمام الأجانب .
وفيه تمهيدٌ وأربع مسائل وخلاصة :
أما التمهيد ؛ فإن الفقهاء يفرقون بين صلاة المرأة بما يحجم أعضاءها وبين بروزها أمام الأجانب بما يحجم أعضاءها ، ذلك أن المعنى في الاستتار في الصلاة إنما هو الأدب مع الله سبحانه لا الفتنة ، أما المعنى في الاستتار بحضرة الأجانب فإنه الفتنة .
أما المسائل فهي أربع تتلوها خلاصةٌ :
المسألة الأولى : حكم صلاة المرأة بالبنطلون.
المسألة الثانية : حكم بروز المرأة بالبنطلون أمام الأجانب .
المسألة الرابعة : ضابط تحجيم العورة المُحرَّم .
المسألة الرابعة : تحقيق المناط في أمر البنطلون .
وهاك تحقيق المقام .
===
المسألة الأولى : صلاة المرأة بالبنطال في غير حضرة الأجانب .
أما عن صلاة المرأة في البنطلون فقد نصَّ السَّادة الشافعية وغيرهم على أنه لا يضرُّ في ستر العورة في الصلاة كونُ السَّاتر مُحَجِّمًا ، بل الذي يضرُّ كونه واصفًا للون.
ونصَّ أصحابُنا الشافعية على أنَّ الصلاة في السروال الضيق للمرأة مكروهٌ ، وخلاف الأولى للرجل ؛ خلافًا لبعض إخواننا الذين ظنوا تفرد الشافعية بهذا الأمر .
قال العلامة الهيتميُّ رحمه الله في «الإيعاب شرح العباب» (ج2/ق115/نسخة المكتبة الأزهرية) : «(بخلاف ما يحكي حجم الأعضاء لا لونها كسروايل ضيقة تحكي حجم الألية والركبة ونحوهما ، فإنه يكفي ، قال الماوردي وغيره : لكنه مكروه (للمرأة ، وخلاف الأولى للرجل)» .
ونحوه قوله في «الإمداد» (ج1/ص108/نسخة المكتبة الظاهرية) ، و«فتح الجواد» (ج1/ص218) .
وقال الرمليُّ في «النهاية» (ج2/ص8) : «(وشرطُه) أي الساتر (ما) أي جرمٌ (منع إدراك لون البشرة) وإن حكى حجمها كسروال ضيق لكنه مكروه للمرأة ، ومثلها الخنثى فيما يظهر، وخلاف الأولى للرجل» .
وهذا الذي نصَّ عليه الشافعية في أن صلاة بالبنطال مكروهة كراهة تنزيه للمرأة ، وخلاف الأولى للرجل = لم يتفردوا به ، بل نصَّ على نحوِه غيرُهم من المذاهب الأربعة .
ومن نصوص السادة الحنفية قولُ العلامة الحصكفيِّ الحنفيِّ رحمه الله في «الدر المختار مع حاشية ابن عابدين» (ج1/ص410) : «ولا يضر التصاقُه وتشكله» .
قال العلامة ابن عابدين رحمه الله : «قوله : (ولا يضر التصاقُه) أي : بالألية مثلًا» .
ومن نصوص السادة المالكية قول الإمام القرافي رحمه الله في «الذخيرة» (ج2/ص108) : «فإنْ كانَ شفَّافًا فهو كالعدم مع الانفراد ، وإن كان يصف ولا يشف كُرِهَ وصحَّت الصلاة» .
وقول العلامة الباجيّ رحمه الله في «المنتقى شرح الموطأ» (1/335) : «ويُكرَهُ الرَّقيق الصفيق من الثياب ؛ لأنه يلصق بالجسد ، فيبدو حجمُ ما تحته ، وفيه بعض الوصف لما تحته» .
ومن نصوص السادة الحنابلة في ذلك قول العلامة البهوتي رحمه الله في «كشاف القناع» (ج1/264) : «( فإن ) ستر اللون و ( وصف الحجم ) أي حجم الأعضاء ( فلا بأس ) لأن البشرة مستورة ، وهذا لا يمكن التحرز منه » .
المسألة الثانية : حكم بروز المرأة بالبنطلون أمام الأجانب .
نصَّ بعض محققي السادة الشافعية على تحريم بروز المرأة بما يحجم أعضاءها .
ومن ذلك قول العلامة ابن الملقن رحمه الله في «التوضيح شرح الصحيح» (ج9/ص51) - [في شرح حديث : «ربَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة] - : «وقوله: (كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ) يريد: كاسية بالثياب الواصفة لأجسامهن لغير أزواجهن، ومن يحرم عليه النظر إلى ذلك منهن، وهن عاريات في الحقيقة، فربما عوقبت في الآخرة بالتعري الذي كانت إليه مائلة في الدنيا مباهية بحسنها، فعرف - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة تعصم من شر ذلك، وقد فسر مالك أنهن لابسات رقيق الثياب، وقد يحتمل -كما قَالَ ابن بطال- أن يريد - صلى الله عليه وسلم - بذلك النهي عن لبس رقيق الثياب واصفًا كان أو غير واصف خشية الفتنة » .
فقوله رحمه الله : «الواصفة لأجسامهن» أي : المحددة لحجم الأعضاء لا الشافة ؛ لأنه قابله بقول مالك رضي الله عنه في التفسير بأنها الرقيقة ، أي : التي تشفُّ عما تحتها ، ثم حكى عن ابن بطال أنه لا مانع من شموله للمعنيين ؛ الشاف لما تحته لرقته ، والواصف لما تحته لضيقه .
وكذا نصَّ غيرُهم على ذلك .
قال العلامة أبو العباس القرطبي في «المفهم» (ج5/ص449) [في شرح حديث : (صنفان ...] : «وقوله : (( ونساء كاسيات عاريات )) ؛ قيل في هذا قولان : أحدهما : أنهن كاسيات بلباس الأثواب الرقاق الرفيعة التي لا تستر منهن " حجم عورة " ، أو تبدي من محاسنها - مع وجود الأثواب الساترة عليها - ما لا يحل لها أن تبديه ، كما تفعل البغايا المشتهرات بالفسق . وثانيهما : أنهن كاسيات من الثياب ، عاريات من لباس التقوى ؛ الذي قال الله تعالى فيه : { ولباس التقوى ذلك خير }. قلت : ولا بُعدَ في إرادة القدر المشترك بين هذين النوعين ؛ إذ كل واحد منهما عُرُوٌّ ؛ إ
نما يختلفان بالإضافة» .
وهو قولٌ وجيهٌ جدًّا ؛ إذ لا مانع من حمل الحديث على من تلبس ما يشف عن لون بشرتها ، أو تلبس ما يبين حجم عورتها ، ومن كانت حالُها كذلك فهي كاسية من الثياب عارية من التقوى .
وقال العلامة الباجي رحمه الله : «المنتقى» (ج7/ص224) : «ويحتمل عندي - والله أعلم - أن يكون ذلك لمعنيين ؛ أحدهما الخفة فيشف عما تحته ، فيدرك البصر ما تحته من المحاسن ، ويحتمل أن يريد به الثوب الرقيق الصفيق الذي لا يستر الأعضاء ، بل يبدو "حجمها"» ، ثم قال : «قال مالك رحمه الله : بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى النساء أن يلبسن القباطي ، قال [أي : عمر رضي الله عنه] : (وإن كانت لا تشف فإنها تصف) ، قال مالك : (معنى تصف أي : تلصق بالجلد) ، وسأل مالك عن الوصائف يلبسن الأقبية فقال : (ما يعجبني ذلك ، وإذا شدتها عليها ظهر عجزها) ، ومعنى ذلك أنه لضيقه يصف أعضاءها عجزها وغيرها مما شرع ستره ، والله أعلم وأحكم) .
