وإذ أشعرُ أحيانًا بأني قد فرغتُ من الكتابة، وخَفتَ نورها في قلبي، وباتت كلماتي صمَّاء لا تُسكِت جوعَ قارئٍ لها. لكن الكتابة لا تنتهي، تمرض ولا تموت، ربما يزيل الخريف تفتُّح أوراقها، فيحييها بردُ الشتاء في قلبٍ ساكنٍ.
الكتابة لا تفنى وإن فنى صاحبها، بل تظل أحرفه حيةً في روحٍ أخرى أمدًا طويلًا. لطالما أشقى وأُعذَّب بها فأجد نزفَ جراحها في قلب غيري، لكنها دوائي الذي أستقي منه إذا تعاظمت الآلام، فصارت عندي كبلاء المحبِّ.
وكلُّ لديه سلاح، وسلاح الكاتب قلمه، ورصاصته هي كلمته، ومشاعره هي البارود الذي يطيحُ بأفئدة العذارىٰ من الناس؛ حيث تهوىٰ قلوبهم وعقولهم الموت أمام أحبار القلم.
الكتابة لا تفنى وإن فنى صاحبها، بل تظل أحرفه حيةً في روحٍ أخرى أمدًا طويلًا. لطالما أشقى وأُعذَّب بها فأجد نزفَ جراحها في قلب غيري، لكنها دوائي الذي أستقي منه إذا تعاظمت الآلام، فصارت عندي كبلاء المحبِّ.
وكلُّ لديه سلاح، وسلاح الكاتب قلمه، ورصاصته هي كلمته، ومشاعره هي البارود الذي يطيحُ بأفئدة العذارىٰ من الناس؛ حيث تهوىٰ قلوبهم وعقولهم الموت أمام أحبار القلم.
الحزن ثقيلٌ والأكتاف مائلة، والصبر على المحزون أثقل، ولا يشعرنَّ بألم الإصبع إلا من كُسرت ساقه، ومن فقد الغالي زهد في الرَّخيص، والراضي بالدون دنيء، والشجاعة خيرٌ بين الجبن والتهور، والعدل أجلُّ من المساواة، ومن طمع عَسُر، ومن قنع ملك، ومن جحد تقهقر، والمقهور على شرط القاهر؛ ولا قاهر إلا الله.
كل كلمةٍ تخرج من فمك، كل عملٍ تصنعه يداك، كل غضبةٍ تغضبها وكل عزيزٍ تدفع به في حبِّ رسول الله، يسقط الآن في أقدارك، في سيرتك بين الخلائق، في عقر قبرك، في صحيفتك حين يفرُّ المرء من أخيه، وفي جنتك حين ينظر إليك النبيُّ ويباهي بك وبإخوانك الأمم.
كل كلمةٍ تخرج من فمك، كل معركةٍ تخوضها وكل قطيعةٍ تقطعها، كل حقٍّ تدعو إليه وكل باطلٍ تنهي عنه، لشرف رسول اللّٰه، تنتصر به لنفسك، لأهلك على الصراط، على شيطانك، على الكافرين في الأرض والمنافقين بين الناس، فرسول الله منصورٌ منصورٌ، بك أو بدونك، فكن ناصرًا؛ "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّه".
كل كلمةٍ تخرج من فمك، كل دمعةٍ تسقط من عينيك، كل صلاةٍ تناجي بها وكل تسليمٍ تسلِّم به، في ذكر رسول اللّٰه، ستشفع لك تحت الأرض وفوق السماء، شفاعةً لا ترد، بين يديه الشريفة حول حوضه، حتَّىٰ وإن أصبحت عاصيًا وأمسيت عاصيًا وكنت من الغافلين.
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا ونبيِّنا ومولانا وحبيبنا محمد رسول اللّٰه.
كل كلمةٍ تخرج من فمك، كل معركةٍ تخوضها وكل قطيعةٍ تقطعها، كل حقٍّ تدعو إليه وكل باطلٍ تنهي عنه، لشرف رسول اللّٰه، تنتصر به لنفسك، لأهلك على الصراط، على شيطانك، على الكافرين في الأرض والمنافقين بين الناس، فرسول الله منصورٌ منصورٌ، بك أو بدونك، فكن ناصرًا؛ "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّه".
كل كلمةٍ تخرج من فمك، كل دمعةٍ تسقط من عينيك، كل صلاةٍ تناجي بها وكل تسليمٍ تسلِّم به، في ذكر رسول اللّٰه، ستشفع لك تحت الأرض وفوق السماء، شفاعةً لا ترد، بين يديه الشريفة حول حوضه، حتَّىٰ وإن أصبحت عاصيًا وأمسيت عاصيًا وكنت من الغافلين.
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا ونبيِّنا ومولانا وحبيبنا محمد رسول اللّٰه.
تجري العادة عند الكتابة عن الاحتلال -أيُّ احتلال- أن يُسطِّر الكاتب تاريخًا مؤلمًا بشعًا عن المحتل، لكن في حالة الاحتلال الفرنسي، تحديدًا، فلا أدري أتنزف الحروف دمًا أم حبرًا؟! وهل غطَّت رائحة العطور الفرنسية على رائحة الدماء المصنوعة منها؟
قراءة مؤلمة لطيفة بعد طول انقطاع. "(
https://bit.ly/2HTWhEf
قراءة مؤلمة لطيفة بعد طول انقطاع. "(
https://bit.ly/2HTWhEf
في الأمس القريب خرج علينا "ماكرون" مهاجمًا الإسلام وأهله، ساخرًا من نبينا الكريم، ومتوعِّدًا كل من يمس أمن بلاده بسوءٍ؛ بلاده التي شاعت -وتشيع- فسادًا وإفسادًا في كل مكان تعتدي عليه.
وبعد لقاءٍ خبيثٍ مع قناةٍ أخبث، تراجعت حدة كلماته وترقَّقت ألفاظه وكتب بالعربية دون الفرنسية؛ كل هذا ليستعطف المسلمين البسطاء -في نظره- بعد التحامهم ومقاطعتهم منتجات بلاده، وبعد أن رأي شوكتهم كأفرادٍ وشعوبٍ رغم صمت حكامهم المعهود.
المشكلة أن أغلب الناس -الغارقين في عاطفتهم كالعادة- وكذلك المثبطين الذين يتمسحون في حذاء الكونت الفرنسي، صدَّقوا كلمات ذا "الماكر" عن التسامح والمعايشة، وبدؤوا في خفض وتيرة الغضب وتركوا الدفاع عن الغاية الأساسية المرجوة من #مقاطعة_المنتجات_الفرنسية.
إن أهم ما ينقصنا كمسلمين في مواجهتنا لأعدائنا أمران: النفس الطويل، والانطلاق من المرجعية الدينية. لا يصلح أن نقدم دين الإنسانوية على دين الله، أو ننشغل بحواشي الأمور دون الجادة، أو ننخدع بالكلام المعسول فننسى به دناءة وخسَّة قائله. وبتدقيق النظر فإن أغلب النكبات والنوازل الكبرى في تاريخ المسلمين، حدثت بفعل الخيانة والضعف وانحراف المرجعية.
فذكِّروا أنفسكم وأولادكم، أبناء هذا الجيل وما يليه، بعظمة الإسلام وهمِّ الدفاع عنه، بفضيلة الجهاد ولو بكلمةٍ حقٍّ في وقتها. ذكِّروهم #إلا_رسول_الله، بالصخرة على صدر بلال، بنوم عليٍّ في فراش النبي، بصحوة عمر وخالد والزبير، بطيف أبي ذرٍّ إذ يمشي وحده، وبجناحي جعفر في الجنة بعد أن حمل الراية بعضديه.
