يُمعن البدو في إرهاف حواسهم لاستخدامها في مقاومة جفاء صحرائهم وجفاف مواردها، حتى في تذوق الجمال واختبار الملذات. فعندما افتقرت حياتهم للملذات الذوقية - تلك التي تعرفها البشرية عن طريق أفواهها - عادوا إلى لغتهم، مددوها، شاسعوا مساحتها، وسعوا دلالاتها، ليتجاوز مصطلح التذوق معرفة اللسان إلى معرفة أشمل تُستسقى من جميع حواسهم الخمس، يملأونها نظرًا وشمًا وتذوقًا وملامسةً واستماعًا. ومن هنا وُلِد المجاز.
وعند تمام تشكيل لغتهم وعلوّ مخيلتهم السمعية واستكانتهم للذة التأمل ببراعة العارف وتلذذ الشره المُغرق في المادية، خاطبهم ربهم بما يعرفون، باللغة ذاتها التي باعدوا بين ألفاظها ودلالاتها، والتي ازدادت رَهَافةً مع كثرة طرقهم إياها، حتى صارت نسيمًا هفهافًا يُعزيهم كلما زأرت عواصف أرضهم ولسعت أطرافهم رمالها المتطايرة. خاطبهم بما يعرفون حقًا، بما يجيدون ببراعة، بمزيج اللغة والتأمل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، فصاروا يرددون: اللهم ارزقنا (لذّة النظر إلى وجهك).
هذه بالذات (لذّة النظر) مركزية في معرفتهم وأدوات تلقيهم للذة، فمن النظر في النجوم ومراقبة حركاتها إلى النظر في معالم الأرض والاستدلال بهما، حتى النظر في وجوه محبوباتهم بإجلالٍ مُفرط وتلذذ فاحش. يقول العباس بن الأحنف في هذا المعنى:
وأُقسِمُ لو أَبصَرتَنا حينَ نلتقي
ونحنُ سُكوتٌ، خِلتَنا نتكلَّمُ
وعلي بن الجهم قد أتى بمقلوب المعنى ويقول:
العَينُ بَعدَكَ لَم تَنظُر إِلى حَسَنِ
وَالنَفسُ بَعدَكَ لَم تَسكُن إِلى سَكَنِ
كَأَنَّ نَفسي إِذا ما غِبتَ غائِبَةٌ
حَتّى إِذا عُدتَ لي عادَت إِلى بَدَني
ولا زالت مركزية النظر قائمة حتى يومنا هذا في الشعر الشعبي بنفس الأهمية عند العرب الأوائل. فهذا بخيت العطاوي في هذا المعنى تحديدًا:
طرد النظر ما فيه عيبٍ عليّه
أبا تحلاّ بنت ماضين الأفعال
ياونتي يا سارة الوازعية
ونة معيد ساقه الفجر عمال
تقفي وتقبل فوق جال الركية
ومن الصلف خالي ظهرها من الحال
لاشدوا العربان ودوجر حنية
يبري لها قاعد بتسعين خيال
ولا عجب، فلم تتبدل الجزيرة العربية ثوبًا غير ثوبها، وهي التي صُنعت فيها اللغة وحُفظت لاحقًا، ووُلد لها الشعران فصيحه وعاميّه. ولم يزل أهلها يطرقون المعاني التي تكرسها بيئتهم وتخلقها ظروف معيشتهم باختلاف الأساليب والتراكيب.
وعند تمام تشكيل لغتهم وعلوّ مخيلتهم السمعية واستكانتهم للذة التأمل ببراعة العارف وتلذذ الشره المُغرق في المادية، خاطبهم ربهم بما يعرفون، باللغة ذاتها التي باعدوا بين ألفاظها ودلالاتها، والتي ازدادت رَهَافةً مع كثرة طرقهم إياها، حتى صارت نسيمًا هفهافًا يُعزيهم كلما زأرت عواصف أرضهم ولسعت أطرافهم رمالها المتطايرة. خاطبهم بما يعرفون حقًا، بما يجيدون ببراعة، بمزيج اللغة والتأمل: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، فصاروا يرددون: اللهم ارزقنا (لذّة النظر إلى وجهك).