وقال القاضي عياض رحمه الله في «مطالع الأنوار على صحاح الآثار» (ج6/ص68) [في شرح أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نهيه عن القباطي وقوله في وصفها : «فإنه إلا يشف فإنه يصف] : «قوله: (إلا يشف فإنه يصف يَشِفَّ فَإِنَّهُ يَصِفُ) بفتح الياء وشد الفاء وكسر الشين ، ومعناه: إن لم يُبْدِ ما وراءه من الجسم ويظهره لصفاقته مع رقته فإنه يصف ما وراءه للصوقه به حتي يبدو حجم الجسم وتتبين الأعضاء ، والشف: الثوب الرقيق المهلهل النسج الذي يبدو معه لون ما وراءه، وكذلك (كل جسم يظهر من أمامه ما وراءه) فهو شفاف كالزجاج وغيره» .
ونحوُه قول العلامة ابن الحاجب رحمه الله في مختصره المشهور «جامع الأمهات» (ص563) : «ويحرم على النساءِ لباسُ ما يصفُ أو يشفُّ» .
كذلك نصَّ السادة الحنفية على حرمة النظر إلى المتشكل ، أي : الملتصق بالبدن ، وقضية النظر لها تعلقٌ بنائي من وجه ما بحكم الملبوس .
قال العلامة الكاساني رحمه الله : «وإن كان ثوبُها رقيقًا يصف ما تحته ويشف ، أو كان صفيقًا لكنه يلتزق ببدنها حتى يستبين له جسدها فلا يحلُّ له النظرُ ؛ لأنه إذا استبانَ جسدَهَا كانت كاسية صورة عارية حقيقة ، وقد قال النبي : (لعن الله الكاسيات العاريات)» .
وقال العلامة ابن عابدين رحمه الله في «حاشيته» (ج1/ص410) : «هل يحرم النظر إلى ذلك المتشكل مطلقًا أو حيث وجدت الشهوة ؟ قلت : ... الذي يظهر من كلامهم هناك هو الأول» .
وهذه الأقوال وإن كانت من مالكية وغيرهم إلا أنها لا تخالف منصُوصًا لأصحابنا الشافعية ، بل توافقهم كما سبق إيرادُه نصًّا عن ابن الملقن رحمه الله ، وهو من أكابر أصحابنا .
وقد أنكر العلامة التاج السبكيُّ رحمه الله على أناسٍ يظنون أن المذهب ما في «الروضة» و«الشرح» فحسب ، ووقعت له في ذلك واقعة .
قال رحمه الله في «ترشيح التوشيح» (ق 84 / نسخة المكتبة الظاهرية) – وهو يناقش معترضًا - : «أَعْجَبُ من اعتقادِه أنه ليس في الدنيا فقهٌ إلا ما في (الرافعي) و(الروضة)» .
وقال رحمه الله : «لما وليت الخطابة والإمامة بجامع بني أمية : صرت أصلي ليلة الجمعة في صلاة العشاء بالجمعة والمنافقين ؛ للحديث الوارد في صحيح ابن حبان ، بلغني أن متكلمًا تكلم في ذلك لكونه ليس في الرافعي، فعرفتُ المبلغ أن في ذلك حديثًا صحيحًا ، وأن صاحب «المهذب» ذكر الحديث في كتابه، وأن شيخ الإسلام أبا عثمان الصابوني من أئمة أصحابنا كان لا يترك ذلك سفرًا ولا حضرًا ، فالمسألة فيها سنة، وهي أوضح من أن تنكر، وكم من واضحةٍ ليست في الرافعي قُدِّرَ تركُها ؛ إما لوضوحها أو لغير ذلك» .
فقال رحمه الله : «وإذا ظَنَّ مجهولٌ أنَّ الفقه مقصورٌ على ما يعهده ويألفه فليس بمأمون أنْ يُنْكِرَ الحكم في وقائع منصوصةٍ للشَّافعيِّ والأصحاب لكونه لم يدرها، وما مَثَلُ مَنْ في حسبانه الحبس أنَّه ليس في الدُّنيا شيءٌ إلا في الرافعيِّ إلا مَثَلُ نملة ظنَّت أنَّه ليس في العالم سماء إلا سقف بيتها، ولا أرض إلا عرصة دارها، ولو خَالَطَ هذا أهلَ العلم حقيقة، ومارس الكتب لما سرى إليه شيء من هذا الحُسْبَان» .
وفتاوى أصحابنا فيما ما لا يحصى من الاستدلال بكلام المالكية وغيرهم إذا لم يكن مخالفًا لمنصوصٍ أو مقتضى عندنا .
ولا يشكلُ على هذا أن النوويَّ رحمه الله لما فسَّر حديث الكاسيات العاريات فسره بأنهن يلبسنَ ما يبدي لون بشرتهن ؛ فإن هذا ليس من قبيل المخالفة الحكمية ، وإنما هو من قبيل التحرير الدلالي ؛ فالنووي مخالف في الدلالة لا في الحكم .
كذا لا يشكل على هذا قول ابن حجر الهيتمي رحمه الله في «المنهاج القويم شرح المقدمة الحضرمية» : «(وشرط الساتر) في الصلاة وخارجها أن يشمل المستور لبسًا ونحوه مع ستر اللون فيكفي (ما يمنع) إدراك (لون البشرة ولو) حكى الحجم كسروال ضيق ؛ لكنه للمرأة مكروه وخلاف الأولى للرجل».
فقول ابن حجر الهيتميِّ : «وخارجها» لا يريدُ به أمام الأجانب ، وتفسيرها بذلك غلطٌ على الأصحاب ، وإنما يريدُ بها : «في الخلوة» ؛ إذ أصحابنا يوجبون الستر في الخلو
ة أدبًا مع الله سبحانه (والواجب على المرأة في خلوتها ستر ما بين السرة والركبة) .
ويدلُّك على ذلك أن العلامة الترمسي صاحب الحاشية النفسية قال في هذا الموضع في «حاشيته» (ج3/ص220) : (قوله : (في الصلاة وخارجها) أي : : ولو في الخلوة) .
وقوله هذا بيان لمراد الهيتمي بخارج الصلاة ، وليس بيانًا للماصدق البعيد تنبيهًا عليه .
كذلك يدلك على أن المراد بالخارج الخلوة قول العلامة الكردي في حاشيته النفسية المسماة بـ «المواهب المدنية» (ج1/ق193/نسخة سعود) [عند قول الهيتمي : (ولا يجب الستر من أسفل)] : «قوله : (من أسفل) سواءٌ كان خارج الصلاة أم فيها ، فلو رؤيت عورته منه كأن صلى بمكان عالٍ لم يؤثر».
ولا يفهم أحدٌ من هذا النصِّ أن خارج الصلاة بأن يجوز له الصلاة على هذا الحال مع علمه بأنه بمحضر أجانب لا يتحرزون عن النظر إلى عورته .
ولبيعذرني القارئ على هذا الاستطراد في حل الإشكال ؛ فإنه لا بد .