وبعد لقاءٍ خبيثٍ مع قناةٍ أخبث، تراجعت حدة كلماته وترقَّقت ألفاظه وكتب بالعربية دون الفرنسية؛ كل هذا ليستعطف المسلمين البسطاء -في نظره- بعد التحامهم ومقاطعتهم منتجات بلاده، وبعد أن رأي شوكتهم كأفرادٍ وشعوبٍ رغم صمت حكامهم المعهود.
المشكلة أن أغلب الناس -الغارقين في عاطفتهم كالعادة- وكذلك المثبطين الذين يتمسحون في حذاء الكونت الفرنسي، صدَّقوا كلمات ذا "الماكر" عن التسامح والمعايشة، وبدؤوا في خفض وتيرة الغضب وتركوا الدفاع عن الغاية الأساسية المرجوة من #مقاطعة_المنتجات_الفرنسية.
إن أهم ما ينقصنا كمسلمين في مواجهتنا لأعدائنا أمران: النفس الطويل، والانطلاق من المرجعية الدينية. لا يصلح أن نقدم دين الإنسانوية على دين الله، أو ننشغل بحواشي الأمور دون الجادة، أو ننخدع بالكلام المعسول فننسى به دناءة وخسَّة قائله. وبتدقيق النظر فإن أغلب النكبات والنوازل الكبرى في تاريخ المسلمين، حدثت بفعل الخيانة والضعف وانحراف المرجعية.
فذكِّروا أنفسكم وأولادكم، أبناء هذا الجيل وما يليه، بعظمة الإسلام وهمِّ الدفاع عنه، بفضيلة الجهاد ولو بكلمةٍ حقٍّ في وقتها. ذكِّروهم #إلا_رسول_الله، بالصخرة على صدر بلال، بنوم عليٍّ في فراش النبي، بصحوة عمر وخالد والزبير، بطيف أبي ذرٍّ إذ يمشي وحده، وبجناحي جعفر في الجنة بعد أن حمل الراية بعضديه.
يُحكىٰ في مخيِّلتي، بعيدًا عن قومنا وقوم آبائنا، أنِّي تزوجت أميرةً أندلسيًّةً جميلةً يفوق حسنُها حسن كلماتي، تسمى "قُصيمة بنت حنش الثعالبي". كانت -أعزَّها الله- بليغة العقل، ذلقة اللسان، عميقة الفكر والدين، يطيب التودد لمثلها فلا أملُّ حتَّىٰ تملُّ. المهم يعني، ولأني رجلٌ شرقيٌّ لا يملأ عيني إلا التراب، فقد هجرتها هجرًا جميلًا لأجل جاريةٍ حسناء الشكل، فارعة القوام، تكاد تقطر عسلًا من شدة صفائها، رغم أنها لا تحسنُ قولًا أو فعلًا كما تحسن الأخرى، وهذا كافٍ جدًا، بصراحة، طالما تجيد الطبخ والتودد بالكلام، لكنها ما لبثت أن هجرتني هي الأخرى لسنكوحٍ مثلها متشرِّد.
عُدت للأميرة مرةً أخرى مطأطئ الرأس من ذُلٍّ، فوجدتها غضبىٰ حانقةً عليًّ، متوعدةً لي بأشد العذاب، وأنا أستاهل الصراحة، فأتت بجلِّ قومها وحرَّاسها فوق رأسي وزجُّوا بي سجينًا في قعر قصرها. لاقيت في السجن شتَّى ألوان التعذيب والتنكيل، والشتم والضرب، وتحولت الأندلس فجأةً إلى شبرا، ويكأنَّ جينًا مصريًّا قد استشرى بينهم. بعد وقتٍ قد مضى، أُخذتُ مكبَّلًا بالأغلال أمام جمعٍ من الناس، ثم أُشعلت نارًا أسفل قدمي، فتعاظم الموقف وخشعت الأبصار وتنصتت الآذان. التفتت "قصيمة" نحوي، ودار حديثٌ شعريٌّ جامحٌ بيننا:
صرختُ مستعطفًا:
أمَا اكتفيتِ بنارٍ فتَأتِ بمثلِها
إنِّي بذِي النَّارَينِ أصلَىٰ وأُختضَمُ
فقالت غاضبةً:
أتعجبنَّ بغيري وغيري لست تُعجبُه
وتطلُبنَّ الآن ذليلًا عفونا كرمُ
وتقتُلنَّ فُؤادي بحِبِّ أنتَ خادِعُه
وترحلنَّ بيسرٍ ويسري دونكَ الألمُ
فأردفت يأسًا:
يا كُلُّ ما لِي والكلُّ دونكِ
أنتِ السُّكون وفيكِ السُّكْنُ مُلتحمُ
وإني ليؤرقُني شوقٌ مُفارقني
جَاوزتهُ تَعبًا طَليحًا فَاقِدًا عزمُ
أغْوَت فؤادي بنتُ الكلب قادرةً
وما لمثلي الآن من عُذرٍ ولا كَلِمُ
صمتت "قصيمة" هنيةً ثم قالت بصوتٍ باردٍ:
سأعفو عنك كرامةً وأنا على البطش قادرة، لكن وغلاوة المذاكرة التي أتهرب منها لأُخرجنَّ منك ومنها كتاكيت صغيرة.
عُدت للأميرة مرةً أخرى مطأطئ الرأس من ذُلٍّ، فوجدتها غضبىٰ حانقةً عليًّ، متوعدةً لي بأشد العذاب، وأنا أستاهل الصراحة، فأتت بجلِّ قومها وحرَّاسها فوق رأسي وزجُّوا بي سجينًا في قعر قصرها. لاقيت في السجن شتَّى ألوان التعذيب والتنكيل، والشتم والضرب، وتحولت الأندلس فجأةً إلى شبرا، ويكأنَّ جينًا مصريًّا قد استشرى بينهم. بعد وقتٍ قد مضى، أُخذتُ مكبَّلًا بالأغلال أمام جمعٍ من الناس، ثم أُشعلت نارًا أسفل قدمي، فتعاظم الموقف وخشعت الأبصار وتنصتت الآذان. التفتت "قصيمة" نحوي، ودار حديثٌ شعريٌّ جامحٌ بيننا:
صرختُ مستعطفًا:
أمَا اكتفيتِ بنارٍ فتَأتِ بمثلِها
إنِّي بذِي النَّارَينِ أصلَىٰ وأُختضَمُ
فقالت غاضبةً:
أتعجبنَّ بغيري وغيري لست تُعجبُه
وتطلُبنَّ الآن ذليلًا عفونا كرمُ
وتقتُلنَّ فُؤادي بحِبِّ أنتَ خادِعُه
وترحلنَّ بيسرٍ ويسري دونكَ الألمُ
فأردفت يأسًا:
يا كُلُّ ما لِي والكلُّ دونكِ
أنتِ السُّكون وفيكِ السُّكْنُ مُلتحمُ
وإني ليؤرقُني شوقٌ مُفارقني
جَاوزتهُ تَعبًا طَليحًا فَاقِدًا عزمُ
أغْوَت فؤادي بنتُ الكلب قادرةً
وما لمثلي الآن من عُذرٍ ولا كَلِمُ
صمتت "قصيمة" هنيةً ثم قالت بصوتٍ باردٍ:
سأعفو عنك كرامةً وأنا على البطش قادرة، لكن وغلاوة المذاكرة التي أتهرب منها لأُخرجنَّ منك ومنها كتاكيت صغيرة.
