زيد هلال المرادي ( الباهوت )

*سجدة في محراب الشاعر الباهوت (هلال المرادي).*

بقلم *البروفسور عبدالله صلاح*

للشعر سجدة، لا يفقهها ولا يتذوق لحظاتها وتفاصيلها إلا الراسخون في العلم واللغة والعشق ومنازل الروح.
لقد سجد الشاعر الفرزدق حينما سمع قول الشاعر لبيد بن أبي ربيعة من معلقته:
وَجَلا السُّيولُ عن الطُّلول كأنها ......
زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها.
ثم قال: "أنتم تعرفون سجدة القرآن فقط، أما أنا فأعرف سجدة الشعر أيضاً".
الفرزدق يعلم أن للشعر منازله وتراتيله وطقوسه الخاصة، وإلا ما جعل لسجدته مقاماً كبيراً، وعالماً يضاهي عالم المحاريب وأسراره ونفحاته وآفاقه المتعددة..
الشعراء بقايا أنبياء، فحينما سمع نبينا العظيم قول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ....
ويأتيك بالأخبار ما لم تزودِ.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا من بقايا كلام النبوة). ولعل من صدف الزمان الذي نعيشه - رغم مراراته الكثيرة- وجود ثلة من الشعراء الأنبياء، كلما قرأت لهم أو سمعت لأحد منهم، سجدت سجدة الشعر، تحميداً وتهليلاً ببلاغة القول وحكمته وعذوبته، سواء أكان من الشعر الفصيح، أم من الشعر العامي.
في هذه اللفتة القصيرة سنكتفي بالإشارة إلى واحد من الشعراء الشعبيين الكبار، وهو الشاعر الباهوت (هلال المرادي)، الذي كلما قرأت له سجدت الحواس كلها بخشوع سجدة الشعر.. و(الباهوت) اسم أو لقب أطلقه الشاعر على نفسه، أو أن غيره من فعل ذلك، كما يقول:
سموني الباهوت وانا اسميت بِسمي هاجسي.....
وانا وهو واحد.. مَن الشاعر ومَن هو هاجسه.

الشاعر (هلال المرادي) عندما يقف القارئ على شعره أو يستمع له يكون في حالة من الذهول والانبهار، وربما من الغياب والصمت؛ لما تحتويه نصوصه الشعرية من سحر حقيقي يتسرب إلى الذهن والروح من اللغة التي يجيد الشاعر رسمها وتشكيلها وتكثيفها، وبطريقة يعلن فيها تحديه للنقاد، إذ يقول:

وانا إذا ما قمت اخط الحرف اسنّه بالمسن....
واحرّزه لاما ولا ناقد يجيني من خلاله.

وسنعترف للشاعر المرادي بالحيرة، فلغته التي يتلاعب بها فنياً، تجبرنا على الصمت والتأمل طويلاً، وكذلك، أخيلته الجامحة فوق أجنحة عفاريت تفوق عفاريت سليمان إثارةً وفاعلية...
ما يميز الشاعر (هلال المرادي) أن لغته خصبة وحية ومرنة يطوعها كيف يشاء، وأن جمالية نصوصه الشعرية وعذوبتها تنبعث من الموسيقى الداخلية لبنية النص اللغوية وطريقة تشكيلها وانتظامها، كما يبدو من الأبيات الشعرية الغزلية التالية، المقتبسة من مطلع قصيدة للشاعر المرادي:

أحبه واعشقه واروح في عشقه لوين الوين....
لآآآخر وين لكن ويننا منه وهو وينه؟!.

أحسّه والمسه واشُم شَمّه رغم بَوْن البين...
واشوفه في عيوني ذَي يودَّيْنَه ويدَّينه.

فريد النوع منَّه لا يجد فوق الوجود اثنين...
كأنّ الله خصّه بالتميز بين خلْقَينه.

إنه لبذخ إبداعي على مستوى اللغة والصورة والخيال، فكل مفردة لها شأن في القصيدة، وإن تعددت الاشتقاقات منها في البيت الشعري الواحد. وليس بوسع القارئ إلا السير خلف عوالم الشاعر المخترعة والحية والمتحركة، ومجاراة جموح الخيال حتى التعرف أو الوصول إلى عالم ( وين الوين) غير المعلوم.
إنه عالم مخترع من (إلى مكان تبلغه)، وتأتي المفارقة الشعرية في رسم مشاهد حية لتقريب هذا العالم المفتوح، وبلوغ الهدف، حسياً ونفسياً (أحسّه والمسه و..)...

وفي قصيدة ثانية، يقول الشاعر الباهوت (هلال المرادي) في مطلعها:

سيدي ومولاي لا سَيِّد ولا مَولى ....
غيرك تولّيت في حِلّي وترحالي.

ولا توجّه لحد وجهي ولا صلّى ....
إلا لوجهك ووجهك قبلة آمالي.

يا من لك المُلك في الأخرى وفي الأولى...
لك مُلكها وأنت سيِّد أمرها الوالي.
ما ربي إلا أنت يا رب السما الاعلى..
لو الرُّبُوبية لغيرك لدِّعِيها لي.

بإمكان القارئ أن يلاحظ كيف يتلاعب الشاعر المرادي باللغة، ويشكلها في انسجام لفظي وموسيقي عجيب، فكأننا نقف أمام لوحة فنية مرسومة بيد فنان صوفي ماهر، يمزج فيها الإخلاص والولاء للرب والارتقاء نحو مقامات نورانية خالصة، لا وجود فيها للزيف والادعاءات الباطلة، ورغم تكرار بعض المفردات، أو اشتقاقها من بعض، وتناسقها في التشكيل والتنغيم (سيدي، وسيد، مولاي ومولى، حلي وترحالي، ولا توجه ووجهي، الأولى والوالي)، وغيرها كثير، يظل النص في تأنقه البياني، وتألقه الدلالي. ولن نطيل، فبوسع القارئ تلمس جماليات البناء والتركيب النصي، ويكفينا ان نضيف مجموعة من الأبيات الشعرية من القصيدة ذاتها، ليعرف القارئ بعضاً من أبعاد التجربة الشعرية للباهوت المرادي، وما يكتنفها من حكمة ومصداقية ووطنية نادرة، فقد وهب الشاعر نفسه وشعره للحق والوطن والشعب والمبادئ والقيم، إذ يقول من قصيدة طويلة:

اوهبت شعري للوطن والشعب وامجاد اليمن..
وللمبادي والقيم والحق واحقاق العدالة..

وضد من حاول ركوب الدين سعياَ للفتن...
والظلم بسم الله والاسلام واحكام ا

890 views19:26