والخلاصة أن نصوص أصحابنا دالة على تحريم بروز المرأة بثياب محجمة لأعضائها .
ولكن يبرز سؤال : ما ضابط تحجيم العورة المحرم ؟ وهل كلُّ تحجيم محرم ؟
===
المسألة الثالثة : ضابط التحجيم المحرم .
وقع في نصوص جماعة من الفقهاء في كلامهم عن بعض صور التحجيم للعورة قولهم : «وهذا [أي : هذه الصورة] مما لا يمكن الاحتراز عنه» .
وهذا يدلُّك على أنه ليس كلُّ تحجيم محرمًا .
فنقول : التحجيم ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ :
القسم الأول : تحجيمٌ لا يمكن الاحتراز عنه ، وهذا معفوٌّ عنه ، ولا يتصور أن يرد فيه خلافٌ من حيثية التحريم ، نحو تحجيم الحذاء للقدم ، وتحجيم الخمار للرأس ، ونحو ذلك .
القسم الثاني : تحجيمٌ يشقُّ الاحتراز عنه ، وهذا معفوٌّ عنه كذلك ؛ لمشقة الاحتراز عنه ، وهو منقسم إلى نوعين :
النوع الأول : تحجيمٌ أصلي : وهو ما تعلق بطبيعة الثياب ، كتحجيم الجلباب الفضفاض للكتف وأعلى الظهر ونحوهما ، والتحجيم الناتج عن القعود أو الركوع أو السجود بحضرة الأجانب ، ونحو ذلك .
النوع الثاني : تحجيمٌ طارئ : وهو ما كان تعلقه بأمرٍ خارجي ، كتحجيم الثوب الملتصِق بالمرأة بسبب الريح ، فهذا معفوٌّ عنه ، لكن تجافيه المرأة بقدر استطاعتها .
فهذا القسمُ بنوعيه من قبيل المعفو عنه .
القسم الثالث : تحجيم لا يشقُّ الاحترازُ عنه ، وهذا هو المُحَرَّم ، لأنه يضيع مقصود الشارع من الستر ، وهو درء الفتنة ، وذلك نحو تحجيم الثوب الضيق لعورة المرأة ، فهذا تحجيم لا يشق الاحتراز عنه ، ومن ثم فهو محرمٌ ؛ لما سبق إيراده من النصوص (حديث « صنفان ..» وغيره) .
المسألة الرابعة : تحقيق المناط في أمر البنطلون .
يجري على ألسنة بعض المفتين قولهم : «إن الشارع لم يحدد زيًّا معينًا للمرأة ، بل حدد أوصافًا ، فإذا توافرت جاز ، فإذا كان البنطلون فضفاضًا جاز ، وإلا فلا» .
وهذا الكلام أوله حقٌّ ، ولكن يرد عليه إشكال متعلق بتحقيق المناط .
وذلك أنه لا يتصور أن يكون البنطال فضفاضًا ابتداءً في أعلاه ، فإنه ولا بد محجم للأليتين ، كذلك لا يتصور أن يكون البنطال فضفاضًا في وسطه ، فإنه ولا بد محجم للفخذين دوامًا ، فلا بد أن يحجما حال المشي ، أو حال القعود ، وهذا تحجيم لا يشق الاحتراز عنه .
فالحاصل أن لبس المرأة للبنطلون له صورتان :
الصورة الأولى : أن يكون فوق البنطال ثوبٌ فضفاضٌ يمنع من رؤية أعضاء المرأة مُحَجَّمَة ، ينزل إلى نهاية الفخذين أو الركبة ، وفي هذه الحالة فهو جائزٌ ؛ لأن الثوب الفضفاض فوقه منع من تحجيم الأليتين والفخذين ونحو ذلك .
الصورة الثانية : ألا يكون فوقه ثوبٌ فضفاض يستر إلى نهاية الفخذين أو الركبة ، أو يكون فوقه ثوبٌ لكنه ينزل إلى مبدأ الفخذين فقط ، ومن ثم فالفخذان محجمان = فهذا يحرم .
والخلاصة ؛ أن شرط جواز لبس البنطلون للمرأة : أن يكون فوقه ثوبٌ فضفاضٌ ينزل إلى الركبة ، فيمنع من ظهور أعضاء المرأة مُحَجَّمَة .
وهذا طبعًا مع كون البنطال نفسه فضفاضًا .
هذا ما كان .. فإن كان حقًّا فمن الله ، وإن كان باطلًا فمني ومني الشيطان ، والله وروسوله منه براء .
والسلام .
• هل حرَّم السَّلفُ النمصَ فأحلَّه الفقهاءُ ؟ (دراسة أثرية وبحث أصولي) .
• فقال صاحبي : قول الشافعية بجواز النمص يخالف مذهب السلف ، فإن عبد الله بن مسعودٍ قد أفتى بحرمته .
• قلتُ : هذا كذبٌ على عبد الله مسعودٍ رضي الله عنها ؛ فإن الرواية في المحاورة التي دارت بين ابن مسعودٍ داخل الصحيحين وخارجهما لم تبين مقصود المرأة ، ففي الرواية أن ابن مسعود حدث بالحديث ، فقالت له المرأة : «فإني أرى شيئًا من ذلك على امرأتك» .
• السؤال الآن : أيُّ شيء من الأشياء الثلاثة التي ذكرها ابن مسعودٍ رضي الله عنه ؟! لم تبين الرواية ذلك ، فحملك لكلمة «ذلك» على النمص رجم بالغيب ، وشيءٌ من عند نفسِك .
• ولم تأتِ رواية مبينة لمراد المرأة اللهم إلا روايتين :
• الأولى : رواية البزار في «مسنده» (ج4/ص295) قال : حدثنا يوسف بن موسى قال: نا جرير قال : نا منصور بن المعتمر أبو عتاب عن إبراهيم، عن علقمة قال: قال عبد الله: «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله» ، فاعترضت المرأة ، ثم قالت [ركز في دي الله يسترك] : «إن أوَّلَ شيءٍ من ذلك على امرأتك» .
• جميل ، وما أول شيءٍ من ذلك ؟! إنه الوشم ، فدخلت المرأة ، فلم ترَ شيئًا ، انتبه ! المرأة في هذه الرواية قصدت الوشم لا النمص.
• ورغم أن هذه الرواية رجالها ثقات رجال البخاري ، إلا أن يوسف بن موسى تفرد بهذا الحرف عن مخرج الحديث (جرير بن عبد الحميد) ، فكلهم رووا اللفظ مجملًا (أي : إني أرى شيئًا من ذلك على امرأتك) ، ورواه هو على هذا النحو (أي : قال : إن أول شيءٍ من ذلك على امرأتك) .
• فقد رواه بالإجمال [أي : بلفظ : (شيئًا من ذلك على امرأتك)] : إسحاق بن إبراهيم وعثمان بن أبي شيبة (كما عند مسلم 3/1678) ، ومحمد بن عيسى الطباع (كما عند أبي داود 30/151) ، وهم ثلاثة من الثقات الأثبات .
• أما يوسف بن موسى القطان فتفرد عنهم فقال : (إن أول شيء من ذلك على امرأتك) ، ومثل هذا التفرد عن الثلاثة قد لا يحتمل في مسالك المحدثين .