"الرجل حيوانٌ بلا رادعٍ نفسيٍّ، المرأةُ هشاشةٌ مفرطةٌ".
صدقت "ميُّ زيادة" فيما تقول كما نقله "واسيني الأعرج" على لسانها، إخبارًا عن علاقتها "بجبران" وإن خالفتها في مغالطة التعميم، لكني أبدًا أحب "لمي" قلمها، وأبدًا لم أحب ضعف قوتها وقلة حيلتها وهوانها على من أحبت فاكتوت فأخلصت فماتت.
كلما نظرت في سيرة "جبران" لم أرَ إلا ذلك الشرقي القحُّ الذي أحبَّ الظل وترك صاحبته تنتظر عشرين عامًا، خلا فيها بنفسه متنقلًا بين أحضان الحسناوات الأجنبيات، ولم يسعَ خلالهم مرةً للقاء تلك المسكينة التي شكَّلتها نار الغيرة وخشيت أن تموت ولم تدر للقيا بينهما دائرة، وظل حبُّهما رهين الورق للورق والرسائل للرسائل. وإني لأعجب للتي لم تلتفت بقلبها إلى سواه الذين -في نظري- فاقوه حبًّا وإخلاصًا، ولو ذُكر "الرَّافعي" و"العقاد" لكفى.
بيد أن الكتابة عن الحب لا تعني الوقوع فيه، فقد يكون الأديب صاحب قلمٍ مسنونٍ لا ينضب، وما أَثبتَ غَدَرَهُ حين يقاتل شوقًا، فيتكلم بالحبِّ عن الحبِّ، ويخطُّ من الكتب مثنىٰ وثلاث ورُباع، فيقطر لسانه كسحابةٍ وقعت فاخضرَّت لها الأَرض من كثرة ما تحمل، وهو على ذلك أحوج الناس إلى قلبٍ يبصر الحبَّ ولو بغير كَلمٍ. وذا هو لسان سائر الأدباء على أي حال؛ إذ يتخذون من الحبِّ مادةً للمتع العقلية والروحية يستولدون به أحرفهم ويستثيرون ذائقتهم، وأبدًا لا يسفر عن احتياجٍ صادقٍ يروم الوصل الحلال.
وكذا الحديث عن الزواج وفقهه، لا يعني بالضرورة صلاح الزيجة وبركتها وحسن العشير بين المرء وزوجه، إذ ترى الواحد، ذكرًا أو أنثى، صالح الهيئة، رفيع الخلق، ظاهره الصلاح والجود والتقوى، يتكلم بالشيء فتحسب أن آية الزواج قد نزلت فيه، فأصابه منها وابِلٌ فآتت أُكُلَها ضعفين، وهو على ذلك كالحجارة أو أشد قسوة.
الأقوال أقفالٌ مفتاحها العمل، فمن لم يُختبر صدق مقولته واقعًا فلا يغرَّنك تقلب أحرفه في أنهار الحبِّ والهوى، فإن ماءه الصافي قد يخفي كدره في قعره، فخذ الحرف ودع قائله، ولتشملك الذائقة دون تجرع مرارتها، فكم من شاعرٍ شَهدَ الوقيعة أحرفًا ولم يغادر سيفه غمده، وكم من كاتبٍ نسج من خيط الحروف عباءات الولع ولم يتحرك قلبه مثقال ذرةٍ نحو محبوبه المسكين.
وما أُبرئُ نفسي حين أكتب عن الحبِّ، ولم تصبني سهامه بعد.
صدقت "ميُّ زيادة" فيما تقول كما نقله "واسيني الأعرج" على لسانها، إخبارًا عن علاقتها "بجبران" وإن خالفتها في مغالطة التعميم، لكني أبدًا أحب "لمي" قلمها، وأبدًا لم أحب ضعف قوتها وقلة حيلتها وهوانها على من أحبت فاكتوت فأخلصت فماتت.
كلما نظرت في سيرة "جبران" لم أرَ إلا ذلك الشرقي القحُّ الذي أحبَّ الظل وترك صاحبته تنتظر عشرين عامًا، خلا فيها بنفسه متنقلًا بين أحضان الحسناوات الأجنبيات، ولم يسعَ خلالهم مرةً للقاء تلك المسكينة التي شكَّلتها نار الغيرة وخشيت أن تموت ولم تدر للقيا بينهما دائرة، وظل حبُّهما رهين الورق للورق والرسائل للرسائل. وإني لأعجب للتي لم تلتفت بقلبها إلى سواه الذين -في نظري- فاقوه حبًّا وإخلاصًا، ولو ذُكر "الرَّافعي" و"العقاد" لكفى.
بيد أن الكتابة عن الحب لا تعني الوقوع فيه، فقد يكون الأديب صاحب قلمٍ مسنونٍ لا ينضب، وما أَثبتَ غَدَرَهُ حين يقاتل شوقًا، فيتكلم بالحبِّ عن الحبِّ، ويخطُّ من الكتب مثنىٰ وثلاث ورُباع، فيقطر لسانه كسحابةٍ وقعت فاخضرَّت لها الأَرض من كثرة ما تحمل، وهو على ذلك أحوج الناس إلى قلبٍ يبصر الحبَّ ولو بغير كَلمٍ. وذا هو لسان سائر الأدباء على أي حال؛ إذ يتخذون من الحبِّ مادةً للمتع العقلية والروحية يستولدون به أحرفهم ويستثيرون ذائقتهم، وأبدًا لا يسفر عن احتياجٍ صادقٍ يروم الوصل الحلال.
وكذا الحديث عن الزواج وفقهه، لا يعني بالضرورة صلاح الزيجة وبركتها وحسن العشير بين المرء وزوجه، إذ ترى الواحد، ذكرًا أو أنثى، صالح الهيئة، رفيع الخلق، ظاهره الصلاح والجود والتقوى، يتكلم بالشيء فتحسب أن آية الزواج قد نزلت فيه، فأصابه منها وابِلٌ فآتت أُكُلَها ضعفين، وهو على ذلك كالحجارة أو أشد قسوة.
الأقوال أقفالٌ مفتاحها العمل، فمن لم يُختبر صدق مقولته واقعًا فلا يغرَّنك تقلب أحرفه في أنهار الحبِّ والهوى، فإن ماءه الصافي قد يخفي كدره في قعره، فخذ الحرف ودع قائله، ولتشملك الذائقة دون تجرع مرارتها، فكم من شاعرٍ شَهدَ الوقيعة أحرفًا ولم يغادر سيفه غمده، وكم من كاتبٍ نسج من خيط الحروف عباءات الولع ولم يتحرك قلبه مثقال ذرةٍ نحو محبوبه المسكين.
وما أُبرئُ نفسي حين أكتب عن الحبِّ، ولم تصبني سهامه بعد.
البيوت منائرٌ، والنساء سِراجُها. نعمتان يألفهما الناس، وأكثرهم عن الشكر غافلون. أحيانًا أخرج في سفرٍ، فأختلط بالبشر وأهوالهم، وأتساءل: متى سأعود إلى جدران بيتي؟ دفء غرفتي؟ ووجه أمي؟ ولا أنفكُّ أفكر في أخٍ مسلمٍ لاقيته ولا دار غير الطريق يسكنها، أو أختٍ تحمل متاعها وقد فرقتها الغربة عن ذويها، أو إخوةٍ كُثرٍ دارت عليهم رحىٰ الحرب، فمزَّقت شملهم وجعلت من ديارهم أطلالًا يكتبُ فيها الشعر. لكني أغفل، تلهيني الدنيا كعادتها، ولا يشعر بالمرِّ إلا من ذاق الحنظل.