هذه بالذات (لذّة النظر) مركزية في معرفتهم وأدوات تلقيهم للذة، فمن النظر في النجوم ومراقبة حركاتها إلى النظر في معالم الأرض والاستدلال بهما، حتى النظر في وجوه محبوباتهم بإجلالٍ مُفرط وتلذذ فاحش. يقول العباس بن الأحنف في هذا المعنى:
وأُقسِمُ لو أَبصَرتَنا حينَ نلتقي
ونحنُ سُكوتٌ، خِلتَنا نتكلَّمُ
وعلي بن الجهم قد أتى بمقلوب المعنى ويقول:
العَينُ بَعدَكَ لَم تَنظُر إِلى حَسَنِ
وَالنَفسُ بَعدَكَ لَم تَسكُن إِلى سَكَنِ
كَأَنَّ نَفسي إِذا ما غِبتَ غائِبَةٌ
حَتّى إِذا عُدتَ لي عادَت إِلى بَدَني
ولا زالت مركزية النظر قائمة حتى يومنا هذا في الشعر الشعبي بنفس الأهمية عند العرب الأوائل. فهذا بخيت العطاوي في هذا المعنى تحديدًا:
طرد النظر ما فيه عيبٍ عليّه
أبا تحلاّ بنت ماضين الأفعال
ياونتي يا سارة الوازعية
ونة معيد ساقه الفجر عمال
تقفي وتقبل فوق جال الركية
ومن الصلف خالي ظهرها من الحال
لاشدوا العربان ودوجر حنية
يبري لها قاعد بتسعين خيال
ولا عجب، فلم تتبدل الجزيرة العربية ثوبًا غير ثوبها، وهي التي صُنعت فيها اللغة وحُفظت لاحقًا، ووُلد لها الشعران فصيحه وعاميّه. ولم يزل أهلها يطرقون المعاني التي تكرسها بيئتهم وتخلقها ظروف معيشتهم باختلاف الأساليب والتراكيب.
من الشعراء الذين صَدَقوا في حبهم وصوّر شعرُهُهم مشاعِرَهم بشكلٍ دقيق، العباس بن الأحنف الذي بقي يلهج بذكر محبوبته فوز حتى آخر العمر، وله قصيدة فائية أبدع فيها في تصوير آلامه وأحزانه إذ يقول:
يا دارَ فوزٍ لقَد أورَثتِني دَنَفا
وزادَني بُعدُ داري عنكُمُ شغَفَا
حتى متى أنا مكروبٌ بذكرِكُمُ
أُمسِي وأُصبحُ صَبًّا هائمًا دَنِفا
لا أستريحُ ولا أنساكمُ أبدًا
ولا أرى كرْبَ هذا الحبِّ مُنكشِفا
ما ذُقتُ بعَدَكمُ عيشاً سُرِرْتُ به
ولا رأيتُ لكم عِدْلاً ولا خلفا
إنّي لأعجبُ من قلبٍ يحبُّكُمُ
وما رأى منكُمُ بِرّاً ولا لَطَفا
لوْلا شَقاوَة ُ جَدّي ما عرَفتُكُمُ
إنّ الشّقيَّ الذي يشقى بمن عرفا
ما زِلتُ بَعدَكُمُ أهذي بذكركمُ
كأنَّ ذكرَكمُ بالقلبِ قد رُصفا
ياليتَ شِعري وما في ليتَ من فرجٍ
هل مضى عائدٌ منكم وما سلفا
اصرِفْ فؤادَكَ يا عبّاسُ مُنصرفًا
عنها يكن عنكَ كَرْبُ الحبِّ منصرفا
لو كانَ ينساهمُ قلبي نسيتهمُ
لكنّ قَلبي لَهُمْ والله قد ألِفَا
أشكو إليكِ الذي بي يا مُعَذِّبَتي
وَما أُقاسِي وما أسطيعُ أن أصِفَا
يا هَمَّ نَفسي ويا سمعي ويا بَصري
حتى متى حبُّكمْ بالقلبِ قد كلِفا
ما كنتُ أعلمُ ماهمٌّ وما جزَعٌ
حتى شربتُ بكأسِ الحبّ مغترِفَا
ثارت حرارتها في الصّدر فاشتعلتْ
كأنّما هي نارٌ أُطعمتْ سَعَفا
طافَ الهَوَى بعِبادِ الله كُلّهِمُ
حتّى إذا مرَّ بي من بينهم وقفا!