• الثانية : رواية الشاشي في «مسنده» (ج2/ص377) ، التي يرويها عبد الملك بن عمير عن العريان بن الهيثم عن قبيصة بن جابر قال : «كنا نشارك المرأة في السورة من القرآن نتعلمها ، فانطلقت مع عجوز من بني أسد إلى ابن مسعود في بيته ، فرأى جبينها يبرق ، فقال : أتحلقينه ؟ فغضبت ، ثم قالت : التي تحلق جبينها امرأتك» ، قال : فادخلي عليها ، فإن كانت تفعله فهي مني بريئة ، فانطلقت ، ثم جاءت فقالت : لا والله ما رأيتها تفعله» .
• وهي رواية عرجاء شلاء من طريق العريان بن الهيثم ، ولم يوثقه إلا ابن حبان ، ومن ثم لا تقوى على مجابهة الرواية السابقة المفسرة لموضع الإنكار بالوشم (مع المقال السابق فيها) ، ولا الرواية المجملة المشهورة (وهي صحيحة).
• الحاصل أن لا يصح عن ابن مسعودٍ تفسير للنمص .
• والعجيب أن الشيخ الألباني رحمه الله وطيب ثراه ضعَّف أثر عائشة المشهور في الحفِّ ؛ احتجاجًا بأن امرأة أبي إسحاق السبيعي مجهولة لم يوثقها إلا ابن حبان ، وحسَّن هذه الرواية ، وهذا عجيب جدًّا ؛ إذ يلزم مَنْ ضَعَّفَ أثر عائشة مهدرًا توثيق ابن حبان أن يضعف رواية ابن مسعودٍ ؛ فكلٌّ من العريان بن الهيثم وامرأة أبي إسحاق مجهولا لم يوثقهما إلا ابن حبان ، أما أن يعتبر توثيق ابن حبان في موضع دون موضع ، فهذا مسلك عجيبٌ .
• فقال لي صاحبي : سلمنا لكَ أن الرواية لم تحدد موقع الإنكار أهو النمص أو الوصل أو التفلج ، فيشهد لي أن عبد الله بن مسعودٍ حمل هذه الألفاظ الثلاثة على عمومها ، ولم يخصصها ، ولم يفصل للمرأة ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
• قلتُ : وهذا كلام في الظاهر أصوليٌّ ، ولكن ساقطٌ ، وفيه ثلاثة أغلاط : غلط في التكييف الأصولي ، وغلط في تنزيل القاعدة الأصولية ، وغلط على ابن مسعودٍ رضي الله عنه .
• أما غلطك في التكييف الأصولي للنص محل البحث فهو توصيفك للوقت بأنه وقت حاجة ، وليس ذلك وقت حاجةٍ ، وإنما يسمى عند الأصوليين وقتَ خطابٍ ، ووقت الحاجة هو الوقت الذي يتوجب عليه المكلف العملُ بأمر الشارع على الفور ، ويجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب عند أكثر الأصوليين ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة اتفاقًا .
• وأما غلطك في تنزيل القاعدة الأصولية فهو أن هذه القاعدة ليس محلها الصحابة باتفاق ، إنما محلها النبي صلى الله عليه وسلم ، تستصحب فيه ، لا يجوز له صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، أما الصحابة فلا ؛ إذ لا يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يؤخر البلاغ عن وقت الحاجة ، بخلاف غيره .
• ومع ذلك فيجوز للعالم أن يترك النصَّ على عمومه للمستفتي منعًا من استهانته ، كما كان سفيان بن عيينة يكره تفسير «من غشنا فليس منا» .
• والمفتي لا يتعين عليه الجواب أو التفصيل إلا بشرائط سبعة ليست متوافرة في هذه الحالة .
• وأما غلطك على ابن مسعود رضي الله عنه فإنك قد وكلت نفسك في تفسير النمص بالنيابة عن ابن مسعودٍ ، وفسرته بأنه نتف ال
شعر من الحاجب ، ولا ندري من أين لكَ نسبة (ركز في كلمة «نسبة» ) ذلك لابن مسعودٍ ؟!
• فإن النمص مختلف في تعريفه لغة على ثلاثة أقوال :
• فيعرفه أهل اللغة بأنه نتف الشعر من الوجه مطلقًا ، ولا يخصصون ذلك بالحاجب إلا إذا دلت قرينة في الكلام على إرادته.
• قال الجوهريُّ رحمه الله في «الصحاح» (ج3/ص1060) : «النَمْصُ: نتفُ الشَعْرِ. وقد تَنَمَّصَتِ المرأةُ ، ونَمَّصَتْ أيضاً ... والنامصة: المرأة التى تزين النساء بالنمص. والمنمص والمنماص: المنقاش» .
• وقال الأزهريُّ في «تهذيب اللغة» (ج12/ص148) : «قال الفراء: النامصة: التي تنتف الشعر من الوجه، ومنه قيل للمنقاش : (منماص)، لأنه ينتف به والمتنمصة هي التي يفعل ذلك بها ... وامرأة نمصاء تتنمص، أي: تأمر نامصة فتنمص شعر وجهها نمصًا؛ أي: تأخذه عنها بخيط» .
• القول الثاني في المسألة ، هو قول أبي داود رحمه الله ، حيث فسَّر النمص في «سننه» فقال : «والنامصة التى تنقش الحاجب حتى ترقه والمتنمصة المعمول بها» .
• القول الثالث : هو قول الماوردي في «الحاوي الكبير» (ج2/ص257) : «فأما النامصة والمتنمصة : فهي التي تأخذ الشعر من حول الحاجبين وأعالي الجبهة» .
• فهذه ثلاثة أقوال في بيان معنى النمص في اللغة (نتف الشعر من الوجه ، نتفه من الحاجب ، نتفه من الحاجب وأعلى الجبهة) ، فيلزمك فيها أمران :
• الأول : أن تثبت نسبة أحدها لعبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه ، وهذا سبيلٌ دونه خرط القتاد .
• الثاني : أن ترجح بينها ؛ طالما أنك رجلٌ مجتهد ترجح بين المذاهب الأربعة والظاهرية، وتختار منها قولًا .
• وإن رجحت فدلل على ترجيحك من لغة العرب .
• فهيَّا يا صاحبي رجِّح لنا بين الفراء والجوهري والأزهري ، في مقابلة أبي داود ، في مقابلة الماوردي !
• وإذا أحببت أن أساعدك فاعلم أن العرب تقول : «رجلٌ أنمص الجبين» ، وقال امرؤ القيس :
• ويَأْكُلْنَ من قَوٍّ لَعاعًا ورِبَّةً * تَجَبَّرَ بعد الأكل وهو نميصُ .
• الأمر ليس بهذه البساطة يا صاحبي !
• قال الشافعيُّ رضي الله عنه في «الرسالة» (ص510) : «ولا يكونُ لأحدٍ أن يقيسَ حتى يكون عالمًا بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان العرب» .
• وهذا في القياس ، فمابالك بمنطوق الشارع !
• طبعًا إذا قلتَ لي : إن النمص من الألفاظ المنقولة من المعنى اللغوي لمعنى شرعي ساعتها ينتهي النقاش ، وتحتاج إلى مطالعة كتاب مبتدئ في أصول الفقه ؛ لتعرف معنى اللفظ المنقول .