أعرف أن الحمل ثقيل؛ أن يكون المرء مطلوبًا لا طالبًا لهو حملٌ ثقيلٌ على النفس، لكن للَّه في خلقه شئون، ومن أمره حِكمٌ وآيات. يصعِّد من ثقل الحمل، فساد العرف وتفشِّي المادية وعلمنة الزواج، وربطه بمورَّثاتٍ سطحية يعزِّزُها أمران: شهوة المال لا راحة البال، وطبقية التعليم في كنفِ شهاداته وإن جَهل به حاملها. وبينهما أمورٌ متشابهاتٌ من جانب بعض الأزواج كسوء العشير، وكذا الأفكار السلبية المورَّثة للأجيال السابقة وجهلهم بما ينفع عيالهم في دينهم ودنياهم. لكن كما أنَّ للعملة وجهين، فللرواية وجهٌ آخرٌ مهمٌّ وإن قلَّت صفحاته؛ ويختص بكنَّ لا غير.
هكذا أرى النساء، أكثرهنَّ للأسف؛ يحملن البأسَ في يدٍ واليأسَ في اليدِ الأخرى، وكأنَّ خَلقهنَّ من ضلعٍ أعوج يُرىٰ إعجازه عيانًا بيانًا فلا اختلاف فيه. فيمِلْن إلى إثبات حقيقةٍ ما يجهلن عبثيتها أكثر من المنوط إثباتها لهم، فيخلطن بين الخشونة والتعفُّف، والإقصاء والاستقلال، والرعونة والمرونة، والعفاف والجفاف، والحياء والبرود. وبينهم أمورٌ متباينات، وتفريطٌ يقابله إفراط، وقليلٌ هنَّ من يفطنَّ المعادلة، فيسلكن الجادة لا بنيات الطريق، ويعلمن أن خير الأمور الوسط.
وبعد أن رُسمت ملامح الصورة، وجُمعت حواشِي مادتها، يأتي الآن دور تشكيلها والوقوف على تفاصيلها المبهمة. وعند ذكر المرأة فليس للإيجاز مكانٌ هاهنا؛ إنما إطنابٌ غير مُخِلٍّ ولا مُمِلٍّ، فيناسب طباعها المتقلبة ومشاعرها الفيَّاضة. وأقول: إنما يتمحور دور الفتاة المسلمة في مرحلة الزواج -من منظورٍ شخصيٍّ- حول أمرين أساسيين: الدعاء الصادق، ثم الأخذ بالأسباب. فأمَّا الدعاء فأمره معروف؛ يتشارك فيه العباد في جلب خيرٍ أو دفع شرٍّ. وأمَّا الأخذ بالأسباب؛ فكما تجْتذِبُ الأنثى شريكها بين الحيوانات، أو يتقاتل الذَّكران للفوز بها فيقدِّم أحدهما استعراضًا معجزًا لا خلل فيه، فهنا أيضًا يتشارك فيه كلاهما مع اختلاف الطرائق والمنهجية وشرعة البشر.
وإذا انتقلنا إلى دور المرأة، فلا نعني أن تتحول من كونها أنثى لها بريقها المُصان وحياؤها الطاهر، إلى مترجِّلةٍ في ثوب امرأة، فتخالف فطرتها وحدود ربها لتتحول من طابع الأنوثة إلى كائنٍ آخر ليس له وصفٌ دقيقٌ بين مجتمع الرجال والنساء؛ يطلقون عليه "Feminism" أو النسويَّات. لكن ما نعنيه هنا يتلخص في مصطلحٍ دقيقٍ مقتضاه: "Social Visibility" أو الظهور الاجتماعي؛ وبه تخرج الفتاة من سجنها الذي صنعته بيديها وأغلقت بابه على نفسها، إلى محيط تأثيرها المكفول تحت ضوابط وتشريعات الدين. ولن يتم هذا إلا إذا تخلصت من إحدى هذه الشخصيات أو السمات التي تلبست بها -حبًّا أو كرهًا- أدناه.
وللحديث بقيةٌ بين ثنايا المقال.
[زواج الفتيات بين التقوقع والانفلات، ١٠ مارس/آذار ٢٠٢٠].
هكذا أرى النساء، أكثرهنَّ للأسف؛ يحملن البأسَ في يدٍ واليأسَ في اليدِ الأخرى، وكأنَّ خَلقهنَّ من ضلعٍ أعوج يُرىٰ إعجازه عيانًا بيانًا فلا اختلاف فيه. فيمِلْن إلى إثبات حقيقةٍ ما يجهلن عبثيتها أكثر من المنوط إثباتها لهم، فيخلطن بين الخشونة والتعفُّف، والإقصاء والاستقلال، والرعونة والمرونة، والعفاف والجفاف، والحياء والبرود. وبينهم أمورٌ متباينات، وتفريطٌ يقابله إفراط، وقليلٌ هنَّ من يفطنَّ المعادلة، فيسلكن الجادة لا بنيات الطريق، ويعلمن أن خير الأمور الوسط.
وبعد أن رُسمت ملامح الصورة، وجُمعت حواشِي مادتها، يأتي الآن دور تشكيلها والوقوف على تفاصيلها المبهمة. وعند ذكر المرأة فليس للإيجاز مكانٌ هاهنا؛ إنما إطنابٌ غير مُخِلٍّ ولا مُمِلٍّ، فيناسب طباعها المتقلبة ومشاعرها الفيَّاضة. وأقول: إنما يتمحور دور الفتاة المسلمة في مرحلة الزواج -من منظورٍ شخصيٍّ- حول أمرين أساسيين: الدعاء الصادق، ثم الأخذ بالأسباب. فأمَّا الدعاء فأمره معروف؛ يتشارك فيه العباد في جلب خيرٍ أو دفع شرٍّ. وأمَّا الأخذ بالأسباب؛ فكما تجْتذِبُ الأنثى شريكها بين الحيوانات، أو يتقاتل الذَّكران للفوز بها فيقدِّم أحدهما استعراضًا معجزًا لا خلل فيه، فهنا أيضًا يتشارك فيه كلاهما مع اختلاف الطرائق والمنهجية وشرعة البشر.
وإذا انتقلنا إلى دور المرأة، فلا نعني أن تتحول من كونها أنثى لها بريقها المُصان وحياؤها الطاهر، إلى مترجِّلةٍ في ثوب امرأة، فتخالف فطرتها وحدود ربها لتتحول من طابع الأنوثة إلى كائنٍ آخر ليس له وصفٌ دقيقٌ بين مجتمع الرجال والنساء؛ يطلقون عليه "Feminism" أو النسويَّات. لكن ما نعنيه هنا يتلخص في مصطلحٍ دقيقٍ مقتضاه: "Social Visibility" أو الظهور الاجتماعي؛ وبه تخرج الفتاة من سجنها الذي صنعته بيديها وأغلقت بابه على نفسها، إلى محيط تأثيرها المكفول تحت ضوابط وتشريعات الدين. ولن يتم هذا إلا إذا تخلصت من إحدى هذه الشخصيات أو السمات التي تلبست بها -حبًّا أو كرهًا- أدناه.
وللحديث بقيةٌ بين ثنايا المقال.
[زواج الفتيات بين التقوقع والانفلات، ١٠ مارس/آذار ٢٠٢٠].
