خطب ومحاضرات مكتوبة وغير مكتوبة
4.45K subscribers
25 photos
47 videos
31 files
164 links
Download Telegram
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ  [آل عمران:102].
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا عِبَادَ اللهِ:
لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى كِتَابَهُ الْمُبِينَ، فِيهِ هُدًى لِلنَّاسِ وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ؛ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا  [الإسراء:82]، فَمَنْ آمَنَ بِهِ نَجَا وَاهْتَدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ ضَلَّ وَغَوَى؛  قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ  [المائدة:15-16]، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْبَرَكَاتِ وَالْهُدَى وَالْعِظَاتِ أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِتَدَبُّرِهِ وَفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَالْأَخْذِ بِحُكْمِهِ؛ فَقَالَ: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ  [ص:26].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ مِنَ السُّوَرِ الْعَظِيمَةِ الذِّكْرِ، الْجَلِيلَةِ الْقَدْرِ: سُورَةَ الْإِخْلَاصِ  قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، فَحَرِيٌّ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْرِفَ فَضْلَهَا وَمَعْنَاهَا وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُهَا، وَمِمَّا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: مَا جَاءَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ  [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، فَهِيَ صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَمَنْ قَرَأَهَا أَحَبَّهُ اللهُ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِ فَيَخْتِمُ بِـ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ  فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟». فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ] وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُحِبُّهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ حُبَّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ». فَهَذِهِ السُّورَةُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ  قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ  فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ». قُلْتُ: وَمَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ» [رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ]، وَمَنْ لَازَمَهَا بَنَى اللهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
عِبَادَ اللهِ:
وَمِنْ فَضَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ: أَنَّهَا مِمَّا كَانَ يَسْتَعِيذُ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ   وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ   وَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ  ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
فَهَذِهِ السُّورَةُ مَعَ الْمُعَوِّذَاتِ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ اللهِ لِلْعَبْدِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ كُلِّ أَذًى؛ فَعَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ، وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ لَنَا، فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتُمْ؟» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا. فَقَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «قُلْ:  قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ  وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي، وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ سُورَةً بِهَذَا الْفَضْلِ وَالْمَكَانَةِ حَرِيٌّ أَنْ تَعْدِلَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعَانِي الْكَمَالِ وَصِفَاتِ الْجَلَالِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْشِدُوا – أَيِ: اجْتَمِعُوا - فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ». فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ  ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: إِنِّي أُرَى هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ. ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وَقَدْ تَلَمَّسَ أَهْلُ الْعِلْمِ سَبَبَ كَوْنِهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَمِمَّا قِيلَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ الْقُرْآنَ إِمَّا أَحْكَامٌ، أَوْ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ، أَوْ تَوْحِيدٌ، وَقَدْ أَخَلَصَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ذِكْرَ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى فِي أَسْمَائِه وَصِفَاتِهِ. فَقَوْلُهُ: اللَّهُ أَحَدٌ  أَيِ: اللهُ مُتَفَرِّدٌ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ، وَمُتَوَحِّدٌ بِالْجَلَالِ وَالْجَمَالِ وَالْمَجْدِ وَالْكِبْرِيَاءِ - يُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: اللَّهُ الصَّمَدُ  أَيِ: اللهُ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى فِي سُؤْدُدِهِ وَمَجْدِهِ وَكَمَالِهِ، وَمِنْ مَعَانِي الصَّمَدِ: أَنَّهُ الَّذِي تَصْمُدُ إِلَيْهِ الْخَلَائِقُ كُلُّهَا وَتَقْصِدُهُ فِي جَمِيعِ حَاجَاتِهَا، وَقَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . أَيْ لَيْسَ لَهُ مُكَافِئٌ وَلَا مُمَاثِلٌ وَلَا نَظِيرٌ، فَنَزَّهَ اللهُ نَفْسَهُ وَقَدَّسَهَا عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَنِدٍّ وَكُفُؤٍ وَمَثِيلٍ، فَحُقَّ لِسُورَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ أَنْ تَعْدِلَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
 فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ إِثْبَاتَ كَمَالِ اللهِ تَعَالَى وَغِنَاهُ عَنْ خَلْقِهِ مِنْ أَعْظَمِ مَا قَرَّرَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ الْجَلِيلَةُ الْقَدْرِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ: أَنْ يُحَقِّقَ التَّوْحِيدَ لِلَّهِ، وَيُؤْمِنَ بِإِثْبَاتِ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَأَنْ يَنْفِيَ عَنِ اللهِ تَعَالَى جَمِيعَ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَيُنَزِّهَهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ، فَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، وَلَا زَوْجَةَ، وَلَا وَالِدَ وَلَا وَلَدَ، وَهَذَا مَا دَعَا إِلَيْهِ أَنْبِيَاءُ اللهِ جَمِيعًا، فَدَعَوَاتُهُمْ صَادِعَةٌ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، مُنَزِّهَةٌ لِلَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ عَنْ كُلِّ مَا وَصَفَهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ؛ قَالَ تَعَالَى: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  [الصافات:180-182]، وَمِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى وَأَكْبَرِ الظُّلْمِ وَأَشَدِّ الكُفْرِ: نِسْبَةُ الْوَلَدِ لِلَّهِ -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ- وَهُوَ مَا نَفَاهُ اللهُ عَنْ
نَفْسِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ الْوَلَدَ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا  [مريم:88-95]، وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ : وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا *  مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا  [الكهف: 4-5].
عِبَادَ اللهِ:
مَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ لِدِينِهِ، وَالصَّفَاءَ لِتَوْحِيدِهِ؛ فَلْيَبْتَعِدْ عَنْ كُلِّ مَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمُعْتَقَدَاتِ الَّتِي فِيهَا التَّنَقُّصُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، خُصُوصًا تِلْكَ الْأَعْيَادَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِلْمُعْتَقَدَاتِ الْكُفْرِيَّةِ، وَالدَّعْوَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ، أَوْ وَصْفِ اللهِ تَعَالَى بِالنَّقَائِصِ، وَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ؛ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا  [الفرقان:72]، قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ الزُّورِ: (هُوَ أَعْيَادُ الْمُشْرِكِينَ)، فَإِيَّاكُمْ وَالتَّشَبُّهَ بِهِمْ فِيمَا يَخْتَصُّونَ بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَعْيَادِ وَالْعَادَاتِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ ذَلِكَ غَايَةَ الْحَذَرِ؛ لِيَسْلَمَ لَهُ دِينُهُ وَتَوْحِيدُهُ.
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِالْإِسْلَامِ قَائِمِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالْإِسْلَامِ قَاعِدِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالْإِسْلَامِ رَاقِدِينَ، وَلَا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاءً وَلَا حَاسِدِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ. 
اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ، يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ، وَيُهْدَى فِيهِ أَهْلُ الْعِصْيَانِ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلِ هذا البلد وجميع بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً سَخَاءً رَخَاءً ،  اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ؛ إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ.
مِنْزِلَةُ الْعَقْلِ وَخَطَرُ الْمُخَدِّرَاتِ وَالمُسْكِرَاتِ 
الخطبةُ الأولى
 الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانِ ، وَوَهَبَ الْآدَمِيِّيْنَ عُقُولًا يُمَيِّزُونَ بِهَا بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ وَالْحَقِّ وَالْبُهْتَانِ ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَلَا وَلَدَ ، وَلَا أَعْوَانَ ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، الْمُؤَيَّدُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ ؛ اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ حَمَلَةِ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ .
 أمَّا بَعْدُ : فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ : أُوْصِيْكُم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ .
 أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ : شَرَّفَ اللهُ النُّجَبَاءَ بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ نُفُوسُهُمْ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالتَّوْحِيدِ ، وَالتَّفَكُّرِ فِي الْحَقَائِقِ وَالْمَخْلُوقَاتِ ، وتَدَبُّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، قَالَ تَعَالَى : ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ .
 فَالْعَقْلُ دُرَّةٌ ثَمِينَةٌ ، وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ ، إِنِ اسْتُعْمِلَ فِيمَا خُلِقَ لَهُ ؛  وَهُوَ مَطِيَّةٌ لِلْمُجْتَهِدِينَ بِنِوْرِ الْوَحْيِينِ ، وَسَبِيلٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَفَكِّرِينَ ، وَنَوَاةٌ لِقُلُوبِ الْمُوْقِنِينَ ، وَدِعَامَةٌ للسَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ .
 وَالعَجَبُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُسْرِفُ فِي تَعْظِيمِ عَقْلِهِ ، حَتىَّ يَصْرِفَهُ عَنْ طَبِيعَتِهِ وَفِطْرَتِهِ ، وَيُنْكِرَ بِهِ وُجُودَ خَالِقِهِ وَخَالِقِ عَقْلِهِ ، أَوْ يُنْكِرَ بِهِ حَقَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى خَلْقِهِ ، مِنْ إِفْرَادِهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَرُبُوْبِيَّتِهِ ، أَوْ يُنْكِرَ بِهِ بَعْضَ أَحْكَامِ اللهِ وَشَرِيعَتِهِ ، بِتَزْيِيْنٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ ، وَحَافِزٍ مِنْ الْهَوَى وَالطُّغْيَانِ ، ﴿أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ .
      عِبَادَ اللهِ : [خَلَقَ اللهُ لَكُمُ الْعُقُولَ لِتَعْقِلُوا بِهَا مَا يَنْفَعُكُمْ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ ، وَتَرْتَقُوا بِهَا إِلَى مَدَارِجِ الْفَلَاَحِ بِهِمَمٍ قَوِّيَّةٍ وَقُلُوبٍ وَاعِيَةٍ، فَقَاوِمُوا بِهَا مَا يَضُرُّكُمْ مِنَ الْأَخْلَاَقِ الرَّذِيلَةِ ، فَلَا خَيْرَ فَيْمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ ، فَأَلْقَتْهُ فِي الْمَهَالِكِ الْوَبِيلَةِ .
 فَكِّرُوا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ ، فَإِذَا تَوَضَّحَتْ فَاسْلُكُوهَا ، وَزَاحِمُوا بِهَا النُّفُوسَ الْعَالِيَةَ الْمُقْبِلَةَ عَلَى الْخَيْرِ وَنَافِسُوهَا ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَكُونَ هِمَمُكُمْ فِي تَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ الدَّنِيئَةِ ، فَتَخْسَرُوا عُقُولَكُمْ وَتُضِيِّعُوهَا .