• فقال لي صاحبي : دعنا من تفسير النمص ، فلتسلم لي جدلًا أن النمص هنا بمعنى نتف شعر الحاجب لا غيرُ ، فما الحجة على تخصيص الحديث بالمُغَرِّرَة بالخطاب ، وعدم العمل بعمومه ، أجاء نصٌّ عن رسول الله صلى الله عليه يفيد هذا التخصيص ؟
• قلتُ : هذا هو الإشكال الذي يعشش في رأسك ، ويحدث دخنًا يحول بينك وبين فهم مدارك الفقهاء ، وهو أنك تتصور أن النص لا يتخصص عمومُه إلا بنصٍّ آخر ، والفقهاء يخصصون بغير ذلك كما هو معلومٌ عند الأصوليين .
• وقد حكى الإسنوي عن الشافعي رضي الله عنه «التمهيد في تخريج الفروع على الأصول» (ص375) جوازَ أنْ يستنبطَ المجتهدُ من النصِّ معنى يخصصه .
• ووجه التخصيص هنا : أن لا فرقَ معتبرٌ بين أخذ شعر الجبين والشارب واللحية ، وشعر الحاجب : من حيث كون كل منها زينةً تعتادها المرأة .
• فأجزنا أخذ شعر اللحية والشارب وأطراف الوجه بمقتضى التخصيص بالعادة (وهو أنه من المعلوم ضرورة أن نساء المسلمين سلفًا وخلفًا لم يكنَّ يُمْنَعْنَ من هذا الأمر ، ولو منعن لعرف ذلك ، وتوارثه الناس ، مع استقباحه عند جميع العقلاء) .
• وأجزنا أخذ شعر الحاجب بالتخصيص بالمعنى المستنبط ؛ فلا فرقَ مؤثرٌ بين شعر الحاجب وبقية شعور الوجه ، والفروق الموجودة فروقٌ طردية غير مؤثرة ، فوجب حمل النصِّ على المُغَرِّرَة ، فتكون العلة التغرير بالخُطَّابِ ، وليس مجرد الأخذ .
• فإن قلتَ يا صاحبي : بل ثم فرقٌ مؤثرٌ ، وهو أن النمص جاء فيه النصٌّ ؟
• قلتُ لكَ : هذا استدلالٌ بمحل النزاع ، وهو لا يجوز ، فألزمك أثبات ذلك بالترجيح بين الأقوال اللغوية الثلاثة السابق سردها ، والتدليل على ترجيحك من لسان العرب .
• فقال صاحبي : ولكن النمصَ تغيير لخلق الله سبحانه ، وكلُّ تغيير لخلق الله سبحانه محرمٌ .
• قلتُ : قولك : «كلُّ تغيير لخلق الله محرم» غلطٌ ، ليس كل تغيير لخلق الله محرمًا ، بل تغيير خلق الله سبحانه تعتريه الأحكام الخمسة ، فقد يكون محرمًا ، وقد يكون مكروهًا ، وقد يكون مباحًا ، وقد يكون مستحبًّا ، وقد يكون واجبًا .
• فقد يكون محرمًا : نحو نص الفقهاء على تحريم الخصاء وتعليلهم ذلك بأنه تغيير لخلق الله ، كما ذكر الحافظ في «فتح الباري» (9/119) ، وقال النووي رحمه الله في «المجموع» (6/177) : «قال البغويُّ والرافعيُّ : لا يجوزُ خصاءُ حيوانٍ لا يؤكل ، لا في صغره ، ولا في كبره ، قال : ويجوز خصاء المأكول في صغره ؛ لأن فيه غرضًا وهو طيب لحمه ، ولا يجوز في كبره ، ووجه قولهما أ
نه داخل في عموم قوله تعالى إخبارًا عن الشيطان : (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) ، فخصص منه الختان والوسم ونحوهما ، وبقي الباقي داخلًا في عموم الذم والنهي» .
• وقد يكون مكروهًا : نحو نص أصحابنا على كراهة أخذ شعر الحاجبين للرجل إذا طالا ، قال النووي رحمه الله في «المجموع» (ج1/ص290) : «وأمَّا الأخذُ من الحاجبين إذا طالا فلم أرَ فيه شيئًا لأصحابنا ، وينبغى أن يُكرَهَ ؛ لأنه تغييرٌ لخلق الله لم يثبت فيه شيءٌ ، فَكُرِهَ» ، وكذا نحوُ نصِّ أصحابنا على كراهة تنف اللحية وخضابها للرجل ؛ لأنه تغيير لخلق الله ، كما نص على ذلك الماوردي في «الحاوي الكبير» (ج17/ص151) والروياني في «بحر المذهب» (ج14/ص275) ، حيث قالا : «نتف اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة ، وكذلك خضاب اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة ، لما فيها من تغيير خلق الله تعالى» .
• وقد يكون مباحًا : وذلك نحو جواز أخذ الرجل شعر صدره ونحو ذلك .
• وقد يكون مستحبًّا : كنص الفقهاء على أنه إذا نبتت للمرأة لحية أو شارب استحب لها أن تزيلها ، قال النووي رحمه الله في «المجموع» (ج1/ص290) : «أما المرأة إذا نبتت لها لحيةٌ فيستحب حلقها صرَّحَ به القاضي حسين وغيره ، وكذا الشاربُ والعنفقةُ لها ، هذا مذهبنا ، وقال محمد بن جرير : لا يجوز لها حلقً شيءٍ من ذلك ، ولا تغـــــــيير شئ من خلقتها بزيادة ولا نقص» .
• وقد يكون واجبًا : كنص أصحابنا على وجوب الختان ، قال النووي – ودلالة كلامه إشارية – في «المجموع» (6/177) : «قوله تعالى - إخبارًا عن الشيطان - (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) فخصص منه الختان» .
• وبهذا يتبدى أن تغيير خلق الله ليس كله محرمًا ، بل تعتريه الأحكام الخمسة .
• وإذا نظرنا في فروع الأصحاب نأخذ من كلامهم أن ضابط تغيير خلق الله المحرم عندهم هو : «تغييرُ أصلِ الخِلقةِ ، على وجه الدوام ، دون مقتضٍ من علاج أو إزالة عيب أو إذن الشارع صراحة أو سكوتًا»
• فقولنا : «تغييرُ أصل الخلقة» يخرُجُ به تغييرُ طارِئها ، كما رُوي أنَّ عرفجة لقد قطعت أنفه يوم الكلاب من فضة ، فأنتن ، فاتخذ أنفًا من ذهب ، والحديث مختلف في تحسينه وتضعيفه ، وقد نص الأصحاب على جواز ذلك .
• ويخرج بقولنا : «على وجه الدوام» ما لو كان التغييرُ لا على وجه الدوام ، فما لا يكون باقيًا لا يكون محرمًا كتكحيل المرأة عينيها وتحمير وجنتيها وشفتيها ونحو ذلك بما يتزين به ، قال ابن الملقن في «التوضيح» (ج23/ص371) : « قال تعالى مخبرًا عنه: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119] وهذا إنما فيما يكون باقيًا ، فأما ما لا يكون باقيًا كالكحل والتزين ؛ فقد أجازه مالك وغيره، حكاه القرطبي» ، وهو مستقيم على طريقة الأصحاب .
• وقولنا : «دون مقتضٍ من علاج أو إزالة عيب» يخرج ما لو كان التغيير على وجه العلاج أو إزالة العيب فلا يحرم ، قال ابن الملقن رحمه الله في «التوضيح» (ج23/ص371) : «إذا احتيج إليه لعلاج أو عيب في السن وتحدبه فلا بأس به».