لأننا بشر وتمام الكمال لله وحده: يخطئ المرء -بقطع النظر في احتمالية الخطأ- بقدر جهله بحقائق الأمور، وكذا تباين المواقف واختلاف وجهات النظر فيها. أخطئ حينًا غير معصومٍ، ويخطئ غيري فيعدِل ويميل، وخير الخطَّائين التوابون، وخير ناصحٍ من سبق لين قوله منطقه.
قيل في الأثر: "ليس من أساء في شيءٍ، يسيئ في كل شيء". أو هكذا ينصف العقلاء. غير أن خطأ المرء لا يشفع قبح مصحِّحه، كما لا يُنقَّى الدنس أبدًا بدنسٍ مثله، وخير لأحدهم أن يأكل نارًا فيصمت، على أن يجهر لسانه بالسوء من القول يعيِّر أخاه. والكيِّسُ من دان نفسه، كاسرًا جَفن عينه، على كل حال.
ألسنة الناس سمومٌ لا ترياق لها. قد يقتل اللِّسان بعضًا ما يعجز عن قتله السيف، وقد تقع الكلمة في قلب أحدهم وقوع الصخرة من محجرها، وجرح القول غائرٌ لا يندمل بالكي، بارزٌ من أثر الطعنات. فلا يستفحل أحدكم ليدفع قرينه عن جهلٍ فعلى الجميع تدور الدوائر، ومن ظلم فعليه اللعنة إلى يوم الدين.
وهل جزاءُ الإحسانِ إلَّا الإحسان؟!
قيل في الأثر: "ليس من أساء في شيءٍ، يسيئ في كل شيء". أو هكذا ينصف العقلاء. غير أن خطأ المرء لا يشفع قبح مصحِّحه، كما لا يُنقَّى الدنس أبدًا بدنسٍ مثله، وخير لأحدهم أن يأكل نارًا فيصمت، على أن يجهر لسانه بالسوء من القول يعيِّر أخاه. والكيِّسُ من دان نفسه، كاسرًا جَفن عينه، على كل حال.
ألسنة الناس سمومٌ لا ترياق لها. قد يقتل اللِّسان بعضًا ما يعجز عن قتله السيف، وقد تقع الكلمة في قلب أحدهم وقوع الصخرة من محجرها، وجرح القول غائرٌ لا يندمل بالكي، بارزٌ من أثر الطعنات. فلا يستفحل أحدكم ليدفع قرينه عن جهلٍ فعلى الجميع تدور الدوائر، ومن ظلم فعليه اللعنة إلى يوم الدين.
وهل جزاءُ الإحسانِ إلَّا الإحسان؟!
لا أحبُّ مثل أمِّي، بعد أمِّي، غير أمِّي. هكذا أومن وأشعر، وهكذا لا يصح في الحقيقة إلا الصحيح.
فجر اليوم سافرت "لين"، درَّة دارنا الأولى وحلتها الصغيرة، برفقة أمها لتستأنس بأبيها أو لتؤنسه بعد طول غياب. وقد انخرط أهل بيتنا في شغلٍ وانشغالٍ بضعة أيامٍ استعدادًا للسفر، فأخذت أمي تعدُّ الطعام وترتب الحقائب وتتفقد النواقص ونور البهجة يتلألأ في عينيها، حتى أصابتني الغيرة من حماستها وهي تطهو بيدٍ وتضع شيئًا بيدٍ، وتخرج من غرفةٍ إلى غرفةٍ، ومن عملٍ إلى عملٍ، كأنما تجهِّز عرس ابنتها التي لم ترزق بها، فلا تكاد تكلُّ أو تملُّ طيلة الليل.
حينها انزويت وحدي قليلًا وأخذت تنوح بخلدي الخواطر، فتراءت لي شكوى أغلب البنات المتزوجات من سوء المعاملة والإهمال من أهل أزواجهنَّ وبالأخص معاملة الأم والأخت، سواء كنَّ يعشن معًا في بيتٍ عائليٍّ أو مستقلٍ، فأنظر إلى صنيع أمي بين موضعٍ وآخر، وبين موقفٍ وموقفٍ، فأحمد الله على آلائه أن رزقني بيتًا رئيفًا مثل بيتي، وأمًّا حنونًا مثل أمي، وما صنعني بما أنا عليه الآن إلا على عينها.
في غالب الأمر لم أعهد حديث الأنا؛ بل أمقِّتها، ولا أرفع نفسي قدرًا فوق ما هي عليه، وعادةً لا أؤخذ بسيف الانبهار تجاه أحدهم مهما أتاه الله علمًا وحلمًا، إلا أمي؛ مستثنى في الناس يلزمها التخصيص، وسكونٌ لكل نفسٍ جالستها واستمعت لها أو أكلت طعامها وشربت شرابها. وليست أمي بملاكٍ منزوع الخطأ، فهي بسيطةٌ لينةٌ، غير أنها عنيدة، تجادل أربعة رجالٍ في بيتنا وتخرج منتصرةً برأيها في كل مرة، ونقلِّب نحن الكفَّ على الكفِّ صاغرين باسمين.
فهنيئًا ثم هنيئًا لمن ستظفر بأمي أمًّا ثانيةً لها.
فجر اليوم سافرت "لين"، درَّة دارنا الأولى وحلتها الصغيرة، برفقة أمها لتستأنس بأبيها أو لتؤنسه بعد طول غياب. وقد انخرط أهل بيتنا في شغلٍ وانشغالٍ بضعة أيامٍ استعدادًا للسفر، فأخذت أمي تعدُّ الطعام وترتب الحقائب وتتفقد النواقص ونور البهجة يتلألأ في عينيها، حتى أصابتني الغيرة من حماستها وهي تطهو بيدٍ وتضع شيئًا بيدٍ، وتخرج من غرفةٍ إلى غرفةٍ، ومن عملٍ إلى عملٍ، كأنما تجهِّز عرس ابنتها التي لم ترزق بها، فلا تكاد تكلُّ أو تملُّ طيلة الليل.
حينها انزويت وحدي قليلًا وأخذت تنوح بخلدي الخواطر، فتراءت لي شكوى أغلب البنات المتزوجات من سوء المعاملة والإهمال من أهل أزواجهنَّ وبالأخص معاملة الأم والأخت، سواء كنَّ يعشن معًا في بيتٍ عائليٍّ أو مستقلٍ، فأنظر إلى صنيع أمي بين موضعٍ وآخر، وبين موقفٍ وموقفٍ، فأحمد الله على آلائه أن رزقني بيتًا رئيفًا مثل بيتي، وأمًّا حنونًا مثل أمي، وما صنعني بما أنا عليه الآن إلا على عينها.
في غالب الأمر لم أعهد حديث الأنا؛ بل أمقِّتها، ولا أرفع نفسي قدرًا فوق ما هي عليه، وعادةً لا أؤخذ بسيف الانبهار تجاه أحدهم مهما أتاه الله علمًا وحلمًا، إلا أمي؛ مستثنى في الناس يلزمها التخصيص، وسكونٌ لكل نفسٍ جالستها واستمعت لها أو أكلت طعامها وشربت شرابها. وليست أمي بملاكٍ منزوع الخطأ، فهي بسيطةٌ لينةٌ، غير أنها عنيدة، تجادل أربعة رجالٍ في بيتنا وتخرج منتصرةً برأيها في كل مرة، ونقلِّب نحن الكفَّ على الكفِّ صاغرين باسمين.
فهنيئًا ثم هنيئًا لمن ستظفر بأمي أمًّا ثانيةً لها.
اللَّيل مؤنسُ الحيارىٰ، ومأوى السُكارىٰ، قطَّعتهُ سهرًا، وشغلته ذِكرًا، وحمَّلته وزرًا، وأودعته سرًّا، فطال وعسْعَسا.