  طُوْبَى لِمَنْ كَانَتْ أَفْكَارُهُ حَائِمَةً حَوْلَ مَا يُحِبُّهُ اللهُ ، وَفِيْمَا يَنْفَعُ عِبَادَ اللهِ ، طُوْبَى لِمَنْ كَانَ الْإِخْلَاَصُ للهِ فِي كُلِّ الْأُمُورِ شِعَارَهُ ، وَالْإِحْسَانُ عَلَى الْخَلْقِ دِثَارَهُ ، طُوْبَى لِمَنْ كَانَتْ شَهْوَتُهُ تَبَعًا لِعَقْلِهِ ، فَآثَرَ النَّافِعَ ، وَفَازَ بِالسَّعَادَتَيْنِ ، وَوَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَقْلَهُ ، فَاخْتَارَ الرَّذَائِلَ ، فَخَسِرَ الدُّنْيَا وَالدِّينَ .
  مَنْ تَرَكَ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ للهِ عَوَّضَهُ اللهُ الْإِيمَانَ وَالثَّوَابَ ، وَمَنْ تَبِعَ هَوَاَهُ وَأَعْرَضَ عَمَّا يُحِبُّهُ مَوْلَاُهُ ، ابْتَلَاهُ بِالهُمُومِ وَأَنْوَاعِ الْأَوْصَابِ .
  سُبْحَانَ مَنْ فَاوَتَ بَيْنَ عِبَادِهِ بِالْعُقُولِ وَالْهِمَمِ وَالْأَعْمَالِ ، وَبَايَنَ بَيْنَهُمْ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْكَمَالِ ، وَقَسَّمَ بَيْنَهُمُ الْأَخْلَاَقَ كَمَا قَسَّمَ بَيْنَهُمُ الْأَرْزَاقَ ، فَتَبَارَكَ اللهُ الْوَاحِدُ الْمَلِكُ الْخَلَاَّقُ .
 مَنَّ اللهُ عَلِيَّ وَعَلَيْكُمْ بِمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَأَحَاسِنِهَا ، وَحَفِظَنَا مِنْ أَسَافِلِ الْأَخْلَاَقِ وَأَرَاذِلِهَا] ،  أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَاسْتَغْفِرُوهُ ، وَتُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخطبة الثانية
 الحَمْدُ للهِ وَكَفَى ، وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى رَسُوْلِهِ المُصْطَفَى ، وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى . أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى .
  أَيُّهَا المُسْلِمُوْنَ :  مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى ضَيَاعِ عَقْلِهِ لِمُجَرَّدِ مُتْعَةٍ رَخِيصَةٍ ، تُفْقِدُ الْمَرْءَ تَوازُنَهُ ، وَتُنْقِصُ دِيْنَهُ ، وَتُذْهِبُ كَرَامَتَهُ .
  تِلْكُمْ هِيَ الْوُقُوعُ فِي وَحْلِ الْمُخَدِّرَاتِ ، وشُرْبِ الْخُمُورِ وَالمُسْكِرَاتِ ، وَلَو سُمِّيَتْ بِغَيْرِ اسْمِهِا ، فَالْعِبْرَةُ بِالْفِعْلِ وَالتَّأْثِيرِ ، لَا بِالْمُسَمَّى وَالتَّعْبِيرِ .
   فَفِي الصَّحِيحِ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال : «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ؛ وَفِي الْمُسْنَدِ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفَتِّرٍ» ، والمُفَتِّرُ : مَا يُورِثُ الْفُتُورَ فِي الْأَعْضَاءِ .
  فَلِزَامًا عَلَيْنَا تَوْعِيَةَ النَّشْءِ بِخَطَرِ الْمُخَدِّرَاتِ بِاخْتِلَاَفِ أَنْوَاعِهَا وَمُسَمَّيَاتِهَا كَالْحُبُوبِ الْمُخَدِّرَةِ ، وَكَالدُّخَانِ وَالشَّيْشَةِ ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْخَبَائِثِ الفَتَّاكَةِ الْمُفَتِّرَةِ ، وَالَّتي مِنْ أَخْطَرِهَا مَادَّةُ (الشَّبْوِ) وَهِيَ مَادَّةُ كِيمْيَائِيَّةُ لَهَا نَتَائِجُ مُدَمِّرَةٌ عَلَى الْجِهَازِ الْعَصَبِيِّ الْمَرْكَزِيِّ لِلْإِنْسَانِ (وَهُوَ الْعَقْلِ) ، وَعَلَى الْجِهَازِ الْمَنَاعِيِّ .
 إِنَّ الْمُخَدِّرَاتِ وَسَائِرَ الْمُسْكِرَاتِ ، هِيَ : أُمُّ الْخَبَائِثِ ، وَمُوَرِّثَةُ الْمَفَاسِدِ ، وَمَا وُجِدَتْ فِي مُجْتَمَعٍ وَانْتَشَرَتْ بَيْنَ أَفْرَادِهِ، إِلَّا رَمَتْهُمْ فِي جَحِيمِ الشَّهَوَاتِ الْعَارِمَةِ ، وَالْأَمْرَاضِ الْخَطِيرَةِ ، إِضَافَةً إِلَى فَسَادِ الْأَخْلَاقِ ، وَانْتِشَارِ الْفَوْضَى ، وَكَثْرَةِ الْجَرَائِمِ الْمُتَعَدِّدَةِ ، إِنَّهَا الْمَوْتُ وَالْفَنَاءُ ، وَالْقَضَاءُ عَلَى الدِّينِ وَالدُّنْيَا مُعَبَّأً فِي أَقْرَاصٍ وَحُقَنٍ .
   فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْعُقَلَاءُ !! مِنْ شِبَاكِ المُرَوِّجِيْنَ وَالْمُتَعَاطِينَ ، وَحَذِّرُوا مِنْهُمْ وَبَيِّنُوا حَقِيقَتَهُمْ ؛ وَأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ وِفْقَ أَجْنِدَةٍ خَارِجِيَّةٍ تَسْتَهْدِفُ أَبْنَاءَ الْمُجْتَمَعِ ، وَأَنَّهُمْ يَصْطَادُونَ الأَبْرِيَاءَ ، بِحُجَّةِ أَنَّ هَذِهِ السُّمُومَ هِيَ الشِّفَاءُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ وَدَاءٍ ، وَتَقْصِيرٍ فِي الْعَمَلِ وَالْأَدَاءِ ، وَوَيْمُ اللهِ إِنَّها الدَّاءُ !! .
  وَلِزَامًا عَلَيْنَا جَمِيعًا الْإِشَادَةَ بِجُهُودِ الْعُيُونِ السَّاهِرَةِ مِنْ رِجَالِ الْجَمَارِكِ ، وَرِجَالِ مُكَافَحَةِ الْمُخَدِّرَاتِ ، وَرِجَالِ الْأَمْنِ جَمِيعًا ، وَالشُّرَفَاءِ مِنَ الْمُوَاطِنِينَ وَالْمُقِيْمِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ عَلَى حِمَايَةِ الْمُجْتَمَعِ مِنْ آفَةِ الْمُخَدِّرَاتِ ، وَعَلَيْنَا الدُّعَاءَ لَهُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ وَالْحِفْظِ ، وَوُجُوبَ التَّعَاوُنِ مَعَهُمْ فِي حِمَايَةِ الْمُجْتَمَعِ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ وَمُرَوِّجِيهَا وَمُتَعَاطِيهَا ، لِأَنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى .
    اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيِنَا وَمِنْ خَلْفِنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلِنَا وَمَنْ فَوْقِنَا ، وَنَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا .  
عِبَادَ اللهِ : قَالَ اللهُ جَلَّ في عُلَاهُ : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ، اللَّهُمَّ ارْضَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ، وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الْمَهْمُومِيْنَ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ ، وَنَفِّسْ كَرْبَ الْمَكْرُوبِيْنَ ، وَاقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِيْنَ ، وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ ، وَاغْفِرْ لِمَوْتَاهُم يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا ،  اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا طَبَقَاً سَحَّاً مُجَلِّلاً ، عَامَّاً نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ ، عَاجَلاً غَيْرَ آجِلٍ ، تُحْيِي بِهِ الْبِلَادَ ، وَتُغِيثُ بِهِ
الْعِبَادُ ، وتَجْعَلُهُ بَلَاغًا لِلْحَاضِرِ وَالْبَادِ ، اللَّهُمَّ إِنَا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْوَبَاءِ وَالْغَلَاَءِ وَالرِّبَا والزِّنا ، وَالزَّلَازِلِ وَالْمِحَنِ وَسُوءِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .
   ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ، ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.   يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وَاعْتَصِمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا مَعَاشِرَ الْمُوَحِّدِينَ:
إِنَّ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، وَمَعَالِمِهِ الشَّرِيفَةِ الْفَاخِرَةِ: شَعِيرَةَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَلَقَدْ رَفَعَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرَ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَأَعْلَى شَأْنَهَا فِي الْخَلْقِ وَالْبَرِيَّةِ؛ لِمَا تَقُومُ بِهِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ بِالْمَعْرُوفِ وَالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ، وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْفَسَادِ وَالشَّرِّ؛ قَالَ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وَأَمَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ؛ وَحَثَّ عَلَيْهَا، وَجَعَلَهَا مِنْ وَسَائِلِ تَحْصِيلِ الْفَلَاحِ؛ قَالَ تَعَالَى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:114]، وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي امْتَدَحَهُمُ اللهُ بِهَا، فَقَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّمْكِينِ وَالسِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ؛ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
إِنَّ الْقِيَامَ بِشَعِيرَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ: سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ انْتِشَارِ الْخَيْرِ وَانْحِسَارِ الشَّرِّ؛ فَبِهَا تَنْعَمُ الْمُجْتَمَعَاتُ بِالْخَيْرَاتِ، وَتَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ الرَّحَمَاتُ، وَيَنْشَأُ النَّاشِئُ مِنْهُمْ فِي أَخْلَاقٍ حَمِيدَةٍ، وَسَجَايَا مَجِيدَةٍ، وَقَدْ حَثَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الشَّعِيرَةِ، وَوَجَّهَ أُمَّتَهُ لِلْقِيَامِ بِهَا؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلَا يُسْتَجَابَ لَكُمْ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ تَرْكَ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْمُبَارَكَةِ يُورِثُ اللَّعْنَ وَالْإِبْعَادَ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ قَالَ تَعَالَى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79 ]، وَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ وُقُوعِ الْعِقَابِ؛ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ » [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ].