إذا جحدتُ الهوى يومًا لأدفنهُ
في الصّدر نمَّ عليّ الدّمعُ معترفا
لم ألقَ ذا صفة ٍ للحبِّ ينعتهُ
إلا وجدتُ الذي بي فوق ما وصفا
يُضحي فؤادي بهذا الحُبّ مُلتحمًا
وَقْفًا ويُمسِي عليّ الحبُّ مُلتَحِفَا
ما ظَنُّكُمْ بفتى ً طالَتْ بَلِيّتُه
مُرَوَّعْ في الهوى لا يأمنُ التَّلفا
يا فوزُ كيف بكم والدّارُ قد شَحَطَتْ
بي عنكُمُ وخروجُ النفسِ قد أزفا
قد قُلتُ لمَّا رَأيتُ الموْتَ يَقصِدُني
وكادَ يهتِفُ بي داعيهِ أوْ هَتَفَا:
أموتُ شَوْقًا ولا ألقاكُمُ أبَدًا
يا حَسرَتا ثمّ يا شوْقا وَيا أسَفَا
يا دارَ فوزٍ لقَد أورَثتِني دَنَفا
وزادَني بُعدُ داري عنكُمُ شغَفَا
حتى متى أنا مكروبٌ بذكرِكُمُ
أُمسِي وأُصبحُ صَبًّا هائمًا دَنِفا
لا أستريحُ ولا أنساكمُ أبدًا
ولا أرى كرْبَ هذا الحبِّ مُنكشِفا
ما ذُقتُ بعَدَكمُ عيشاً سُرِرْتُ به
ولا رأيتُ لكم عِدْلاً ولا خلفا
إنّي لأعجبُ من قلبٍ يحبُّكُمُ
وما رأى منكُمُ بِرّاً ولا لَطَفا
لوْلا شَقاوَة ُ جَدّي ما عرَفتُكُمُ
إنّ الشّقيَّ الذي يشقى بمن عرفا
ما زِلتُ بَعدَكُمُ أهذي بذكركمُ
كأنَّ ذكرَكمُ بالقلبِ قد رُصفا
ياليتَ شِعري وما في ليتَ من فرجٍ
هل مضى عائدٌ منكم وما سلفا
اصرِفْ فؤادَكَ يا عبّاسُ مُنصرفًا
عنها يكن عنكَ كَرْبُ الحبِّ منصرفا
لو كانَ ينساهمُ قلبي نسيتهمُ
لكنّ قَلبي لَهُمْ والله قد ألِفَا
أشكو إليكِ الذي بي يا مُعَذِّبَتي
وَما أُقاسِي وما أسطيعُ أن أصِفَا
يا هَمَّ نَفسي ويا سمعي ويا بَصري
حتى متى حبُّكمْ بالقلبِ قد كلِفا
ما كنتُ أعلمُ ماهمٌّ وما جزَعٌ
حتى شربتُ بكأسِ الحبّ مغترِفَا
ثارت حرارتها في الصّدر فاشتعلتْ
كأنّما هي نارٌ أُطعمتْ سَعَفا
طافَ الهَوَى بعِبادِ الله كُلّهِمُ
حتّى إذا مرَّ بي من بينهم وقفا!
إذا جحدتُ الهوى يومًا لأدفنهُ
في الصّدر نمَّ عليّ الدّمعُ معترفا
لم ألقَ ذا صفة ٍ للحبِّ ينعتهُ
إلا وجدتُ الذي بي فوق ما وصفا
يُضحي فؤادي بهذا الحُبّ مُلتحمًا
وَقْفًا ويُمسِي عليّ الحبُّ مُلتَحِفَا
ما ظَنُّكُمْ بفتى ً طالَتْ بَلِيّتُه
مُرَوَّعْ في الهوى لا يأمنُ التَّلفا
يا فوزُ كيف بكم والدّارُ قد شَحَطَتْ
بي عنكُمُ وخروجُ النفسِ قد أزفا
قد قُلتُ لمَّا رَأيتُ الموْتَ يَقصِدُني
وكادَ يهتِفُ بي داعيهِ أوْ هَتَفَا:
أموتُ شَوْقًا ولا ألقاكُمُ أبَدًا
يا حَسرَتا ثمّ يا شوْقا وَيا أسَفَا
منذ عهد بعيد وأنا أقرأ الأبيات التي باح بها شاعر الغرام العباس ابن الأحنف، وهو الصادقُ في بوحه، وأعجب كيف لم يتصدع قلبه لما أنشدها، ليسَ من السهل أن تنسى ودادَ من صدَقَ قلبُك في مودتهم يومًا، مهما فعلوا، لكنّ الخداعَ مرُّ المذاق..