من سنة الله في خلقه أن فطرهم على "الزواج"، الذي يبدأ -وفق منظور الإسلام- بالخطبة وتنتهي إليه أو يقف الأمر عند مرحلة الخطبة ولا يتعداها. تلك الخطبة من المفترض أن وظفيتها الأساسية: التعرف على الشريك الآخر واختبار معاملاته وصفاته وتأكيد مشاعرنا (البدائية) نحوه، فينكشف الشخصين على بعضهما قدر الإمكان دون مغالاة أو مثالية في التعامل. ثم يتم الزواج فتكتمل به المودة والرحمة والألفة والامتزاج بين الشريكين.
دور الخطبة (الخطوبة) الصحيحة يجب أن تكون خالية وبعيدة كل البعد عن المثالية والتصنع، لأن طبيعة مشاعرنا قبل الزواج تكون غالبًا عفوية لحظية ومتسرعة، غمرة مشاعر متأججة تجاه الشخص الآخر باختلاف النسب والتوافق، وربما تشغلنا تلك المشاعر عن اختبار الشخص فننصدم لاحقًا إلى العيوب والنقائص التي تنكشف تباعًا بعد استقرار الحياة وهدوء الزخم؛ وهذه هي لب أسباب الطلاق التي تنتهي بها أغلب الزيجات.
الخطبة في ذاتها دون عقد لا تبيح الخروج المنفرد مع الشريك الآخر والخلوة معه ولا التلامس الجسدي والأحضان والحبكات الدرامية اللطيفة التي يتغنى بها الشباب ويحفلون بها، وتوارثت في مجتمعنا عبر السينما والروايات والحياة الغربية. فإذا أراد المخطوبين الخروج للتحدث في مكان هادئ بعيد عن البيت، فلا بد أن يكون هناك محرم من أهل الفتاة (أخ أو والد)، لأن الخطوبة ما هي إلا وعد بالزواج، تلك مهمتها التي تقف وتنتهي عندها، والشريك الآخر يظل أجنبي حتى يوم العقد حفظًا لحرمة الفتاة وكرامتها إذا ما فُسخت الخطبة وانتهت صلتها بالمتقدم.
الشكل الظاهري للشخص وثقافته العامة وشهاداته وألقابه التي يتغنى بها الناس وحسبه ونسبه كلها معايير مهمة ومتباينة عند الاختيار بين شخصٍ وآخر، لكنها أبدًا لا تغني عن الدين والخلق الصحيحين، ولا تعني بالضرورة التوافق الكلي الملزِم للزواج بغيرالتعامل المباشر الواقعي مع الشخص، لنستوضح طباعه على حقيقتها وطريقة تعامله أثناء الضغط والمشكلات، ونكشف التفاصيل الدقيقة في تعاملاته الاجتماعية مع أهله والمحيطين وحديث الناس عنه بالخير أو الشر، وكذا أفكاره الشخصية عن الزواج والتربية وحقوق الشريك وواجباته.
وأخيرًا، الزواج الصالح والحياة الطيبة بين الزوجين محض توفيقٍ بحتٍ من الله، يرزقه من يشاء ويبتلي به من يشاء، ومهما أخذنا بأسباب الاختيار والانتقاء والمفاضلة بين كبراء الناس وأشرافهم، فلا شيء يعلو فوق ركعتي الاستخارة ولا سبيل لوصلٍ حلالٍ دون معية الله وبركته وتيسيره.
والله أعلم.
دور الخطبة (الخطوبة) الصحيحة يجب أن تكون خالية وبعيدة كل البعد عن المثالية والتصنع، لأن طبيعة مشاعرنا قبل الزواج تكون غالبًا عفوية لحظية ومتسرعة، غمرة مشاعر متأججة تجاه الشخص الآخر باختلاف النسب والتوافق، وربما تشغلنا تلك المشاعر عن اختبار الشخص فننصدم لاحقًا إلى العيوب والنقائص التي تنكشف تباعًا بعد استقرار الحياة وهدوء الزخم؛ وهذه هي لب أسباب الطلاق التي تنتهي بها أغلب الزيجات.
الخطبة في ذاتها دون عقد لا تبيح الخروج المنفرد مع الشريك الآخر والخلوة معه ولا التلامس الجسدي والأحضان والحبكات الدرامية اللطيفة التي يتغنى بها الشباب ويحفلون بها، وتوارثت في مجتمعنا عبر السينما والروايات والحياة الغربية. فإذا أراد المخطوبين الخروج للتحدث في مكان هادئ بعيد عن البيت، فلا بد أن يكون هناك محرم من أهل الفتاة (أخ أو والد)، لأن الخطوبة ما هي إلا وعد بالزواج، تلك مهمتها التي تقف وتنتهي عندها، والشريك الآخر يظل أجنبي حتى يوم العقد حفظًا لحرمة الفتاة وكرامتها إذا ما فُسخت الخطبة وانتهت صلتها بالمتقدم.
الشكل الظاهري للشخص وثقافته العامة وشهاداته وألقابه التي يتغنى بها الناس وحسبه ونسبه كلها معايير مهمة ومتباينة عند الاختيار بين شخصٍ وآخر، لكنها أبدًا لا تغني عن الدين والخلق الصحيحين، ولا تعني بالضرورة التوافق الكلي الملزِم للزواج بغيرالتعامل المباشر الواقعي مع الشخص، لنستوضح طباعه على حقيقتها وطريقة تعامله أثناء الضغط والمشكلات، ونكشف التفاصيل الدقيقة في تعاملاته الاجتماعية مع أهله والمحيطين وحديث الناس عنه بالخير أو الشر، وكذا أفكاره الشخصية عن الزواج والتربية وحقوق الشريك وواجباته.
وأخيرًا، الزواج الصالح والحياة الطيبة بين الزوجين محض توفيقٍ بحتٍ من الله، يرزقه من يشاء ويبتلي به من يشاء، ومهما أخذنا بأسباب الاختيار والانتقاء والمفاضلة بين كبراء الناس وأشرافهم، فلا شيء يعلو فوق ركعتي الاستخارة ولا سبيل لوصلٍ حلالٍ دون معية الله وبركته وتيسيره.
والله أعلم.
"قال سنشدُّ عضُدك بأخيك"، كلما مررت على تلك الآية ألتمس دفئًا وسكينةً كأنما أقرؤها للمرة الأولى، بل أتعجب من الاستجابة الربَّانية العاجلة والحكمة من ورائها: لماذا الأخ؟ لينصرنَّك بالبينة، ويدفع عنك بالحُجة، ويحمل عنك حين الزلل، وتبلغ به ما لا تبلغه بنفسك، فيشتد العود بعد ضعفٍ، وتسكن النفس بعد قلقٍ، ويتأتى المراد بجهد الجمع، لأن المرء أبدًا قويٌّ بأخيه ضعيفٌ بنفسه.
يومٌ آخر، قضم بعضًا منَّا ومضى، كعادتها تفعل الأيام.
الطبيباتُ هنَّ الطيِّبات، لا أجد وصفًا يليق بهنَّ أجزل وألطف من هذا، مؤنِساتٌ في الشدَّة، مُحسِناتٌ في الرخاء، يطبِّبن السقيم، ويتحمَّلن الأليم، صوتهنَّ ناعمٌ، وشعرهنَّ نواعمٌ، وعقولهنَّ مزيجٌ رائعٌ بين الدَّلع والطبطبة، والجدِّ والمزاح.
