الغالبون

-نضال

منشور آخر طويل...اللهم إني قد بلّغت

لا زلت أعيد مقطع الفيديو لغناء مجموعة من طلاب المعهد العالي للفنون في دمشق لأغنية مسلسل "ضيعة ضايعة"، خصوصاً مقطع

"فيها ما حدا قدّي
وفيني ما حدا قدّها"

لاحظت ان اغلب التفاعلات مع المقطع كانت تعبيرات عن الحزن والحسرة. فما الذي نتحسّر عليه تحديداً؟

من اسوأ الأفكار التي تم الترويج لها بعد سقوط دمشق هو أن شعور الظلام الذي رافق تلك الليلة كان حزناً على شخص أو نظام. من بكى تلك الليلة هو هو من كان يخشى تلك اللحظة لمدة 14 عاماً. لم يكن الانتفاع المادي ولا الاعجاب العقائدي ما يحرّك تلك الخشية، بل كان الخوف على سوريا. سوريا التي لم تكن وطناً للسوريين فحسب، بل كانت العامود الأخير الصامد في خيمة "العروبة" التي لا تشبه عروبة الخضوع والاذلال. عندما كانت سوريا، كنا عرباً.

ضاعت فلسطين ولم نمت، لأن سوريا صامدة.
تمزّق لبنان ولم نمت، لأن سوريا صامدة.
ضاع العراق ولم نمت، لأن سوريا صامدة.

وسوريا التي صمدت، لم تكن مجرد ممر للسلاح ولا "ساحة"، ومعيب أن نرى سوريا بهذا الاختصار المهين. سوريا التي صمدت والتي صمدنا بصمودها كانت النص الذي عرّف عروبتنا. كنا نفخر إذ نشاهد فلسطين في كل انتاجاتها الفنية، بعد انتاجاتها العسكرية. وكنا نفخر إذ نسمع المصطلحات العلمية والتكنولوجية (بما فيها صواريخ المقاومة) باللغة الفصحى بسبب سوريا. كانت سوريا ملاذ من يرى نفسه عربيّاً بغير ثوب الخضوع لأمريكا والانبطاح أمام الصهاينة. كانت سوريا موطناً للعربي الأصيل، العربي الذي لا يخجل بدعم فلسطين بماله وكلمته وكل ما ينتجه عقله من علم وأدب وهتاف. كانت سوريا موطناً غير معلنٍ لملايين ممن يتّمهم اندثار حلم ناصر، فتمسّكوا بجوهره وإن لم تسعفهم أدوات الزمن الجديد. كنا مسلمين بغير "دعشنة" الدين الأمريكي في ظلال الياسمين، وكنا عرباً لا نخجل بعروبتنا وقوميتنا في ظلال الياسمين، وكنا -في ظلال الياسمين- نحمل آخر ملامح الأمة التي بإمكاننا -وواجبنا- أن نكونها. كل ذلك كان ممكن لأن سوريا كانت صامدة، وياسمينها بخير.

في معترك السياسة لا مكان للمستحيل. فتعالوا نتفكر قليلاً. مشروع المقاومة العرببة في مواجهة الإبادة يمتلك اليوم نصيراً قوياً وثابتاً وصادقاً، وهو إيران. لكن، ماذا لو استيقظنا يوماً وقد سقط نظام الولاية؟ ماذا لو عاد شاه إيران؟ ماذا لو هزمت إيران وتمزّقت كما يخطط الأعداء؟ قد يقول البعض "هذا مستحيل"، لكن تاريخ إيران الحديث يقول بأن انتماء إيران لقضيتنا العربية هو الاستثناء الذي يرفع من قيمة وشرف أصحاب التجربة في إيران. ومن السهل أن ينقلب الأمر داخل البلاد إلى ما يشبه عهد الشاه، أو عهد "أردوغان".

لو حدث ذلك وكانت سوريا بخير، صدقوني، ما كنا لنقلق بنفس مقدار قلقنا على إيران اليوم. لأن سوريا هي الأصل، هي عمق فلسطين ولبنان، وهي الجناح المتبقّي من جناحي الأمة بعد ذبح مصر، وهي المكوّن العربي الذي لا يشبه ممالك النهب ومخانيث الدين الأمريكي.

هذه هي سوريا، أو هكذا كانت. وهي لم تكن فعل شخص أو نظام. هذا فعل مجتمع، سخّر صالحه لتثبيت عامود الخيمة فوق رؤوسنا جميعاً.

قد نستغرب التغيرات القائمة في تعامل المقاومة في لبنان وفي فلسطين، وقد لا تعجب هذه التغيرات كثر، لكن تذكّروا وأنتم تحاسبون أهل المقاومة اليوم، أن حساباتهم قد أُفقرت أذ غابت عنها سوريا.

سوريا التي انطفأ ياسمينها، وباتت كل ذكرى جميلة حفرتها في عقولنا معصرة ألمٍ أسوأ ما فيه علمنا أنه لن ينتهي قريباً.

سوريا التي "فيها ما حدا قدنا، وفينا ما حدا قدها" حقّها علينا الوفاء، بالكلمة إن عزّت السبل. الوفاء لكل جميل زرعته فينا سوريا، للخيمة التي فيها كنا عرباً ولن نكون عرباً إلا فيها.

لسوريا التي تستحق منا أن نحفظ جميلها ونسعى لاستعادة جميلها، حين نعيد تذكير أنفسنا كل صباح بكل علمتنا اياه سوريا، وأوله كيف نكون عرباً، أو كما قالت "سورية يا حبيبتي" بتصرّف:

لن ينتهي المشوار يا عروبة
حتى تعود سوريا الحبيبة.

2.7K views12:16