• وقولنا : «أو إذن الشارع» يخرج به ما لو كان مأذونًا فيه من الشارع.
• وقولنا : «صراحة» كأن يرد فيه أمرٌُ محمول على الوجوب أو الندب .
• وقولنا : «سكوتًا» كأن يسكت الشارع عنه .
• وحاصل ذلك : أنه ليس كل تغيير يكون محرمًا ، وضابط التغيير المحرم : «تغييرُ أصلِ الخِلقةِ ، على وجه الدوام ، دون مقتضٍ من علاج أو إزالة عيب أو إذن الشارع صراحة أو سكوتًا » .
• فقال لي صاحبي : ولكن النمصَ زينة ، ومن تكشف وجهها متنمصة تعدُّ متبرجة بزينة ، فهلا قلتم : من تتنمص إنما عليها أن تغطي وجهها .
• أما كون النمص زينة فنعم ، ولكن السؤال : هل كلُّ زينة يحرم إبدائها عند من لا يوجب تغطية الوجه ؟
• الجواب : ليس كلُّ زينة يحرم إبداؤها ، فأخذ المرأة شعر شاربها ولحيتها وجوانب وجهها وجبتها إنما هي التكييف الفقهي زينة ، ولكن لا يحرم إبداؤها ، فكذلك أخذ المرأة شعر حاجبها ، وكل زينة متصلةٍ لا يحرم إبداؤها عند من جوَّز كشف الوجه ، بخلاف المنفضلة كأحمر الشفاة ومبيض الوجه ونحو ذلك .
• ولذلك نجد من متقدمي الشافعية من ينص على جواز كشف المرأة لوجهها ، وينص كذلك على جواز النمص .
• وذلك مثل الإمام ‍الماوردي رحمه الله في «الحاوي الكبير» حيث قال في النمص (ج2/ص257) : «فأما النامصة والمتنمصة : فهي التي تأخذ الشعرَ من حول الحاجبين وأعالي الجبهة ، والنهي في هذا كله على معنى النهي في الواصلة والمستوصلة» .
• أي : على التفصيل المذكور في الواصلة والمستوصلة .
• وقد قال فيه قبله بأسطر : «أن تكون ذات زوج تفعل ذلك للزينة عند زوجها ، أو أمة تفعل ذلك لسيدها ، فهذا غير حرام ؛ لأن المرأة مأمورة بأخذ الزينة لزوجها من الكحل والخضاب .... وحكي عن أحمد بن حنبل : أنه منع من ذلك بكل حال : لأن النهي عام ، وما ذكرناه أصح» .
• ف‍الماوردي ينص على جواز النمص بإذن الزوج .
• وهو أيضًا ينص على جواز إبداء الوجه ، حيث قال في الحاوي الكبير(ج2/ص170) : «وأما العورة فضربان صغرى وكبرى :
فأما الكبرى فجميع البدن إلا الوجه والكفان .وأما الصغرى فما بين السرة والركبة . وما يلزمها ستر هاتين العورتين من أجله على ثلاثة أضرب : أحدها : أن يلزمها ستر العورة الكبرى ، وذلك في ثلاثة أحوال : أحدها : في الصلاة ، وقد مضى حكمها .والثاني : مع الرجال الأجانب ، عورة المرأة في حضورهم ، ولا فرق بين مسلمهم وكافرهم ، وحرهم وعبدهم ، وعفيفهم وفاسقهم ، وعاقلهم ومجنونهم في إيجاب ستر العورة الكبرى من جميعهم .... إلى آخر كلامه رحمه الله» .
• قالي لي صاحبي : وما دليلكم معاشر الشافعية على أن العلة إذن الزوج ؟
• قلتُ : وهذا خطأ في فهم نصوص مدوناتنا الفقهية ؛ فإن الحكم هو التحريم ، وعلته : التغرير ، إذا وجدت العلة (التغرير) وجد الحكم (التحريم) ، وإذا انتفت العلة (التغرير) انتفى الحكم ، لذلك قلنا يحرم على الخَلِيَّة (غير المتزوجة) التنمصُ ، أما المزوجة فلا يحرم ؛ لانتفاء التغرير في حقها ؛ إذ ليست تخطب للأزواج .
• أما اشتراطنا إذن الزوج لا من جهة العليَّة ، وإنما من جهة قاعدة معلومة من الشرع ، وهي أن كل ما تعلق بالاستمتاع بالبضع وتوابعه يجب فيه إذن الزوج ، وزينة المرأة من متعلقات الاستمتاع فوجب فيها استئذان الزوج ؛ إذ قد يكره الزوج النمص من جهة الطبع ، فتمنع منه المرأة.
• قال لي صاحبي : فهل يحرم على الخَلِيَّة (غير المتزوجة) مطلقًا .
• قلتُ : بل يحرم إذا كان تغريرًا بخاطبٍ ، فإذا لم يكن كذلك لم يحرم ، كأن تعلمه ونحو ذلك ؛ تخريجًا على قول أصحابنا في التصرية بعلم المشتري وارتفاع الحرمة وعدم ثبوت الخيار .
• قال لي صاحبي : وما أنتم يا معاشر المتمذهبة إلا قومًا من المُمَيِّعة ، تفتون الناس بحل النمص بإذن الزوج ، واستحباب النقاب ، وكراهة الإسبال لغير خيلاء تنزيهًا ، وجواز الألوان للمرأة .
• قلتُ : على رِسلك يا أبا الحارث ، أسائلك ، والحجة بيني وبينك السلف الذين هم فوقنا في علم وفضل .
• قال : سل .
• قلتُ : ألم يُفتِكَ شيخُك بأن الإسبالَ لغير خيلاء محرمٌ على الراجح ، وليس مكروهًا كراهة تنزيه.
• قال : بلى ، وهذا هو الراجح ، وليس يصح في الأذهان شيءٌ ... إذا احتاج النهارُ إلى دليل .
• قلتُ : لقد ثبت عن ابن عباس وابن مسعودٍ بالأسانيد الصحيحة ما يقتضي قولهما بكراهته كراهة تنزيه [انظر : «الآحاد والمثاني» (ج1/ص314) ، «مصنف ابن أبي شيبة» (ج8/ص202)] .
• فهل كان ابن عباس وابن مسعود والمذاهب المتبوعة في معتمدها مميعين ، وأنت وشيخُك أهل التمسك والدليل ؟!
• قلتُ : ألم يُفتِكَ شيخُك بأن النقابَ فرضٌ قولًا واحدًا .
• قال صاحبي : بلى .
• قلتُ : لقد ثبت عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما بالأسانيد الصِّحَاح المِلاح ما يفيد قولهما بعدم وجوبه ، ورواية العين الواحدة عن ابن عباس رواية ضعيفة (مع مخالفة ابن مسعود) . [انظر : «مصنف ابن أبي شيبة (ج4/ص283 – ص284)] .
• فهل كان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما ومن تابعهما من جمهور الفقهاء مميعين ؟!
• قلتُ : ألم تفتِ المعلمة الجسورُ امرأتَك بأن الألوان لا تجوزُ ، وأن عليها لبس السواد أو البياض .
• قال صاحبي : بلى .
• قلتُ : لقد صحَّ عن إبراهيم النخعي أنه كان يدخل مع علقمة والأسود على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فيراهن في اللحف الحمر ، وصحَّ عن سعيد بن جبير أنه رأى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تطوف بالبيت ، وعليها ثياب معصفرة [انظر : «مصنف ابن أبي شيبة» (ج8/ص184)].