يقول أبو جهلٍ من فرط جهالته: "إنهنَّ مترجِّلاتٌ لا تكاد تجد فيهنَّ من ريح الأنوثة شيئًا". خَسئت، وثكلتك أمُّك مرتين؛ مرةً حين وُلدت، ومرةً حين ألقفت لسانك السَّليط ثديًا لينطق بهذا الهراء. هل رأيت إحداهنَّ تنام في فِراشها أو تذهب إلى مناسبةٍ مرتديةً البالطو الأبيض أو تلوِّح بأدوات التشريح؟!
بل هنَّ فراشاتٌ بغير أجنحةٍ، ملائكةٌ في مِسلاخ بشرٍ، تتحمَّلن من مشاق الدراسة وغياهب الطبِّ وبشاعة مناهجه -بالأخص في مصر- ما لا تتحمَّله فتاةٌ أخرى في أي بقعةٍ من العالم، وهنَّ على ذلك صابراتٌ مؤمناتٌ -طبَّلت كثيرًا هنا- لا يتأفَّفن إلا قليلًا، وصدقت عيناي حين رأت:
على قُربةٍ منِّي نظرتُ مليحةً
جميلة الهيئةِ والخِمار مُدندَل
فقلت، وقلبي في هواها مُتيَّمٌ:
طبيبةٌ أنتِ أم خبيرة معمل؟
فإن رزقك الله -يا صاحبي- رفقة طبيبةٍ، فقبِّل يد أمك مرةً ويدها مثلها، واحفظ لها كرامتها وجهدها، وترفَّق بها في أعمالها ومهماتها الأسرية والمهنية، وادعمها في قراراتها التي يتراءى لها الأصلح فيها من غيرها؛ إن اختارت العمل الوظيفي فذاك، وإن رسَّخت كامل طاقتها من أجل أسرتها وأبنائها فتلك، وأنت الداعم في الحالين، وهي الحليمةُ في كل حال.
يقول أبو جهلٍ من فرط جهالته: "إنهنَّ مترجِّلاتٌ لا تكاد تجد فيهنَّ من ريح الأنوثة شيئًا". خَسئت، وثكلتك أمُّك مرتين؛ مرةً حين وُلدت، ومرةً حين ألقفت لسانك السَّليط ثديًا لينطق بهذا الهراء. هل رأيت إحداهنَّ تنام في فِراشها أو تذهب إلى مناسبةٍ مرتديةً البالطو الأبيض أو تلوِّح بأدوات التشريح؟!
بل هنَّ فراشاتٌ بغير أجنحةٍ، ملائكةٌ في مِسلاخ بشرٍ، تتحمَّلن من مشاق الدراسة وغياهب الطبِّ وبشاعة مناهجه -بالأخص في مصر- ما لا تتحمَّله فتاةٌ أخرى في أي بقعةٍ من العالم، وهنَّ على ذلك صابراتٌ مؤمناتٌ -طبَّلت كثيرًا هنا- لا يتأفَّفن إلا قليلًا، وصدقت عيناي حين رأت:
على قُربةٍ منِّي نظرتُ مليحةً
جميلة الهيئةِ والخِمار مُدندَل
فقلت، وقلبي في هواها مُتيَّمٌ:
طبيبةٌ أنتِ أم خبيرة معمل؟
فإن رزقك الله -يا صاحبي- رفقة طبيبةٍ، فقبِّل يد أمك مرةً ويدها مثلها، واحفظ لها كرامتها وجهدها، وترفَّق بها في أعمالها ومهماتها الأسرية والمهنية، وادعمها في قراراتها التي يتراءى لها الأصلح فيها من غيرها؛ إن اختارت العمل الوظيفي فذاك، وإن رسَّخت كامل طاقتها من أجل أسرتها وأبنائها فتلك، وأنت الداعم في الحالين، وهي الحليمةُ في كل حال.
الثاني من يناير/كانون الثاني، سنة 1493م، سقطت غرناطة؛ آخر معقلٍ من معاقل المسلمين في الأندلس، وانطفئت منارة التوحيد في بلدٍ من بلاد الله، وأُزهقت آلاف الأنفس حرقًا وسحقًا تحت محاكم التفتيش التي أعدتها النصارى في حق إخواننا في الدم والعقيدة.
ويحنا إذ فرحنا فرح أهل الكفر بقدوم عامٍ جديدٍ، ونسينا ما فعل أجدادهم بأجداننا ونسائنا وأطفالٍ لنا، شهدوا لله بالوحدانية وصدَّقوا نبأ نبيه، ولو أنطقهم الله في قبورهم لسمعنا نحيبهم وعويلهم إلى اليوم حتى يعود الليث ملكًا على غابته، أو يهلك دون ذلك.
أبدًا لن تجف دماؤهم مهما تعاقبت السنون، أبدًا لن ترى إسبانيا شمسًا كما طلعت يومًا على ربوع طليطلة ومساجد قرطبة وقصور غرناطة وساحات إشبيلية، ولئن ضاعت أندلس أمس، فكم أضعنا من أندلس اليوم، أولم تروا إلى القدس واليمن وسوريا، أفلا تبصرون؟!
لِكُلِّ شَيءٍ إذا ما تَمَّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرَّهُ زَمَنٌ ساءَتهُ أَزمانُ
عودوا إلى احتفالاتكم يرحمنا ويرحمكم الله.
ويحنا إذ فرحنا فرح أهل الكفر بقدوم عامٍ جديدٍ، ونسينا ما فعل أجدادهم بأجداننا ونسائنا وأطفالٍ لنا، شهدوا لله بالوحدانية وصدَّقوا نبأ نبيه، ولو أنطقهم الله في قبورهم لسمعنا نحيبهم وعويلهم إلى اليوم حتى يعود الليث ملكًا على غابته، أو يهلك دون ذلك.
أبدًا لن تجف دماؤهم مهما تعاقبت السنون، أبدًا لن ترى إسبانيا شمسًا كما طلعت يومًا على ربوع طليطلة ومساجد قرطبة وقصور غرناطة وساحات إشبيلية، ولئن ضاعت أندلس أمس، فكم أضعنا من أندلس اليوم، أولم تروا إلى القدس واليمن وسوريا، أفلا تبصرون؟!
لِكُلِّ شَيءٍ إذا ما تَمَّ نُقصانُ
فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ
مَن سَرَّهُ زَمَنٌ ساءَتهُ أَزمانُ
عودوا إلى احتفالاتكم يرحمنا ويرحمكم الله.
معظم -ولن أبالغ إن قلت جميع لولا مغالطة التعميم- السجالات والنقاشات والمجادلات "الافتراضية" بين الرجل والمرأة من ناحيةٍ أو بين فصيلٍ وفصيلٍ من ناحيةٍ أخرى على وسائل التواصل، تأخذ طابع نفسي أكثر منه واقعي ولا يُرجى منها خير. في الحقيقة لا الرجل مرتاح ولا المرأة مرتاحة، هم في البلاء سواء، لكنهما يحاولان على اختلاف التوجهات والأفكار التنفيس عن الكبت الشعوري وحالة الخواء والفراغ الذين تفشيا وانتشرا في المجتمع المعاصر، إما بسبب صعوبة الزواج الراهن وغلاء المعيشة وتردي الأوضاع وابتعاد الناس عن الدين، وإما لتوقف الحروب والصراعات التي كانت قديمًا سببًا رئيسيًّا في خطف الرجال من بيوتهم وأهليهم، فلا تدع مجالًا لتلك الصراعات النفسية تحلُّ بديلًا عنها. الفراغ المجتمعي، وسهولة استخدام الإنترنت ووفرة وسائل التواصل بين ملايين البشر، وهدوء الجو العام العالمي بعد توقف الحروب والمعارك الحقيقة التي تحصد الأرواح، كلها ظروف هيأت ذلك الجو المشحون لدفع الملل والكبت عن الناس، وبه تشتعل التريندات وتستمر النقاشات كلما توقفت، ولو اندلعت -في عالم موازي- حرب عالمية ثالثة، تالله لن تجد مقالًا واحدًا يُذكر فيه: هل توافقين على غلق وسائل التواصل في الرؤية الشرعية، يا بت؟ وهل التعدد شرع أم متعة؟ ولماذا تتحجب النساء؟ ولماذا يتحرَّش الرجال؟ لكنه الفراغ، والفراغ فتنة، والفتنة أشدُّ من القتل.