وَالْمُنْكَرُ إِذَا وَقَعَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ أَضَرَّ بِجَمِيعِهِمْ؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ؛ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ -رَحِمَهُ اللهُ-‏:‏ (إِنَّ الْمَعْصِيَةَ إِذَا أُخْفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إِلَّا صَاحِبَهَا، فَإِذَا أُعْلِنَتْ وَلَمْ تُغَيَّرْ؛ أَضَرَّتْ بِالْعَامَّةِ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي الْقِيَامِ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ ؛ حُبًّا لِلدُّنْيَا وَمَخَافَةً مِنْ كَلَامِ النَّاسِ؛
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ -رَحِمَهُ اللهُ-: (إِنَّ مِنْ غَفْلَتِكَ عَنْ نَفْسِكَ وَإعْرَاضِكَ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ بِأَنْ تَرَى مَا يُسْخِطُهُ فَتُجَاوِزَهُ، لَا تَأْمُرُ فِيهِ وَلَا تَنْهَى؛ خَوْفًا مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لَكَ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا)، وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: (مَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ مِنْ مَخَافَةِ الْمَخْلُوقِينَ؛ نُزِعَتْ مِنْهُ هَيْبَةُ الطَّاعَةِ؛ فَلَوْ أَمَرَ وَلَدَهُ أَوْ بَعْضَ مَوَالِيهِ لَاسْتَخَفَّ بِهِ)، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ -رَحِمَهُ اللهُ-: (إِذَا غَشِيَتْكُمْ سَكْرَتَانِ: سَكْرَةُ الْجَهْلِ وَسَكْرَةُ حُبِّ الْعَيْشِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تَنْهَوْنَ عَنِ مُنْكَرٍ).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ،
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيمَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَتَزَوَّدُوا؛ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الدِّينِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
يَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْمُبَارَكَةِ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ، رَفِيقًا بِالنَّاسِ، رَحِيمًا حَلِيمًا؛ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وَهَكَذَا كَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ -رَحِمَهُمُ اللهُ- يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْأَسَالِيبِ النَّافِعَةِ وَالطُّرُقِ النَّاجِعَةِ؛ أَبْصَرَ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ -رَحِمَهُ اللهُ- رَجُلًا قَدْ أَسْبَلَ إِزَارَهُ، فَقَالَ: (يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: فَمَا ذَاكَ يَا عَمِّ؟ قَالَ: تَرْفَعُ إِزَارَكَ، قَالَ: نَعَمْ، وَنِعْمَةُ عَيْنٍ)، وَرَأَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ -رَحِمَهُ اللهُ- رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ فِي خَرَابٍ، وَهُوَ يُكَلِّمُهَا، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَرَاكُمَا، سَتَرَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمَا)، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: (كَانُوا إِذَا رَأَوُا الرَّجُلَ لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ عَلَّمُوهُ).
عِبَادَ اللهِ:
كُلُّ أَحَدٍ يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؛ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا، وَالِدًا أَوْ وَلَدًا، أَمِيرًا أَوْ مَأْمُورًا، إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَ الْآدَابَ الشَّرْعِيَّةَ وَالطَّرَائِقَ النَّبَوِيَّةَ؛ فِي أَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُنْزِلَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ الشَّرْعِيَّ، فَمَنْ أَرَادَ مَنَاصَحَةَ السُّلْطَانِ: فَعَلَيْهِ بِسُلُوكِ الطَّرِيقَةِ النَّبَوِيَّةِ؛ فَعَنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِسُلْطَانٍ بِأَمْرٍ فَلَا يُبْدِ لَهُ
عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوَ بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، وَمَنْ أَرَادَ مُنَاصَحَةَ الْوَالِدَيْنِ: فَعَلَيْهِ بِالطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ سُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: الرَّجُلُ يَأْمُرُ وَالِدَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: (يَأْمُرُهُمَا إِنْ قَبِلَا، وَإِنْ كَرِهَا سَكَتَ عَنْهُمَا).
وَمَا أَوْقَعَ الْخَوَارِجَ فِي الضَّلَالِ الْمُبِينِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ إِلَّا أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِغَيْرِ الطَّرِيقَةِ الْمَشْرُوعَةِ وَالسَّبِيلِ الْمَعْرُوفَةِ؛ حَتَّى وَصَفَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَشَدِّ الْأَوْصَافِ الْمُهْلِكَةِ؛ فَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِالْإِسْلَامِ قَائِمِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالْإِسْلَامِ قَاعِدِينَ، وَاحْفَظْنَا بِالْإِسْلَامِ رَاقِدِينَ، وَلَا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاءً وَلَا حَاسِدِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا وَنَحْنُ نَعْلَمُهُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُهُ. 
اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ، يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ، وَيُهْدَى فِيهِ أَهْلُ الْعِصْيَانِ، اللَّهُمَّ اجْعَل هذا البلاد آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ،  اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ؛ إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ.
الزلازلُ والبراكينُ والحكمةُ منها     
الْخُطْبَةَ الْأُولَى
إنَّ الحمدُ للهِ نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفِرُهُ ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا ، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ ، وَخَلِيلُهُ  صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا . أمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ حقَّ التَّقْوَى ؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى ، وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ . أمَّا بعدُ : فاتَّقُوا اللهَ أيُّها المؤمنون ، وارْجِعُوا إلى ربِّكم بالأعمالِ الصالحةِ وتركِ الذنوبِ والمعاصي .
  اتقوا اللهَ تَعالَى ، وتَذَكَّرُوا نِعَمَ اللهِ عَلَيكُم ، واشكُرُوهُ عليها ، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها} ، وَمِن أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ ، هذِهِ الأرضُ التي تَمْشُون عَلَى ظَهْرِها ، التي بارَكَ اللهُ فيها وَقَدَّرَ فيها أَقْواتَها ، وجَعَلَها ذَلُولًا وَقَرَارًا ، أَيْ قَارَّةً ثابتَةً لا تَتَحَرَّكُ ولا تَمِيدُ ، وأَرْساها بالجِبالِ حَتَّى نَتَمَكَّنَ مِنْ البِناءِ عليها والعَيْشِ عَلَى ظَهْرِها ، والمشْيِ فِي مَناكِبِها ، ولِتَكُونَ مِهادًا ومُسْتَقَرًّا لِلحَيَوانِ والنباتِ والأَمْتِعَةِ ، ولِيَتَمَكَّنَ الحيوانُ والناسُ مِن السَّعْيِ عليها والمَشْيِ في مَناكِبِها والجُلُوسِ لِراحَتِهِم والنَّوْمِ لِهُدُوئِهِم والتَمَكُّنِ مِن أَعْمالِهِم ، ولَوْ كانَتْ رَجْرَاجَةً مُتَكَفِّئَةً ، لَمْ يَسْتَطِيعُوا على ظَهْرِها قَرارًا ولا هُدُوءًا ، ولَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ عِمَارَتِها وتَحْقِيقِ المَصالِحِ فيها . وكثيرٌ مِنَ الناسِ إلا مَنْ رَحِمَ اللهُ في غَفْلَةٍ عَنْ التَفَكُّرِ في عِظَمِ هذه النِّعْمَةِ ، حتى يَرَوْا ما يَضْطَرُّهُم إلى ذلك ، حِينَما يَرَوْنَ أو يَسْمَعُونَ بالزَّلازِلِ أو الخُسُوفِ أو البَرَاكِين ، التي تَحْدُثُ بِأَمراللهِ سُبحانَه . 
والناسُ مُنْقَسِمُون في شأنِها وحُدُوثِها إلى قِسْمَين : 
قِسْمٌ لا يُقِيمُ لِهَذِه الآياتِ وَزْنًا ، ويَرَى أَنَّها مِنْ الظَّوَاهِرِ الطبيعيةِ التي تَحْدُثُ أحيانًا نتيجةَ انضِغاطِ البُخارِ في جَوْفِ الأَرْضِ كما يَنْضَغِطُ الرِّيحُ والماءُ في المَكانِ الضَّيِّقِ ، فإذا انْضَغَطَ طَلَبَ مَخْرَجًا فَيَشُقُّ وَيُزَلْزِلُ ما قَرُبَ مِنْهُ مِن الأرضِ ، وما شابَهَ ذلك مِن الكلامِ والتَحْلِيلِ الذي يُذْكَرُ حَوْلَ الزَّلازِلِ والهَزَّاتِ الأرضِيَّة ، وَمَنْ تَأَثَّرَ بِما يَقُولُون .
وَقِسْمٌ يَرَى بِأَنَّ ما حَدَثَ إنَّما هُوَ بِأَمْرِ اللهِ وَحْدَه وَلِحِكْمَةٍ بالِغَــــــةٍ ، وإِنْ حَصَلَتْ بالأَسبــــابِ المَذْكُورَةِ .
 ولِحُدُوثِها حِكَمٌ وأَسبابٌ لا يُدْرِكُها إلا أصحابُ القُلُوبِ الحَيَّةِ مِن المُؤمنين :
  فَمِنْ أسبابِها : التَّذْكِيرُ بِنِعْمِةِ سُكُونِ الأرضِ وقَرارِها وثَباتِها .
  ومِنْ أسبابِها : التَّذْكِيرُ بِكَمالِ قُدْرَةِ اللهِ وَوَحْدانِيَّتِه ، فالعِبادُ تَحْتَ قَبْضَتِه ، وَأَمْرُهُم بِيَدِه .
  ومن أسبابِها : تَخْوِيفُ العِبادِ وتَذْكِيرُهُم كَيْ يُحاسِبُوا أَنْفُسَهُم ويَتُوبُوا مِن ذُنُوبِهِم ومَعاصيهِم ، قال تعالى : {ومَا نُرْسِلُ بالآياتِ إلا تَخْوِيفا} ، رَوَى البَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالبَصْرَة ، لِأَنَّها آيَةٌ مِن آياتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ بها العِبادِ .  