• قلتُ : ألم يُفتِكَ شيخُك بأنه لا يجوز لك الأخذ من لحيتك .
• قال : بلى .
• قلتُ : لقد ثبت بالأسانيد الصِّحَاح عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما كان يأخذان من لِحَاهما ما زاد عن القبضة ، وصحَّ عن إبراهيم النخعي أنه قال واصفًا حال من أدركهم : «كانوا يأخذون من عوارضها» [انظر : «مصنف ابن أبي شيبة» (ج8/ص376)] .
• قلتُ : ألم يُفتِكَ شيخُك بأن الكحل أمام الأجانب للمرأة حرامٌ قولًا واحدًا .
• قال : بلى .
• قلتُ : وكذلك هو معتمد الشافعية ، ولكن الشافعية وأهل المذاهب لا يدلسون على الناس ، ولا يحكون إجماعًا في غير محله ، ولا يرمون غيرهم بالتمييع ، فقد ثبت عن عطاء أنه فسر الزينة الظاهرة في الآية بـ«الخضاب والكحل» ، وصحَّ عن قتادة أنه فسرها بـ«بالكحل والسوارين والخاتم» ، وصحَّ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال : «الكحل والخضاب والخاتم» ، وصحَّ عن الشعبي أنه فسرها بـ«الكحل والثياب» ، وصحَّ عن عكرمة أنها فسرها بـ«الثياب والكحل والخضاب» [انظر : «مصنف ابن أبي شيبة» (ج4/ص273-ص284) ، «تفسير الطبري» (ج19/ص157-ص158) ، «جزء يحيى بن معين» (ص201].
• فهل كان عطاء وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي وعكرمة مميعين يدعون النساء للفتنة ؟!
• والشافعية في معتمدهم يخالفون هؤلاء جميعًا ، ويأخذون بقول غيرهم من السلف ، ولكنهم لا يتهمون غيرهم بالتمييع .
• فقال لي صاحبي : هكذا أنتم تجرون الناس بعرض هذه الأقوال إلى تتبع الرخص ، ومن تتبع الرخص فقد اجتمع فيه الشرُّ كله .
• ق
لتُ : ما ذنبي وما ذنب الناس إذا كنت تحفظ ما لا تعرف ضابطه عند أهل العلم ، فليس معنى تتبع الرخص أخذ المكلف بالقول اليسير في بضعة مسائل من الفقه ، وإنما تتبع الرخص ضابطه أن يختار المكلف الأيسر له من كل المذاهب في المسائل بحيث تنحل ربقة التكليف من عنقه ، كما ذكره الهيتمي وغيره .
• يا صاحبي ؛ إن شراح كتب السنة إنما هم علماء المذاهب الأربعة ، فهل تتصور أن يطبق أكثرهم على مخالفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويغفلون عن القاعدة الأصولية الرياضية التي تحفظها : «العام المُحَلَّى بأل الجنس يفيد الاستغراق» ، أم خفي عليه حديثٌ مشهورٌ في الصحيحين !
• يا صاحبي ؛ إن أعلم الناس بوقاق السلف وخلافهم إنما هم علماء المذاهب الأربعة ، فالبيهقيُّ الشافعي استدل على كل كلمة قالها الشافعي – بل وغيره - بآثار السلف الكرام في «السنن الكبرى» و«معرفة السنن والآثار» ، والطحاوي الحنفي صنف «شرح معاني الآثار» ، وهي عاجة بآثار السلف على مسائل أبي حنيفة رضي الله عنه ، وابن قدامة الحنبلي لا ترى له مسألة في «المغني» إلا ويعقبها لكَ بقوله : «وهذا قول فلان وفلان» ، ويذكر لك القائلين به من الصحابة والتابعين ، وابن عبد البر في المالكية لا يذكر مسألة إلا وغاص فقه السلف راويًا لكَ من قال به من السلف ، أتراهم يطبقون على مخالفة السلف !
• يا صاحبي ؛ هون عليك ، ليسَ الفقهُ حفظَ مذاهب الناس ، ولا أنْ يُحسنَ المرءُ سردَ الأقاويلِ وأدلَّتِها ، وإنما الفقهُ : ملَكَةٌ في النفس ، تحْصُل بإدْمَان النَّظر في آلافِ الفروع الفقهيّة ، والتأمُّل في تصرُّف المجتهدِ فيها ، والغوصِ في غَوْر الدِّلالاتِ ومَسَالكها ، وسبْر قَوَادِحها ونوَاقِضَها ، حتى تصيرَ للناظرِ ملكةٌ يتكلمُ بها في غير المنصُوص ككلامِه في المنصُوص ، لذَا قالَ الغزاليُّ - رحمه الله - : « إذَا لم يتكلم الفقيهُ في مسألةٍ لم يَسْمَعْها ككلامِه في مسألةٍ سَمِعَها فليس بفقيه» .
• اللهم إني أعوذ بك ان أَضِلَّ أو أُضَلَّ ، أو أنصر باطلًا أو أُسَوِّغ له .
• والسلام .
وأمَّا التشديدُ فيحسِنُه كلُّ أحد ...
قالَ بِشرُ بن الحَارث رضي الله عنه : «غَنيمة المُؤمن غفلة النَّاس عنه وإخفاءُ مكانِه عنهم» .
والآخرَةُ عند ربِّك للمُتَّقين ...
بركة العمر ، وكفى بها نعمة ...
قال التاجُ السُّبكيُّ - رحمه الله - : «اتَّفقَ النَّقَلةُ على أنَّ عمرَ الشَّافعىِّ - رحمه الله - لا يَفِى بعُشر ما أبرزَهُ من التصانيفِ ، مع ما يثبتُ عنه من تلاوةِ القُرآن كلَّ يومٍ ختمة بالتدبر ، وفى رمضانَ كلَّ يومٍ ختمتين كذلك ، واشتغِاله بالدَّرس والفَتاوى والذِّكر والفكر والأمراض التى كانت تعتوره بحيث لم يخل - رضى الله عنه - من علَّة أو علتين أو أكثر ، وربما اجتمَعَ فيه ثلاثونَ مرضًا ....
وكذلك إمامُ الحرمينِ أبو المَعَالى الجُوَينى - رحمه الله - حُسِب عمرُه وما صَنَّفه مع ما كان يُلقِيه على الطلبة ويُذَكِّر به فى مجالس التذكير فوُجِد لا يَفِى به ...
وهذا الإمامُ الربانيُّ الشيخُ محيي الدِّين النووىُّ - رحمه الله - وُزِّعَ عمرُه على تصانيفه فوُجد أنه لو كان ينسَخُها فقط لَمَا كفاها ذلك العمرُ فضلًا عن كونه يصنفها ، فضلًا عمَّا كان يضُمُّه إليها من أنواع العبادات وغيرها .
وهذا الشيخُ الإمامُ الوالدُ - رحمه الله - إذا حُسِب ما كتبَهُ من التصانيف - مع ما كان يواظِبُه من العبادات ويمليه من الفوائد ويذكره فى الدروس من العلوم ويكتبه على الفتاوى ويتلوه من القرآن ويشتغل به من المحاكمات - عُرِف أنَّ عمرَه قطعًا لا يفِى بثُلث ذلك ...
فسُبحانَ من يُبَارك لهم ، ويطوى لهم وينشر» .