سألني بعض الأفاضل: لماذا لم تنشر كتابًا إلى الآن وقد سبقك إليه آخرون؟ أعتقد أن الإجابة نفسها من رحم السؤال: لأنني أنظر إلى قلمي لا قلم الآخرين.
في ليلةٍ ما أرسلت لي أمُّنا الفاضلة د. هبة رءوف عزت، وأخي العزيز يوسف الدموكي رسالتين، جملة ما نصحوني فيهما: إن الكتابة الآن حرفة من لا حرفة له، تقدم شهرة الكاتب على قيمة المكتوب، وقد كان الكتاب وانتشاره قديمًا يعتمد اعتمادًا كليًّا على جودة محتواه، أما الآن فقلَّما تجد كتابًا جيدًا في سوقٍ هكذا تحرِّكه عجلة الرأسمالية، وتتكالب فيه دور النشر على الأكثر شهرةً وزخمًا وابتذالًا للحروف.
في هذا العصر تحديدًا حيث لا وجود للجاحظ وابن قتيبة وابن المقفع والرافعي، إنما شرذمةٌ خارجون عن النص، فإن شهوة الكتابة والتأليف قد تفشَّت وانتشرت انتشار الوباء في الهواء، وما أن يجتمع حول الشخص الفلاني بعض آلاف من المتابعين، حتى ينصِّب نفسه كاتبًا وناقدًا وحكمًا، فينشر روايةً أو روايتين غزليتين تبهر عيون القُرَّاء وتجتمع عليها النساء، وتجتذب إليه دور النشر التي لم تعد أسفًا تنظر إلى قيمة المكتوب، إنما إلى التربح المادي والشهرة الواسعة للمؤلف، حتى وإن كان حرفه فقيرًا مبتذلًا لا يرقى للنشر في وسيلة تواصل لن أقول كتاب. وهل يخفى عليكم؟ معارض الكتاب ملأى الآن بالأعمال السمجة السطحية الركيكة وكله "بيحشي وينشر"، في حين أن نشر كتاب ليس بالعمل الهيِّن، بل أحسبه كوقع الحسام على الصدر؛ يحتاج إلى صبرٍ وتأنٍّ ودرايةٍ قبل البتِّ فيه.
قُل إني بشرٌ مثلكم، أحبُّ يومًا أن يصير حرفي عُكَّازًا لأحدهم في طريقه الذي فقد جادته، وسراجًا منيرًا يبصر به ضالته، ومسكِّنًا طِبيًّا يثلج صدره الذي أرهقته عثرات الحياة وأحزانها. لكني أبدًا لا أريد أن أبتذل حرفي هذا من أجل الناس، أو تأسرني أرقام المتابعين وأضواء الشهرة فأحيد عما أومن به وأعتقد، أو تبتز جيبي وقلمي دار النشر هذه أو تلك من أجل نشر ما يدر المال لا ما ينقذ العقل من الضلال.
وأيْمُ الله، لخيرٌ لي ولحرفي أن يقرأه ثلاث: أهلي وزوجتي -التي يقدرها الله لي- وصديقٌ عزيزٌ، فيؤمنون ويفخرون به وبي، من أن أبتذل قلمي هذا هنا وهناك لأجل أن يقال: كتبَ فألَّفَ فنشرَ، وقد قيل.
فاللهم أعنِّي على شكر نعمتك عليَّ، وعلى حرفي الذي أخرج به أثقال قلبي، وأن يبصر حرفي هذا النور في الوقت الذي ترتضيه نفسي وتقبله مني في الخير.
في ليلةٍ ما أرسلت لي أمُّنا الفاضلة د. هبة رءوف عزت، وأخي العزيز يوسف الدموكي رسالتين، جملة ما نصحوني فيهما: إن الكتابة الآن حرفة من لا حرفة له، تقدم شهرة الكاتب على قيمة المكتوب، وقد كان الكتاب وانتشاره قديمًا يعتمد اعتمادًا كليًّا على جودة محتواه، أما الآن فقلَّما تجد كتابًا جيدًا في سوقٍ هكذا تحرِّكه عجلة الرأسمالية، وتتكالب فيه دور النشر على الأكثر شهرةً وزخمًا وابتذالًا للحروف.
في هذا العصر تحديدًا حيث لا وجود للجاحظ وابن قتيبة وابن المقفع والرافعي، إنما شرذمةٌ خارجون عن النص، فإن شهوة الكتابة والتأليف قد تفشَّت وانتشرت انتشار الوباء في الهواء، وما أن يجتمع حول الشخص الفلاني بعض آلاف من المتابعين، حتى ينصِّب نفسه كاتبًا وناقدًا وحكمًا، فينشر روايةً أو روايتين غزليتين تبهر عيون القُرَّاء وتجتمع عليها النساء، وتجتذب إليه دور النشر التي لم تعد أسفًا تنظر إلى قيمة المكتوب، إنما إلى التربح المادي والشهرة الواسعة للمؤلف، حتى وإن كان حرفه فقيرًا مبتذلًا لا يرقى للنشر في وسيلة تواصل لن أقول كتاب. وهل يخفى عليكم؟ معارض الكتاب ملأى الآن بالأعمال السمجة السطحية الركيكة وكله "بيحشي وينشر"، في حين أن نشر كتاب ليس بالعمل الهيِّن، بل أحسبه كوقع الحسام على الصدر؛ يحتاج إلى صبرٍ وتأنٍّ ودرايةٍ قبل البتِّ فيه.
قُل إني بشرٌ مثلكم، أحبُّ يومًا أن يصير حرفي عُكَّازًا لأحدهم في طريقه الذي فقد جادته، وسراجًا منيرًا يبصر به ضالته، ومسكِّنًا طِبيًّا يثلج صدره الذي أرهقته عثرات الحياة وأحزانها. لكني أبدًا لا أريد أن أبتذل حرفي هذا من أجل الناس، أو تأسرني أرقام المتابعين وأضواء الشهرة فأحيد عما أومن به وأعتقد، أو تبتز جيبي وقلمي دار النشر هذه أو تلك من أجل نشر ما يدر المال لا ما ينقذ العقل من الضلال.
وأيْمُ الله، لخيرٌ لي ولحرفي أن يقرأه ثلاث: أهلي وزوجتي -التي يقدرها الله لي- وصديقٌ عزيزٌ، فيؤمنون ويفخرون به وبي، من أن أبتذل قلمي هذا هنا وهناك لأجل أن يقال: كتبَ فألَّفَ فنشرَ، وقد قيل.
فاللهم أعنِّي على شكر نعمتك عليَّ، وعلى حرفي الذي أخرج به أثقال قلبي، وأن يبصر حرفي هذا النور في الوقت الذي ترتضيه نفسي وتقبله مني في الخير.