  ومِنْ أسبابِها : الذنوبُ والمَعاصِي ، وقَدْ دَلَّت نُصُوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ عَلَى ذلِك ، قالَ تَعالَى في قَوْمِ شُعَيْب : {فَأَخَذَتْهُم الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا في دارِهِم جاثِمِين} ، وقالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم : «سَيَكُونُ في آخِرِ الزَّمانِ خَسْفٌ وَقَذْفٌ وَمَسْخٌ» ، قِيلَ : وَمَتَى ذلكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال : «إذا ظَهَرَتْ المَعَازِفُ والقَيْناتُ» ، والقَيْناتُ : هُنَّ المُغَنِّياتُ والراقِصاتُ .
 وقَدْ تَكُونُ الزلازِلُ عَذابًا في الدُّنيا وتَطْهِيرًا ورحمةً لِلْمُسلِمِين ، كَمَا فِي قَوْلِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم عَنْ هِذِه الأُمَّة : «عَذَابُها فِي الدنيا الفِتَنُ والزلازلُ والقَتْل» أخرجه أبو داوودَ وهو حديث صحيحٌ .
 ، ولأنَّه يُعْتَبَرُ مِنَ الهَدْمِ ، وَقَدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «الشهداءُ خَمْسَة : المَطْعُونُ والمَبْطُونُ والغَرِقُ وصاحِبُ الهَدْمِ والشهيدُ في سبيلِ الله» متَّفَقٌ عليه . 
   عِبادَ اللهِ : الزلازلُ والخَسْفُ تُذَكِّرُ المؤمنَ بِيَوْمِ القيامةِ ، بِيَوْمِ الزَّلْزَلَةِ الكُبْرَى ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ، {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} ، {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} ، {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} .
     وَلَا يَسْلَمُ في ذلكَ اليَوْمِ العَظِيمِ إلَّا مَنْ بَذَلَ أَسْبَابَ النَّجاةِ .
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَأسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ ، وَأشهدُ أن لا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليماً كثيراً .
 عبادَ الله : إذا حَدَثَ في الأرضِ زِلْزَالٌ أو خَسْفٌ أو تَحْذِيرٌ بِقُرْبِ ما يَدُلُّ على ذلك ، فلا يَلِيقُ بالمُؤْمِنِ أَنْ يَغْفَلَ عَنِ التَّوْبَةِ والإنابَةِ والاستغفارِ والدُّعاءِ والتَضَرُّعِ ومُحاسبةِ النفسِ وتَصْحِيحِ الحالِ والإِكثارِ مِن الصَّدَقَة .
  ومِنْ ذلك أَنْ يُواظِبَ عَلَى أَوْرادِ الصَّباحِ والمساءِ ، لا سِيَّما وأنه وَرَدَ فيها ما يَدُلُّ على أسبابِ السلامةِ مِن خَطَرِ الخَسْفِ والهَدْمِ ، روى أحمدُ وأبو داودَ عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قال : لَمْ يَكُن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هؤلاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وحينَ يُصْبِح : «اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ العافِيَةَ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ العَفْوَ والعافِيَةَ فِي دِينِي ودُنْيايَ وَأَهْلِي ومالِي ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي وَآمِنْ رَوْعاتِي ؛ اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي ، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمالِي وَمِنْ فَوْقِي ، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» ، قالَ وَكِيعُ بْنُ الجَرَّاحِ وَهُوَ أَحَدُ رُواةِ هَذَا الحديثِ فِي قَوْلِهِ : «وَأَعُـــوذُ بِعَظَمَتِــــكَ أَنْ أُغْتَـــالَ مِنْ تَحْتِي» : يَعْنِي الخَسْــفَ . 
     اللَّهُمَّ احْفَظْنا مِنْ بَيْنِ أيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنا ، وَعَنْ أيْمانِنَا وَعَنْ شَمائِلِنَا وَمِنْ فَوْقِنَا ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا  .
: عِبادَ اللهِ ، علينا أن نقفَ مع إخوتِنا في سوريا وتركيا ، فإنَّ مُصَابَهم جَلَلٌ ، وكربَهم عظيمٌ .
((وذلك بالتبرُّعِ لهم عن طريقِ المنافِذِ والقَنَواتِ الرسميَّةِ التي وَضَعَتْهَا الدولةُ ، ولقد وجَّهَ خادمُ الحرمين الشريفين ووليُّ عهدِه وفَّقَهما اللهُ مركزَ الملكِ سلمانَ للإغاثةِ والأعمالِ الإنسانيَّةِ بتسييرِ جسرٍ جويٍّ وتقديمٍ مساعداتٍ صحيَّةٍ وإيوائيَّةٍ وغذائيَّةٍ لتخفيفِ آثارِ الزلزالِ على الشعبين السوريِّ والتركيِّ وتنظيمِ حملةٍ شعبيَّةٍ عبرَ مِنَصَّةِ (سَاهِم) لمساعدةِ ضحايا الزلزالِ في سوريا وتركيا)) .
أيها المسلمون : بادروا بالتبرُّعِ والوقوفِ مع إخوانِكم في سوريا وتركيا ، وتذكَّروا أنَّ اللهَ لا يُخْزِي أبداً من يعينُ على النوائبِ ، كما قالتْ خديجةُ رضيَ اللهُ عنها لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندما أصابَه الخوفُ عندَ بدايةِ نزولِ الوحيِ عليه ، فقدْ قالتْ له رضيَ اللهُ عنها : ((أبْشِرْ ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا ؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ ، وتَحْمِلُ الكَلَّ ، وتَقْرِي الضَّيْفَ ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ)) ، رواه البخاريُّ .
واعلمُوا أنَّ ما تقدمونَه لأخوتِكم ستجدونَه خيراً عظيماً في صحائفِ أعمالِكم ، وقد قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ : «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» رواه مسلمٌ .
وقال : »المسلمُ أخو المسلمِ لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ ، مَنْ كان في حاجةِ أخيه كانَ اللهُ في حاجتِه ، ومَنْ فَرَّجَ عن مسلمٍ كربةً فَرَّجَ اللهُ عنه بها كربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ ، ومَنْ سَتَرَ مسلماً سَتَره اللهُ يومَ القيامةِ« ، رواه البخاريُّ ومسلمٌ  .
ولا تنسَوا أيُّها المسلمون الدعاءَ لهم بتفريجِ كُرْبَتِهم وتخفيفِ مُصَابِهم ، فإنَّ الدعاءَ أمرُه عظيمٌ ، وأثرُه كبيرٌ .
أيها المسلمون ، توبُوا إلى اللهِ ، وارجعِوا إليه ، واعمَلُوا صالحاً ، واهجُروا ما حرَّمَ اللهُ ، وتعاهَدوا أنفسَكم بالتوبةِ والاستغفارِ والمحاسَبَةِ ، واعلموا أنَّ الاستغفارَ والتوبةَ أمانٌ من العذابِ ، قال سبحانَه : {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .
واعلموا أنَّ صدقَ الإيمانِ يكشِفُ العذابَ ويرفعُه كما قالَ سبحانَه : {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍۢ} ، فلْنَتَعَاهَدْ أنفسَنا بالتوبةَ والاستغفارَ والمحاسبةَ وصدقَ الإيمانَ باللهَ سبحانه . 
أيُّها المسلمون ، تعاهدُوا أبناءَكم وبناتِكم بحسنِ التربيةِ وأمرِهم بالمعروفِ ونهيِهم عن المنكرِ ، ومراقبتِهم وعدمِ الغفلةِ عنهم ، فإنَّكم مسؤولون عنهم ، وأكثِرُوا من الدعاء لأنفسِكم وذرِّيَتِكم وعمومِ المسلمين .
اللهُمَّ ارفعِ عن إخوتِنا في سوريا وتركيا مُصَابَهم وكَرْبَهم ، اللهُمَّ اغفرْ لموتاهُم واشفِ مرضاهم ، اللهُمَّ استرْ عاريَهم ، وأطعمَ جائِعَهم ، اللهم ارحمْهم فأنتَ الرحمنُ الرحيمُ ، اللهُمَّ عافِهم ، واعفُ عنهم ، اللهُمَّ تولَّهم ، اللهم أصلحِ شأنَهم ، ورُدَّهُم إليك رداً جميلاً وجميعَ المسلمين .
اللهم وَفِّقْ المسلمين للوقوفِ معهم ، واجزِ خيراً من تبرَّعَ منهم ودعا لهم .
عِبَادَ اللهِ ، قَالَ اللهُ جَلَّ في عُلَاه : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ، اللَّهُمَّ ارْضَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ، وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِيْنَ ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِيْنَ ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الْمُوَحِّدِيْنَ ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الْمَهْمُومِيْنَ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ ، وَنَفِّسْ كَرْبَ الْمَكْرُوبِيْنَ ، وَاقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِيْنَ ، وَاشْفِ مَرْضَاهُمْ ، وَاغْفِرْ لِمَوْتَاهُم .
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِلَادَنَا بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ بِنَفْسِهِ ، وَرُدَّ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيراً عَلَيْهِ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيْزُ .
اللَّهُمَّ إِنَا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْوَبَاءِ وَالْغَلَاَءِ وَالرِّبَا والزِّنا، وَنعوذُ بك من الزَّلَازِلِ وَالْمِحَنِ وَسُوءِ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ ، ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .  
أقْسامُ الناسِ بَعْدِ مُضِيِّ أَكْثَرِ مِنْ نصْفِ رَمَضانَ
الخطبة الأولى
إِنَّ الحَمدَ للهِ نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه ، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تسلِيماً كَثِيراً . أمّا بعدُ : عِبادَ اللهِ : اتَّقُوا اللهَ تَعالى واشْكُرُوه عَلى أَنْ هداكُمْ لِلْإِسْلامِ ، وبَلَّغَكُمْ شَهْرَ رَمَضانَ ، وَوَفَّقَكُمْ لِلصِّيامِ والقِيامِ .
كُنَّا بِالأَمْسِ نَسْتَقْبِلُ شَهْرَ رَمَضانَ وَنَتَباشَرُ بِقُدومِهِ ، واليَوْمَ قَدْ مَضَى أَكَثَرُ مِن نِصْفهِ ، نَسْتَقْبِلُ بَعْدَ ذلكَ العَشْرَ الأَواخِرَ الْمُبارَكَةَ .