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمتُ منتصبًا
من ثقل ما حملوا من ودّهم قعدوا
جاروا عليّ ولم يوفوا بعهدهم
قد كنتُ أحسبُهُم يُوفونَ إنْ عَهدوا!
أَلفَيتُ بَيني وَبَينَ الهَمِّ مَعرِفَةً
لا تَنقَضي أَبَداً أَو يَنقَضي الأَبَدُ
حَسبي بِأَن تَعلَموا أَن قَد أَحَبَّكُمُ
قَلبي، وَأَن تَسمَعوا صَوتَ الَّذي أَجِدُ
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمتُ منتصبًا
من ثقل ما حملوا من ودّهم قعدوا
جاروا عليّ ولم يوفوا بعهدهم
قد كنتُ أحسبُهُم يُوفونَ إنْ عَهدوا!
أَلفَيتُ بَيني وَبَينَ الهَمِّ مَعرِفَةً
لا تَنقَضي أَبَداً أَو يَنقَضي الأَبَدُ
حَسبي بِأَن تَعلَموا أَن قَد أَحَبَّكُمُ
قَلبي، وَأَن تَسمَعوا صَوتَ الَّذي أَجِدُ
زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّرا
وارحمْ حشًى بلظى هواكَ تسعَّرا
وإذا سألتكَ أنْ أراكَ حقيقة ً
فاسمَحْ، ولا تجعلْ جوابي:لن تَرَى
يا قلبُ! أنتَ وعدتَني في حُبّهمْ
صبرًا فحاذرْ أنْ تضيقَ وتضجرا
إنّ الغَرامَ هوَ الحَياة، فَمُتْ بِهِ
صَبّاً، فحقّكَ أن تَموتَ، وتُعذَرَا
قُل لِلّذِينَ تقدّمُوا قَبْلي، ومَن
بَعْدي، ومَن أضحى لأشجاني يَرَى؛
عني خذوا، وبيَ اقْتدوا، وليَ اسْمعوا
وتحدَّثوا بصبابتي بينَ الورى
ولقدْ خلوتُ معَ الحبيبِ وبيننا
سِرٌّ أرَقّ مِنَ النّسيمِ، إذا سرَى
وأباحَ طرفي نظرة ً أمَّلتها
فغدوتُ معروفًا وكنتُ منكَّرا
فدهشتُ بينَ جمالهِ وجلالهِ
وغدا لسانُ الحالِ عني مخبرا
فأدِرْ لِحاظَكَ في مَحاسِن وَجْهِهِ
تَلْقَى جَميعَ الحُسْنِ، فيهِ، مُصَوَّرا
لوْ أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورَةً
ورآهُ، كانَ مهلِّلاً ومكبَّرا
- ابن الفارض
وارحمْ حشًى بلظى هواكَ تسعَّرا
وإذا سألتكَ أنْ أراكَ حقيقة ً
فاسمَحْ، ولا تجعلْ جوابي:لن تَرَى
يا قلبُ! أنتَ وعدتَني في حُبّهمْ
صبرًا فحاذرْ أنْ تضيقَ وتضجرا
إنّ الغَرامَ هوَ الحَياة، فَمُتْ بِهِ
صَبّاً، فحقّكَ أن تَموتَ، وتُعذَرَا
قُل لِلّذِينَ تقدّمُوا قَبْلي، ومَن
بَعْدي، ومَن أضحى لأشجاني يَرَى؛
عني خذوا، وبيَ اقْتدوا، وليَ اسْمعوا
وتحدَّثوا بصبابتي بينَ الورى
ولقدْ خلوتُ معَ الحبيبِ وبيننا
سِرٌّ أرَقّ مِنَ النّسيمِ، إذا سرَى
وأباحَ طرفي نظرة ً أمَّلتها
فغدوتُ معروفًا وكنتُ منكَّرا
فدهشتُ بينَ جمالهِ وجلالهِ
وغدا لسانُ الحالِ عني مخبرا
فأدِرْ لِحاظَكَ في مَحاسِن وَجْهِهِ
تَلْقَى جَميعَ الحُسْنِ، فيهِ، مُصَوَّرا
لوْ أنّ كُلّ الحُسْنِ يكمُلُ صُورَةً
ورآهُ، كانَ مهلِّلاً ومكبَّرا
- ابن الفارض