«طبقات الشافعية الكبرى» ج2/ص343
قالَ بِشرُ بن الحَارث رضي الله عنه : «طُوبَى لمَنْ ترَك شهوةً حاضرة لمَوْعدِ غيبٍ لم يرَه» .
(حوار بين المفتي والمستفتي لتبسيط الدليل)
======
المستفتي : ما الدليل على أن النمص جائزٌ ما لم تغش المرأة به خاطبًا .
المفتي : الدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (لعن الله النامصة والمتنمصة) .
المستفتي : كيف ذلك .
المفتي : النمص في لغة العرب كما قاله الفراء والأزهري والجوهري : نتف شعر الوجه ، فأي نتف من شعر الوجه يسمى نمصًا ، لحية كان أو شاربًا أو جبينًا أو جبهة .
والقرآن والسنة على مقتضى لغة العرب .
فمعنى الحديث إذن : لعن الله من تنتف الشعر من وجهها ، والتي تنتف لها ، فهل يمكن حمله على ظاهره .
الجواب : لا يمكن حمله على ظاهره ، بل يتحتم تأويله .
المستفتي : فكيف يتم تأويله أيها الشيخ ، وما وجه التأويل ؟
المفتي : وجه التأويل استحالة الإجراء على الظاهر ؛ لأنه يقتضي أن أي شعر ينتف من الوجه يرتب اللعن .
فيُأوَّل النص بصرفه عن ظاهره بإخراج شعر اللحية والشارب والجبين والجبهة = بمقتضى إجماع المسلمين العملي على أخذ النساء مثل هذا الشعور ، بلا نكير من أحدٍ ، ولو أنكر ذلك من الصحابة أو التابعين أو من بعدهم لنقل ، ولو كنَّ يتركن هذه الشعور بلا أخذ لنقل واشتهر وشوهد ، فيكون أخذ شعر اللحية والشارب والجبين والجبهة جائز ، خارج من العموم .
ويُأوَّل النصَّ بصرف عن ظاهره فيما يتعلق بشعر الحاجب ؛ بانعدام الفرق المؤثر بين شعر الحاجب وشعر اللحية والشارب والجبيبن والجبهة ، ومن ادعي الفرق فعليه الدليل .
فلو قال قائل : الحاجب جاء فيه النص .
نقول له : هذا وهم ؛ النص حرم النمص ، والنمص كل نتف لأي شعر في الوجه ، فإن حملت النص على الحاجب فقط فأنت المطالب بالدليل .
فالخلاصة : أن أخذ شعر الحاجب يخرج من العموم بمقتضى انعدام الفرق المؤثر بينه وبين شعر الجبين والجبهة واللحية والشارب .
المستفتي : فعلام يحمل النهي إذن أيها الشيخ ؟
المفتي : يحمل على من فعلت ذلك غشًّا للخطاب .
المستفتي : أمال ايه حكاية إذن الزوج دي ؟
المفتي : هذا قيد زائد على النص والعلة ، وهو أن كل ما تعلق بزينة المرأة مما ليس من عادة الناس وجب فيه اسئذان الزوج .
المستفتي : والشافعية يا شيخ كلهم بيقولوا : إن النمص أخذ شعر الوجه كله .
المفتي : لا من الشافعية من يفسره بشعر الوجه كله ، ومن الشافعية من يفسره بأخذ شعر الحاجب فقط .
ثم يتفق جمهورهم على أنه لا فرق بين الحاجب وغيره فكل منهما زينة للزوجة ، يجوز للمرأة أن تأخذه ، ويحملون اللعن على الغاشة للخطاب بجمال حاجبها .
المستفتي : وهو ينفع كده يا شيخ ، نأول كلام النبي صلى الله عليه وسلم ؟
المفتي : نعم ينفع ، التأويل لا بد منه إذا عسر الإجراء على الظاهر .
أضرب لك مثال ، ربنا سبحانه قال : (أو لامستم النساء) .
هل لمس المرأة ينقض الوضوء مطلقًا أو لا ينقض ؟
الإمام أحمد والإمام مالك أولوا هذه الآية بأن المراد اللمس بشهوةٍ ، رغم إن الظاهر إن كل لمس ينقض .
والإمام أبو حنيفة أول هذه الآية فحمل اللمس على الجماع لا على مس البشرة للبشرة ، رغم إن حقيقة اللمس في اللغة مس البشرة للبشرة ، والجماع مجاز ، تقول العرب : (هذه المرأة لا ترد يد لامس) .
والإمام الشافعي رغم إنه قال إن لمس المرأة ينقض الوضوء ، لكنه أول الآية وقال : مس المحرم والبنت الصغيرة غير المشتهاة لا ينقض ، رغم إن الظاهر من الآية عدم الفرق ، والنساء محلاة بأل الجنس التي تفيد العموم .
المستفتي : طيب يا شيخ ، الأئمة في آية اللمس أولوا بدليل ، لكن في النمص أولوا إزاي ؟
المفتي : أولوا برضو بدليل ، أما في شعر اللحية والشارب فالتأويل بالإجماع العملي ، وأما في الحاجب فالتأويل بمقتضى أنه لا فرق بين الحاجب والجبين واللحية وغيرها ، ومن ادعى الفرق عليه الدليل .
المستفتي : وهل كل العلماء أولوا الدليل كده ؟
المفتي : لا ، في علماء أولته بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قصد كل نامصة ، وإنما قصد المرأة الممنوعة من الزينة إذا تنمصت ، فالمقصود عندهم : (النامصة الممنوعة من الزينة كمعتدة عن وفاة) ، وهؤلاء هم المالكية في معتمد مذهبهم .
وفي علماء أولته بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قصد كل نامصة ، بل قصد المتبرجة بالنمص للأجانب ، وهؤلاء هم الأحناف في معتمد مذهبهم .
وفي علماء أولته بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قصد كل نامصة ، بل قصد النامصةالتي تفعل النمص المشابه لشعار الفاجرات والبغايا ، زي بعض الحنابلة كابن الجوزي .
المستفتي : طيب ، وهل في علماء لم تأوله يا شيخ ، وأجرت الحديث على ظاهره ؟
المفتي : نعم ، ولكن هؤلاء قسمان :
القسم الأول : من جرى على ظاهر الحديث ، وخصص النمص بالنتف فقط دون الحلق والقص ، وهذا هو الإمام أحمد بن حنبل عليه رضوان الله .
يعني : لو أن المرأة جملت حاجبها بالأخذ حرام ، لكن لو جملته بالأخذ بالقص أو الحلق حلال ، وطبعًا المعاصرين حتى قول الإمام أحمد مش عاجبهم ، ولا يأخذون به .
القسم الثاني : من جرى على ظاهر الحديث ، وحرموا على النساء أخذ أي شعر من الوجه حتى اللحية والشارب ، فقالوا : حتى لو نبت ل
لمرأة لحية وشارب يحرم عليها أن تأخذها ، تتركها على حالها ، زي الإمام الطبري والشيخ الألباني ، وهو ظاهر قول ابن حزم في المحلى .
قالَ النوويُّ - رحمه الله - : «يُنازِعُوني في الوسيط ، وقد طالعتُه أربعمائة مرَّة» ...
«المنهل العذب الروي» (ص43) .
ولكن الجاهل لا يعلَمُ رتبة نفسِه فكيفَ يعرفُ رُتبة غيرِه ...
الحافظُ الذَّهبيُّ رحمه الله