والناسُ فِيما مَضَى مِنْ أيَّامِ الشَّهْرِ وَلَيالِيهِ أَقْسامٌ : فَمِنْهُم مَنْ صامَ وقامَ واجْتَهَدَ وَبَذَلَ وُسْعَه في صِيانَةِ عَمَلِهِ ، وَبُعْدِهِ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ ، مَعَ التَّزَوُّدِ بِالأًعْمالِ الصالِحِةِ مِنْ تِلاوَةِ القُرْآنِ والذِّكْرِ والدُّعاءِ والصَّدَقَةِ وَغَيْرِ ذلك . فَمَنْ كانَت هذه حالُه فَلْيَحْمَدِ اللهَ ، وَلْيَحْرِصْ عَلى الثَّباتِ والاسْتِمْرارِ ، فَإِنَّ العَبْدَ مَهْمَا عَمِلَ فَإِنَّه قَلِيلٌ في حَقِّ اللهِ ، وَلِأَنَّ العَبْدَ مَأْمُورٌ بِطاعَةِ اللهِ حَتى الْمَوْتِ ، في رَمَضانَ وَغَيْرِهِ ، قالَ تَعالى : {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} .
القِسْمُ الثانِي : مَنْ صامَ وَقامَ وَلَكِنَّه مُفَرِّطٌ في عَمَلِهِ ، لا يَصُونُ جَوارِحَه عَمَّا حَرَّمَ اللهَ ، وَلا يُؤَدِّي العِبادَةَ عَلَى الوَجْهِ الْمَطْلُوبِ ، وَرُبَّمَا يَتَخَلَّفُ عَن صلاةِ الجَمَاعَةِ ، وَلا يَحْتَسِبُ الأَجْرَ في قِيامِهِ .
فَهذا العَبْدُ عَمَلُهُ ناقِصٌ ، وَقَدْ يَكُونُ عَلى خَطَرٍ ، فَرُبَّ صائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيامِهِ إلَّا الجُوعُ والعَطَشُ ، وُرُبَّ قائِمٍ لَيْسَ لَه مِنْ قِيامِهِ إلَّا السَّهُرُ ، لِأَنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بِهِ والجَهَلَ ، فَلَيْسَ للهِ حاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعامَه وَشَرابَه» .
القِسْمُ الثالِثُ : مَنْ كانَ مُعْرِضًا في هذا الشَّهْرِ ، وَكَأَنَّ شَهْرَ رَمَضانَ لَمْ يَدْخُلْ ، والصِّيامُ بِالنِّسْبَةِ لَهُ عَلَى حَسَبِ هَواه ، إِنْ شاءَ صامَ ، وإِنْ شاءَ أَفْطَرَ والعِياذُ بِاللهِ . فَيا حَسْرَةً لِمَنْ هذه حالُهُ ، وَ يا لَنَدَامَتَهُ إِنْ لَمْ يَتُبْ إلى اللهِ ، وَقَدْ دَعا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلامُ عَلَى مَنْ أَدْرَكَ رَمَضانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، بِأَنْ يُبْعِدَهُ اللهُ عَنْ رَحْمَتِهِ ، وأَمَّنَ عَلى هذا الدُّعاءِ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلَّمَ.
والسُّؤَالُ هُنَا : مَنْ كانَ مُفَرِّطًا فِيما مَضَى مِنْ أَصْحابِ القِسْمِ الثانِي والثالِثِ ؛ هَلْ فاتَهُمْ الخَيْرُ في هذا الشَّهْرِ؟ وَهَلْ هُناكَ فُرْصَةٌ لِلتَّعْوِيضِ؟ .
والجَوابُ بِأَنْ يُقالَ : كَيْفَ لا يَكُونُ هُناكَ فُرْصَةٌ لِلتَّعْوِيضِ وَأَنْتَ تَتَعامَلُ مَعَ أَرْحَمِ الراحِمِينَ ، الذي هُوَ أَرْحَمُ مِن الوالِدَةِ بِوَلَدِها ، والذي فَتَحَ بَابَ العَمَلِ والتَّوْبَةِ لِعَبْدِهِ مَهْمَا بَلَغَتْ ذُنُوبُهُ . {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} ، وَبَيَّنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللهَ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذلكَ الرَّجُلِ الذي أَضَلَّ راحِلَتَهُ بِفَلاةٍ مِن الأَرْضِ ، فَلَمَّا وَجَدَها بَعْدَ اليَأْسِ أَخَذَ بِخِطامِها وقال : (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وأَنَا رَبُّكَ ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ) .
إِنَّ أَمَامَ العَبْدِ الْمُفَرِّطِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ هذا الشَّهْرِ أَبْوابًا كَثِيرَةً :
أَوَّلُها : التَّوْبَةُ النَّصُوحُ ، فَإِنَّ العَبْدَ إذا تابَ وَصَدَقَ في تَوْبَتِهِ قَبِلَ اللهُ مِنْه مَهْمَا بَلَغَ ذَنْبُهُ . وَلَوْ تابَ وَصَدَقَ فِي تَوْبَتِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ كُلِّها ، وَتَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّوْبَةِ ، فَإنَّه يَرْجِعُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أَمُّهُ ، لِأَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : «التَّوْبَةُ تَجُبُّ ما قَبْلَها» .
الثانِي : الاجْتِهادُ في الصّيامِ والقِيامِ مَعَ الْمُسْلِمينَ فِيمَا بَقِيَ مِن الأَيَّامِ والليالِي ، مَعْ احتِسابِ الأَجْرِ عِنْدَ اللهِ .
الثالِثُ : تَذَكَّرْ أَيُّها الْمُسلِمُ أَنَّ دَعْوَةَ الصائِمِ مُسْتَجابَةٌ ، فانْتَهِزْ هذه الفُرْصَةَ ، وأَكْثِرْ مِن الدُّعاءِ والاسْتِغْفارِ ، وأَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مِن العُتَقاءِ مِن النارِ ، فَإِنَّ للهِ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن لَيالِي رَمَضانَ عُتَقاءَ مِن النارِ ، فاسْأَلْ رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَكَ مِنْهُمْ .
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون ، وَأسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم .
الخطبةُ الثانيةُ
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ ، وَأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ ، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ : أَيُّها الْمُسْلِمْ : الرابِعُ مِن الأَبْوابِ التي فَتَحَها اللهُ تَعَالى لِلْعَبْدِ المُفَرِّطِ في هذا الشَّهْرِ أَنَّنا عَلى أَبْوابِ العَشْرِ الأَوَاخِرِ ، وَإِدْراكُها مِنْ أَعْظَمِ الفُرَصِ لِلْمُجْتَهِدِ والْمُفَرِّطِ ، فَلَا تَحْرِمْ نَفْسَكَ الاجْتِهادَ فِيها ، خُصُوصًا صَلاةَ القِيامِ ، والتي يُؤَدِّيها الْمُسْلِمُونَ في الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِن اللَّيْلِ ، وَهُوَ الوَقْتُ الذي يَقُولُ اللهُ فِيهِ : «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَه ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَه ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لِه» . وَفِي العَشْرِ لَيْلَةُ القَدْرِ ، العِبادَةُ فِيها خَيْرٌ مِن العِبادَةِ أَلْفَ شَهْرٍ فِيمَا سِواها .
الخامِسُ : تَذَكَّرْ أَنَّ النبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ كانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِن الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَدَقِةِ والبَذْلِ والعَطاءِ في رَمَضانَ ، فَلَا تَحْرِمْ نَفْسَكَ مِن الصَدَقَةِ عَلَى حَسَبِ قُدْرَتِكَ واسْتِطاعَتِكَ ، وَلَوْ بِاليَسِيرِ ، وَعَلَيْكَ بِتَحَرِّي الْمَحاوِيجِ .
وَلا تَجْعَلْ كَثْرَةَ الْمُتَسَوِّلِينَ في الأَسْواقِ والجَوامِعِ وساحاتِها حائِلًا لَكَ عَنْ تَحَرِّي الْمَحاوِيجِ أَوْ البَذْلِ عَبْرَ الْمَنَصَّاتِ المَوْثُوقَةِ ، فَإنَّ ذلكَ يُشَتِّتُ صَدَقَتَكَ ، مَعَ ما فِي ذلكَ مِنْ حِرْمانِ الْمُسْتَحِقِّ ، والإِعانَةِ عَلَى كَثْرَةِ التَّسَوُّلِ والْمُتَسَوِّلِينَ ، والْمُتَلاعِبِينَ أوْ الْمُتاجِرِينَ بِذلكَ . وَلَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ مَا في ذلك مِن الأَضْرارِ السُّلَوكِيَّةِ والاجْتِماعِيَّةِ والأَمْنِيَّةِ والاقْتِصادِيَّةِ .
فَيَا مَنْ فَرَّطَ فِيمَا مَضَى ، لَيْسَ لَكَ عُذْرٌ بَعَدَ هذا كُلِّهِ ، وإيَّاكَ أَنْ تَفْتَحَ لِلشَّيْطانِ عَلَيْكَ بابًا ، فتَقُولَ : ما دامَ فاتَنِي الاجْتِهادُ مِن البِدايَةِ فَلَنْ أَلْحَقَ بِرَكْبِ مَنْ سَبَقَنِي .
اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا الصِّيامَ والقِيامَ ، وَبارِكْ لَنَا فِيمَا بَقِيَ مِن اللَّيالِي والأَيَّامِ ، وتجاوزْ عن التقصيرِ والآثامِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، اللهُمَّ أعتقْ رقابَنا من النارِ ، اللهُمَّ أعتقْ رقابَنا من النارِ يا أرحمَ الراحمينَ ، اللهُمَّ اقبلْ من المسلمين صيامَهم وقيامَهم واغفرْ لأحيائِهم وأمواتِهم يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، اللهُمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشركَ والمشركينَ ، واحمِ حوزةَ الدينِ ، وانصُرْ عبادَك المؤمنين في كلِّ مكانٍ ، اللهُمَّ احفظْ لهذه البلادِ دينَها وعقيدتَها وأمنَها وعِزَّتَها وسيادَتَها ، اللهُمَّ احفظْها ممن يكيدُ لها يا ربَّ العالمين ، اللهُمَّ وفِّقْ حُكَّامَها وأعوانَهم لما فيه صلاحُ أمرِ الإسلامِ والمسلمين يا حيُّ يا قيومُ ، اللهُمَّ اغفرْ للمسلمين والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ ، الأحياءِ منهم والأمواتِ ، إنَّك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدَّعَواتِ ، ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ .
جبرُ الخَواطرِ
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُه ونستعينُه ، ونستغفرُه ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ، ومن سيئاتِ أعمالِنا ، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومَن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُه ورسولُه . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًاكَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} ، أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ ، وأحسنَ الهديِ هديُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ، وشرَّ الأمورِ مُحْدَثَاتُها ، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ .
أيها المسلمون ، جَبْرُ الخواطرِ خُلُقٌ إسلاميٌّ عظيمٌ ، يدلُّ على سموِّ نفسٍ وعظمةِ قلبٍ ، وسلامةِ صدرٍ ورَجَاحَةِ عقلٍ ، يَجبُر المسلمُ فيه نفوسًا كُسِرَتْ ، وقلوبًا فُطِرت ، وأجسامًا أُرهقَتْ ، فما أجملَ هذه العبادةَ وما أعظمَ أثرَها ! .
ومما يُعطي هذا المصطلَحَ جمالًا أنَّ الجبرَ كلمةٌ مأخوذةٌ من أسماءِ اللهِ الحُسْنى ، وهو (الجبَّارُ) ، وهذا الاسم بمعناهُ الرائعِ يُطمئِنُ القلبَ ، ويُريحُ النفسَ ، فهو سبحانه الذي يجبُر الفقرَ بالغنى ، والمرضَ بالصحَّةِ ، والخيبةَ والفشلَ بالتوفيقِ والأَمَلِ ، والخوفَ والحزنَ بالأمنِ والاطمئنانِ ، فهو جبَّارٌ مُتَّصِفٌ بكثرةِ جبرِه حوائجَ الخلائقِ .
وجبرُ النفوسِ من الدعاءِ الملَازِمِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ؛ فقد ثبتَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ كان يقولُ بين السجدتينِ : «اللهُمَّ اغفِرْ لي وارحَمْني ، واهْدِني واجْبُرْني وارزُقْني» رواه الترمذيُّ وهو حديثٌ صحيحٌ . ومما قد يتضمَّنُ جبرَ الخواطرِ في القرآنِ الكريمِ : قولُه تعالى : ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ ، فكانَ هذا الوحيُ من اللهِ سبحانه وتعالى لتثبيتِ قلبِ يوسفَ عليه السلامُ ولجبرِ خاطِرِه ؛ لأنَّه ظُلِمَ وأُوذِيَ من أخْوَتِه ، والمظلومُ يحتاجُ إلى جبرِ خاطرٍ .
ومِثْلُه قولُه تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ، فرسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ الذي أحبَّ مكةَ التي وُلِد فيها ونَشَأَ ، أُخْرِجَ منها ظُلْمًا ، فاحتاجَ في هذا الموقِفِ الصَّعْبِ وهذا الفِراقِ الأليمِ إلى شيءٍ من التَّصْبيرِ والمواساةِ ، فأنزلَ اللهُ تعالى له قرآنًا مؤكَّدًا بقَسَمٍ أنَّ الذي فَرَضَ عليك القرآنَ وأرسَلك رسولًا ، وأمرَك بتبليغِ شَرْعِه ، سَيَرُدُّك إلى مَوْطِنِكَ مَكَّةَ عزيزًا منتصرًا ، وهذا ما حصَلَ .
ومثله أيضًا قولُه تعالى : ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ ، وانظُرْ إلى رَوْعَةِ العَطَاءِ المسْتَمِرِّ في هذه الآيةِ ، حتى يصلَ بالمسلمِ لحالةِ الرِّضا ، فهذه الآيةُ رسالةٌ إلى كلِّ مهمومٍ ومغمومٍ ، وتسليةٌ لصاحِبِ الحاجَةِ ، وفَرَجٌ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ في بلاءٍ وفِتْنَةٍ أنَّ اللهَ يجبُرُ كلَّ قَلْبٍ لجأَ إليه بصِدْقٍ .
وقد وردَ في صحيحِ مسْلِمٍ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ تلا قولَ اللهِ عزَّ وَجَلَّ في إبراهيمَ : ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ، وقالَ عيسى عليه السَّلامُ : ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ، فَرَفَعَ يديه ، وقالَ : «اللهُمَّ أُمَّتي أُمَّتي» ، وبَكَى ؛ فقالَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ : «يا جبريلُ اذهبْ إلى محمَّدٍ وربُّك أعلمُ ، فسَلْه : ما يُبكِيكَ؟» ، فأتاه جبريلُ عليه الصلاةُ والسَّلامُ فَسَألَه ، فأخْبَرَه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بما قالَ ، وهو أعلمُ ، فقالَ اللهُ : «يا جبريلُ اذهَبْ إلى محمَّدٍ فقلْ : إنَّا سنُرضِيكَ في أُمَّتِك ولا نَسوؤك» .
أيُّها المسلمون ، وهذه نماذِجُ عَمَلِيَّةٌ لجبرِ الخاطِرِ التي يجدُرُ بالمسلمِ أنْ يعمَلَ بها ، فَمْنْ واقعِنَا العمليِّ نماذجُ كثيرةٌ شرَعَها دينُنا الحنيفُ لجبرِ الخواطِرِ ، وتطييبِ النفوسِ ، لأجلِ ذلك كان من السُّنَّةِ تعزِيَةُ أهلِ الميِّتِ وتَسْلِيتُهم ومواساتُهم ، وتخفيفُ الأَلَمِ الذي أصابَهم عند فَقْدِ ميِّتِهم ، وكذلك عندَ مشاهدةِ بعضِ الفقراءِ أو اليتامى شيئًا من قِسْمَةِ الميراثِ ، فمن الأفضَلِ أن يُخصَّصَ لهم من المالِ شيءٌ يَجبُرُ خاطرَهم ويسدُّ حاجَتَهم ؛ حتى لا يبقى في نفوسِهم شيءٌ ؛ قالَ تعالى : ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ .
وقد عاتَبَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ ؛ لأنَه أعرضَ عن ابنِ أمِّ مَكْتُومٍ ، وكانَ أعمى عندما جاءَه سائلًا مُسْتَفْسِرًا قائلًا : عَلِّمني ممَّا علَّمَكَ اللهُ ، وكانَ النبيُّ عليه الصلاةُ والسَّلامُ منشغلًا بدعوةِ بعضِ صنادِيدِ قريشٍ ، فأعرضَ عنه ، فأنزل اللهُ : ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى﴾ .
قال القُرْطُبِيُّ رحمه اللهُ في التفسيرِ : ((فعاتَبَه اللهُ على ذلك؛ لكيلَا تَنْكَسِرَ قلوبُ أهلِ الإيمانِ)) . أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكُم فاسْتَغْفِروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحِيمُ .
الخطبةُ الثاني
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسولِ اللهِ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وبعدُ : أيُّها المسلمون ، تطييبُ الخاطِرِ لا يحتاجُ إلى كثيرِ جُهْدٍ ولا كبيرِ طاقةٍ ، فَرُبَّما يكفي البعضَ كلمةٌ مِن ذِكْرٍ أو دعاءٍ أو موعِظَةٍ ، وربَّما يحتاجُ الآخَرُ إلى مساعدةٍ ، وينقُصُ ذاك جاهٌ ، وينتَظِرُ البعضُ قضاءَ حاجةٍ ، ويكتفي البعضُ الآخَرُ بابتسامَةٍ ، فعلينا أنْ نَجتهدَ بإدخَالِ الفَرَحِ والسرورِ إلى قلوبِ إخوانِنَا ، ولا نبخَلَ على أنْفُسِنَا ، فالصَّدَقةُ والخيرُ نَفْعُه يعودُ إليكَ .
أيُّها المسلمونَ ، الشَّرْعُ يدعونا إلى الإحسانِ إلى الخَلْقِ ، وجَبْرِ خاطِرِهم ، فما أجملَ أنْ نتقَصَّدَ الشِّراءَ من بائِعٍ مُتَجَوِّل في حَرِّ الشمسِ ، يضطرُّ للسيرِ على قدميه باحثًا عن رزقِه ؛ مساعدةً له وجبرًا لخاطِرِه ! ، وما أروعَ أنْ نقبلَ اعتذارَ المخطِئِ بحقِّنا ، وخصوصًا عندما نعلمُ أنَّ خطأَه غيرُ مقصودٍ وأنَّ تاريخَ صُحْبَتِنَا معه طيِّبٌ نقيٌّ ، فالصَّفْحُ عنه ومسامحتُه تُطَيِّبُ نفسَه وتَجبُر خاطِرَه ! ، وتبادُلُ الهدايا بين الأقاربِ والأصدقاءِ والأحبابِ من أجملِ ما يُدخِلُ الفرحَةَ للقلبِ والهناءِ للنفْسِ ، وهي سبيلُ الحُبِّ ، وبِساطُ الوُدِّ ، وطريقُ الأُلْفَةِ ؛ لقولِه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ : «تَهادَوا تحابُّوا» ، رواه البخاريُّ .
والبِرُّ بأرقى صُوَرِه أن تشتريَ لوالديكَ ما يحتاجَان وتفاجِئَهُما بما يَفْقِدَان ؛ دونَ طَلَبٍ منهما أو سؤالٍ ، بل كَرَمٌ منك وتبرُّعٌ ، ففي هذا الفعلِ أجملُ ما يُسطَّر من جبرِ الخواطِرِ ، وإدخالِ الفَرَحِ والسرورِ على قلوبِهما ، كما لا ننسى صَاحِبَ الحَاجَةِ والمسكينَ الذي انكسرَ قلبُه وذلَّت نفسُه ، وضاقَ صدرُه ، ما أجملَ أنْ نجعلَ له من مالِنا نصيبًا ، ومن طعامِنا ولو بالشيءِ القليلِ ، ومن دعائِنا ما نستطيعُ ! ، بذلك نجبُر كَسْرَهم ، ونُطيِّبُ قلوبَهم .
أيها المسلمون وفي موضوعٍ آخرَ : فإنَّه يجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يبادرَ إلى أداءِ فريضةِ الحجِّ إذا كانَ مستطيعًا ، ولا يَسوغُ لهُ أن يتأخَّرَ وهو قادرٌ مستطيعٌ، بلْ عليهِ أن يبادَر بأدائهِ قبلَ أن يَعرضَ لهُ عارضٌ، لقولهِ ﷺ: «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ ــ يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ ــ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ» ، رواه أحمدُ وهو حديثٌ صحيحٌ ، وفي روايةٍ: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الرَّاحِلَةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ» رواه ابنُ ماجه وهو حديثٌ حسنٌ .
أيها المسلمون : صّلُوا وسَلِّمُوا -رعاكم اللهُ- على محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ رسولِ اللهِ ، أحسنِ الناسِ خُلُقَاً ، وأعظمِهم أدباً ، كما أمَرَكم اللهُ بذلك في كتابِه فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ ، وقالَ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ : «مَنْ صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا» ، اللهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ ، كما صَلَّيْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ ، وباركْ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ كما باركْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ ، وارضَ اللهُمَّ عن الخلفاءِ الراشدين الأئِمَّةِ المهديينَ أبي بكرٍ
وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ ، وارضَ اللهُمَّ عن الصحابةِ أجمعين وعن التابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ ، وعَنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وإحسانِك يا أكرمَ الأكرمينَ .
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الشركَ والمشركينَ ، ودمِّر أعداءَ الدينِ ، واحمِ حوزةَ الدينِ يا ربَّ العالمينَ ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلحْ أَئِمَّتَنَا وولاةَ أمورِنا ، واجعلْ وُلَايَتَنا فيمنْ خافَك واتَّقاك واتَّبعَ رضاك يا ربَّ العالمينَ ، اللهُمَّ وَفِّقْ وليَّ أمرِنا لهداكَ ، واجعلْ عَمَلَه في رضاكَ ، وارزقْه البطانَةَ الناصحَةَ الصالحةَ ، ووفِّقْ جميعَ ولاةِ المسلمين لما تحبُّ وترضى .
((اللهُمَّ أصلحْ حالَ إخوتِنا في السودانِ ، اللهُمَّ أصلحْ حالَهم ، وألِّفْ بين قلوبِهم ، اللهُمَّ أبعدْ عنهم الحروبَ والفتنَ يا ربَّ العالمين ، اللهُمَّ احفظْ السودانَ واحقِنْ دماءَهم ، اللهُمَّ احفظْ السودانَ وأهلَها من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ))
اللهُمَّ آتِ نفوسَنا تقواها ، وزَكِّها أنت خيرُ مَنْ زكَّاها ، أنت وليُّها ومولاها ، اللهُمَّ أصلحْ ذات بينِنِا ، وألِّفْ بين قلوبِنا ، واهدِنا سُبُلَ السلامِ ، وأخرجْنا من الظلماتِ إلى النورِ ، وباركْ لنا في أسماعِنا وأبصارِنا وأزواجِنا وذرِّيّاتِنا ، واجعلْنا مبارَكين أينما كُنَّا ، اللهُمَّ أصلحْ لنا شأنَنَا كلَّه يا ذا الجلالِ والإكرامِ ، اللهُمَّ اغفرْ لنا ذنبَنَا كلَّه دِقَّه وجِلَّه أوَّله وآخرَه ، سِرَّه وعَلَنَه ، اللهُمَّ اغفرْ لنا ولوالدِينا وللمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ ، ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنَةً وفي الآخِرَةِ حسَنَةً وقِنا عذابَ النارِ .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
المخدِّراتُ ، أسبابُها وطُرُقُ التخَلُّصِ منها
الخطبةُ الأولى
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا ، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ، ومَنْ يضْلِلْ فلا هاديَ له ، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ، وأشهدُ أنَّ محمَّداً عبدُه ورسولُه .
أما بعد : فَاتَّقُوا الله عبادَ الله ، وتأهّبوا ليومِ لقائِه ، فها هي الأيامُ تجري سِراعًا ، والشهورُ تمضـي تِباعًا ، والقبورُ مُشـرِعةٌ أفواهَها ، والمصيرُ محتومٌ ، والأجلُ مكتوبٌ ، فرحم اللهُ عبدًا تأهّبَ للخاتمةِ ، وجعل دنياهُ لدينِه خادمةً .
معاشر المؤمنين ، لقد كرَّم اللهُ الإنسانَ بالعقلِ ، وجعلَه منَاطَ التكَّليفِ ، به تميَّزَ الإنسانُ وتكرَّمَ ، وترقّى في شأنِه وتعلَّم ، وإذا أزال الإنسانُ عقلَه لم يكن بينه وبين البهائمِ فرقٌ ، بل هو أضلُّ منها .
ومن أعظمِ آفةِ المجتمعاتِ اليومَ المسكراتُ ، أمُّ الخبائثِ والكبائرِ ، وأصلُ الشرورِ والمصائبِ ، أجمع على ذمِّها العقلاءُ منذ عهدِ الجاهليَّةِ ، وترفَّعَ عنها النبلاءُ من قَبْلِ الإسلامِ ، فلمّا جاءَ الإسلامُ ذمَّها وحرَّمها ولعنَها ، ولعنَ شاربَها وعاصرَها ومعتصـرَها وحاملَها والمحمولةَ إليه ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِـرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ .
والخمرُ كلُّ ما خامرَ العقلَ مهما كان نوعُه وأيًّا كان اسمُه ؛ قال صلى الله عليه وسلم : »كلُّ مسكرٍ خمرٌ ، وكلُّ خمرٍ حرامٌ« رواه مسلم .
عبادَ الله ، والمخدِّراتُ بأنواعِها شرٌّ من الخمرِ ؛ فهي تُفسدُ العقلَ ، وتدمَّرُ الجسدَ ، وتُذهِبُ المالَ ، وتقتُلُ الغيرةَ ، فهي تُشَاركُ الخمرَ في الإسكارِ ، وتزيدُ عليها في كثرةِ الأضْرَارِ ، وقد أجمع الناسُ كلُّهم من المسلمين والكفَّار على ضررِ الـمُسْكِراتِ والمخدِّراتِ ووبالِها على الأفرادِ والمجتمعاتِ ، وتنادتْ لحربِها جميعُ الدولِ وتعاهدتْ ، وأدرك الجميعُ مخاطرَها ، ومع كلِّ ذلك فقد أبَى بعضُ التائهينَ إلاّ الانحطاطَ إلى دَرَكِ الذِّلِّةِ والانحِدارَ إلى الـمَهانةِ والقِلَّةِ ؛ فأزالوا عقولَهم معارضين بذلك العقلَ والشرعَ والجِبِلَّة .
عبادَ اللهِ ، بَينَ فَينَةٍ وَأُخرى؛ نَسمَعُ عن ضَبطِ الأجهزةِ الأمنيَّةِ لِمُهَرِّبِينَ ، والإيقاعِ بشبكةِ مُرَوِّجِينَ مُفسِدِين ، كَانُوا يُعِدُّونَ عُدَّتَهُم لِدُخُولِ هذه البلادِ ، بِشَرِّ ما يَجِدُونَ من أنواعِ المخَدِّرَاتِ والمُسكِرَاتِ ؛ لِتَنَالَ مِن دِينِ المسلمين ، وَتُفْسِدَ عُقُولَ شَبَابِهَا ، بِهذه المُسْكِرات والمخدِّرات ، فهي أَسهَلُ طَرِيقٍ لِإِفْسَادِ المُجتَمَعَاتِ ، وَأَقوَى وَسِيلَةٍ لاِحْتِلَالِ العُقُولِ والأفهامِ ، وتدميرِ الأديانِ والأبدان ، واختلالِ الأَمْنِ والأمان ! .
وآفاتُ المخدِّراتِ لا تقتَصرُ على هذه الدنيا ، بل يَمْتَدُّ شُؤْمُهَا إلى الآخرة ، فإنَّ اللهَ تَوَعَّدَ مَنْ تَعَاطاها بِأَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الخبال ، وعن جابرٍ أن النبيَ صلى الله عليه وسلم قال: »كلُّ مسكرٍ حرامٌ ، إنّ على الله عزَّ وجلَّ عهدًا لمن يشـربُ المسكرَ أن يَسْقيَه من طِيْنَةِ الخَبَالِ« ، قالوا : يا رسول الله ، وما طينةُ الخَبَالِ ؟ قال : »عَرَقُ أهلِ النارِ «أو: »عُصَارةُ أهلِ النارِ« رواه مسلم.
أيها المسلمون ، إنَّ معرفةَ أسبابِ الوقوعِ في المسْكراتِ والمخَدِّراتِ طريقٌ لعلاجِها ، فمِنْ أسبابِ الوقوعِ فيها صُحْبَةُ السُّوء ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ » : مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ ، فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، وَنَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً. «
فإذا عرفنا ذلك وَجَبَ علينا أنْ نتعاهَدَ أنفسَنا وأبنائَنا ، فنعرفَ مَنْ نُصاحبُ ومَنْ يصاحِبُ أبناؤُنا ، فإنَّ الصَّاحِبَ ساحبٌ ، وإنَّ المرءَ على دينِ خليلِه كما قال صلى الله عليه وسلم ، فلْينظرْ أحدُنا مَنْ يُصَاحِبُ ، ولْيَنْظُرْ أحدُنا إلى مَنْ يصاحبُ أبناؤُنا ، فإنَّ المرءَ مسؤولٌ أمامَ اللهِ عن أهلِه وزوجِه وأبنائِه .
إنَّ مراقبةَ الأولادِ واجبٌ ومسؤوليَّةٌ شَرْعِيَّةٌ ، وإنَّ معاهدتَهم بالتوجيهِ والنُّصْحِ لَـمِنْ أعظمِ ما يعودُ على المرءِ في حياتِه وبعد موتِه ، أليس إذا صَلَحَ الابنُ هَنَأَ الأبُ في حياتِه ، واستمرَّ عملُه بعد موتِه ، فإنَّ الابنَ الصالحَ لا يفتأُ يدعو لأبيه حيَّاً ومَيْتَا ، فإنَّ العبدَ إذا ماتَ انقطعَ عملُه إلا من ثلاثٍ ومنها ، ولدٍ صالحٍ يدعو له ، كما قال صلى اللهُ عليه وسلم .
ومِنْ أسبابِ الوقوعِ في المخدِّراتِ التَّدْخِينُ ، فهي المخدِّراتُ الصُّغْرى التي تَفْتَحُ بَوَّابَةَ المخدِّراتِ الكبرى ، وَثَبَتَ مِنْ خِلَالِ الدِّرَاسَاتِ الإحصائيَّةِ أنَّ التدخينَ طريقٌ لما هو أعظمُ منه من المسكراتِ والمخدِّراتِ .
فمحاربةُ التدخينِ هي في الحقيقةِ حربٌ على ما هو أعظمُ منها .
ومن أسبابِ الوقوعِ في المخدِّراتِ الهروبُ من الواقعِ ، وما عَلِمَ هذا الهاربُ أَنَّه كالمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنارِ .
ومن ذلك أنَّ الطَّالِبَ في أَيَّامِ الامتحاناتِ يَشْعُرُ بِالْخَوْفِ وَبِالتَّوَتُّرِ ، فيَلِجَأُ بَعْضُهُمْ إلى الحبوبِ المُخدِّرَةِ ؛ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا عِلَاجٌ لِهَذَا التّوَتُّرِ .
وبَعْضُهم إِذَا تَأَخَّرَ في النَّومِ ، أو أَصَابَهُ قَلَقٌ أو هَمٌّ ؛ يَلْجَأُ لِهَذِهِ الْمُهَدِّئَاتِ ، وهو لا يحتاجُ إليها ، فَيَنْتَقِلُ بَعْدَهَا إِلَى الْمُخَدِّرَاتِ .
فالشفاءُ مِنَ الأمراضِ والأحزانِ يكونُ بالأدويةِ المباحاتِ ، لا بالمخدِّراتِ والمحرَّماتِ .
وَمِنْ أسبابِ الوقوعِ في المخدرات ضَعفُ الإِيمان ؛ فضعيفُ الإيمان يخرجُ مِنَ المصيبةِ الدنيويَّةِ إلى المصيبةِ الدينيَّةِ بِتِلْكَ المخدراتِ التي لا تزيدُه إلا بلاءً وضَنْكًا ، وأما صاحبُ الإيمانِ فعندما تُصِيْبُه المصيبةُ يَعْلَمُ أنها ابتلاءٌ مِنَ الله ؛ فيأخذُ بالأسبابِ مع الصبرِ والاحتسابِ ، قال تعالى : ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ .
ومن أسبابِ الوُقُوعِ في المخدرات الفَرَاغُ ، فَإِنَّهُ لا أَفسَدَ لِلعُقُولِ مِنَ الفراغِ ، قال الشافعي رحمه اللهُ : (الْوَقْتُ سَيْفٌ ؛ فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ ، وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ) .
فَمَنْ شَغَل وَقْتَه بعبودية الْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى ربِّه وإلّا تأخَّر ، ولا وقوفَ في الطَّرِيق البتّة ، قال تعالى : ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ﴾ .
عِبَادَ اللهِ ، مِنْ أعظمِ الوقايةِ مِنْ آفةِ المخدرات التسلُّحُ بِسلاحِ الإيمانِ والتقوى ، وأنْ نُحِيطَ أَنْفُسَنَا بِصُحْبَةٍ صالحةٍ تُذَكِّرُنا باللهِ ، وتخوِّفُنَا مِنْ عقوبَتِه ، مع اغتنامِ الوقتِ بالطاعاتِ والحسَنَاتِ ، والهواياتِ المباحاتِ ، والحرصُ على تربيةِ الأبناءِ والشبابِ تربيةً صالحةٍ مبنيَّةٍ على الرِّفْقِ والحِكْمَةِ ، وإشغالُهم بما يُفِيدُهم في دنياهُم وأُخراهُم .
وأخيراً ؛ فإنَّ الإقلاعَ عن المخدِّراتِ ليسَ بالأمرِ المُستحيلِ ، إنما يحتاجُ إلى عزيمةٍ وشجاعةٍ واستِعانةٍ بالله ، ومَنْ صَدَقَ معَ الله أعانَهُ الله ، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ .
ولذةُ الانتصارِ على النَّفْسِ والهوى أعظمُ مِنْ لَذَّةٍ كاذبةٍ خاطئة ، يقول ابنُ القيِّم رحمه اللهُ : (إِنَّمَا يجد الْمَشَقَّة فِي تركِ المألوفاتِ والعوائدِ مَنْ تَرَكَهَا لغيرِ الله ، فَأَما من تَركهَا صَادِقاً مخلصاً من قلبِه للهِ ؛ فإنَّه لا يجدُ فِي تَركهَا مشقةً إِلَّا فِي أوَّلِ وهلةٍ ؛ ليُمْتَحَنْ أصادقٌ هوَ في تَركهَا أم كَاذِب ؛ فإنْ صَبرَ على تِلْكَ الْمَشَقَّةِ قَلِيلًا استحالت لَذَّة) .
عبادَ اللهِ ، إنَّ النصيحةَ المكرَّرةَ والوصيَّةَ المؤكَّدةَ هي الحِرصُ على الأبناءِ والبَنَاتِ ومتابعتُهم وملاحظتُهم ، ولا يعْنِي ذلك حصارُهم ، بل الترَّبيةُ والمراقبةُ ، والثقةُ والمتابعةُ ، أمَّا إذا كانت الثِّقةُ عمْياءً أو وُضِعتْ في غيرِ محلَّها ، فإنَّ نِتَاجَها الـحسْـرةُ والنَّدامةُ ، إنَّ على الآباءِ والمربِّينَ أن يقومُوا بواجبِهم بصدقٍ وعزمٍ وإخلاصٍ وجدِّيةٍ ، ويحذروا من التَّهاونِ واللَّامُبالاةِ .
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ ، أقولُ ما تسمعون ، وأستغفرُ اللهَ ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ .
الخطبةُ الثانيةُ
الحمدُ للهِ على إحسانِه ، والشُّكْرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ تعظيماً لشأنِه ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه ، وعلى صحبِه وآلِه .
أما بعد: فاتقوا اللهَ حقَّ التقوى ، وراقبوه في السرِّ والنجوى .
أيها المسلمون ، إنَّ من أعظمِ ما يُدْفَعُ به البلاءُ هو الدعاءُ ، فادعوا لأنفسِكم وأهليكم وأبنائِكم بالعافيةِ والصلاحِ والهُدى ، ادعُوا لأبنائِكم في صلواتِكم ، فَرُبَّ دعوةٍ كانت سبباً في هدايةٍ وعافيةٍ وخيرٍ عميمٍ ، قالَ بعضُ السَّلَفِ : إني لأطيلُ في صلاتي بسببِ دعائِي لأبنائِي .
أيها المسلمون ، إنَّ صلاحَ الزوجةِ صلاحٌ للأسرةِ بكامِلِها ، ولقد امتنَّ اللهُ على نبيِّه فقال : ﴿وأَصْلَحْنَا لهُ زَوْجَهُ﴾ ، فاحرصُوا أنْ تتعاهدوا أنفسَكم بالدعاءِ بصلاحِ القلبِ وصلاح الزوجِ وصلاحِ الأبناءِ ، فيقولَ المسلمُ : اللهُمَّ أصلحْ قلبي وأصلحْ أهلِي وأصلحِ ذريَّتي ، فإنَّه مع الإلحاحِ والاستمرارِ في الدعاءِ بذلك يستجيبُ اللهُ ، فلنْ يُخَيَّبَ اللهُ عبدا ًدعاه وألحَّ عليه بالدعاءِ .
اللهُمَّ احفظْنا واحفظْ علينا ، وعافِنا في أنفسِنا وفي دينِنا وأهلِنا ، وقِنا والمسلمين شرَّ هذه البلايا ، ورُدَّ ضالَّ المسلمين إليك ردًّا جميلاً .
أيها المسلمون وفي موضوعٍ آخرَ : فإنَّه يجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يبادرَ إلى أداءِ فريضةِ الحجِّ إذا كانَ مستطيعًا ، ولا يَسوغُ لهُ أن يتأخَّرَ وهو قادرٌ مستطيعٌ، بلْ عليهِ أن يبادَر بأدائهِ قبلَ أن يَعرضَ لهُ عارضٌ، لقولهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ ــ يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ ــ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ» ، رواه أحمدُ وهو حديثٌ صحيحٌ ، وفي روايةٍ: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الرَّاحِلَةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ» رواه ابنُ ماجه وهو حديثٌ حسنٌ .
هذا وصلُّوا وسَلِّموا على المبعوثِ رحمةً للعالمين ، كما قال ربُّكم في كتابِه : ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ .
اللهم صَلِّ وسَلِّمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك محمَّدٍ ، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين ، وارضَ اللهُمَّ عن خلفائِه الراشدين ، وصحابتِه والتابعين ، ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين .
اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين ، وأذِلَّ الشـرك والمشـركين ، ودمِّرْ أعداءَ الدينِ ، واجعلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمين ، اللهُمَّ مَنْ أرادَ بالإسلامِ والمُسلمين سُوءٍ فأشغِله في نفسِه ، ورُدَّ كيدَه في نحرِه ، واجعَلْ دائرةَ السَّوء عليه يا ربَّ العالمين .
اللهُم وَفِّقْ وليَّ أمرِنا ، ووُلاةَ أمورِ المُسلمين لما تُحِبُّ وترضى ، وخُذْ بهم للبرِّ والتقوى ، اللهُمَّ وفِّقْهم لتحكيمِ شرعِك ، واتِّباعِ سُنَّةِ نبيِّك ، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المُؤمنين .
((اللهُمَّ أصلحْ حالَ إخوتِنا في السودانِ ، اللهُمَّ أصلحْ حالَهم ، وألِّفْ بين قلوبِهم ، اللهُمَّ أبعدْ عنهم الحروبَ والفتنَ يا ربَّ العالمين ، اللهُمَّ احفظْ السودانَ واحقِنْ دماءَهم ، اللهُمَّ احفظْ السودانَ وأهلَها من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ)) .
عبادَ اللهِ ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، فاذكروا اللهَ يذْكُركم ، واشكروه على نِعَمِه يَزِدْكُم ، ولَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون .