شيماء علي ✏️
6.93K subscribers
27 photos
4 videos
26 links
حيث يأسرني القلم
Download Telegram
Channel photo updated
دفعة جديدة إن شاء الله من دورة خير مطفل 1: الودود الولود
دفعة جديدة من دورة خير مطفل 1 تبدأ يوم السبت القادم بإذن الله
- لمن هذه الدورة؟
= للمقبلات على الأمومة، والراغبات في تهيئة نفسية ومعرفية وإيمانية وبدنية لمراحل الحمل والولادة.
- لديَّ أطفال بالفعل فهل تنفعني هذه الدورة؟
= لا تخلو من نفع، لكن خير مطفل 2 ستكون أنسب لكِ حتمًا.
- كيف أشترك؟
= ادخلي على هذا الرابط فبه كل التفاصيل
https://www.facebook.com/Benaa.Academy.2022/posts/pfbid035DfXDtdTnLrTMtpNBkqaZuwyV1shDmqBouNhKP21r4qUarKikdPvykyLkLRaLPjZl
"يمنى... تعالي يا بطة...
يمنى جت يا إخواننا... المحاضرة باظت!"
اللهم رد إليها أباها وأقر بها عينه.
"هنالك دعا زكريا ربه..."
اللهم امنن علينا مرة أخرى.
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
لحظة استقبال الأسيرة المحررة ملك سلمان التي أفرج عنها ضمن صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة والإحتلال ..
خروج الأسيرات اليوم من سجون الاحتلال يذكرنا بهذا الملفّ المؤلم الذي يجهله كثير من أبناء الأمة، وهو: (ملفّ القابعين في السجون ظلماً وعدواناً) ليس على مستوى سجون الاحتلال فحسب، بل على مستوى خارطة الأمة طولاً وعرضاً.
وإذا كان من أبرز سمات عصرنا: الظلم والعدوان، فإن أبرز عناوين هذا الظلم: هو ظلم المأسورين والمغيبين في السجون، وتفصيلاته تشيب من هولها الرؤوس.
ومهما طابت للإنسان حياة في هذه الدنيا فلن تكمل وهذا الملف لا يزال مليئاً بصفحات الظلم التي لا تعد ولا تحصى.
وأكثر الناس جاهلون بحقائق الواقع المتعلقة بهذا الملف، ولا يعلمه حق المعرفة إلا المكلومون من عوائل المُغيَّبين ظلما وعدواناً.
هذا؛ وإنّ أشد هذه السجون ظلما في العصر الحديث، والتي لم يصل كيان الاحتلال بكل طغيانه إلى عُشر ما فيها من الظلم والوحشية، والتي لا تزال تضمّ داخلها ما لا يحصى من الرجال والنساء من المسلمين المقهورين، فضلا عن الآلاف الذين قضوا نحبهم فيها خلال السنوات الماضية: سجون النظام السوري المجرم.

ولا شك ولا ريب أن صفحات هذا الظلم ستطوى، وأن أنوار العدل ستبزغ، والله المستعان.

ونسأل الله تعالى الفرج لكل المظلومين، وأن ينتصر لهم سبحانه وينتقم.

#كلنا_مع_غزة
#ألم_وأمل
منذ 8 سنوات لم تفلح جميع حملات المناشدة لكل هذا العالم لمعالجة إسراء الجعابيص والإفراج عنها، بندقية المقاومة فعلت ذلك.

هذه المقاومة التي خذلها وحاصرها وشيطنها القريب قبل البعيد، هذه المقاومة التي استضغرها واستصغر أفعالها الكثير، هذه المقاومة التي وصفت بالعبثية وغير المجدية، ها هي تذل الاحتلال ومن خلفه أمريكا والدول الأوروبية وكل أنظمة الخيانة العربية.

المقاومة بأسلحتها البدائية فعلت كل هذا لوحدها !
2 أغسطس 2023م

البركة هي خير ما يوصف به يومي. بدءًا من صلاة الفجر والأذكار، ثم نية الصيام، وسويعات من نعاس قبل أن أمضي إلى حيث أستكمل إجراءات نقل ندى إلى مدرسة جديدة لدخولها المرحلة الإعدادية. جحيم التعامل مع المصالح الحكومية، والحركة في الحر والعرق والظمأ، ثم الاكتشاف التدريجي كل يوم أن الخطوات لا تنتهي! يرزقني الله بآلاء لتمضي معي فلا أكون وحدي. نمرُّ على أسماء لحاجةٍ، فتشرب آلاء القهوة وتتبلغ بالتمر والماء ثم نمضي. لم تنته الإجراءات، لكنني عدتُ إلى البيت قريرة، فقد غمرني لطف الله في تسخير من يصحبني، وتسخير من يدلنا، وفي ندى التي كبرتْ وصرتُ أترك لها أختيها تطعمهما وترعاهما حتى أعود. عدت منهكة يتقطع حلقي من الظمأ، وأفكر أنني لن أغادر البيت لشأنٍ كهذا صائمةً أبدًا. لم أنس أن أبتاع لهدى المثلجات التي طلبتْ، ثم أخذتُ قسطًا من الراحة، قبل أن أتهيأ للاستفادة من الوقت بشيء مفيد. استمعتُ إلى محاضرة جميلة تتحدث عن السنن الإلهية. في ختامها يشير المحاضِر إلى سلسلة يود أن يسجلها تتحدث "في" السنن لا "عن" السنن كما هي تلك المحاضرة. أبتسم إذ ذكر ما دار بخلدي بالضبط: الحديث في السنن مما يثبت الفؤاد ويطمئن النفس لما يجري من حوادث الواقع ومصائب الدهر. هذا أمر اختبرتُه بنفسي ولم أتعلمه في كتاب. صرتُ الآن أكثر اهتمامًا بالقراءة عن السنن وتعلمها، فهذه واحدة مما رزقني الله فهمه عنه في السنوات الأخيرة. يقول المحاضِر: إن من فوائد تعلم السنن الإلهية هو الاقتراب من معرفة الله أكثر، وأن العالِم بالسنن الإلهية لا يتفاجأ كثيرًا بكوارث الواقع، بل هو من أصبر الناس وأثبتهم. صدق.

أستأنف القراءة في الكتاب الضخم الذي لزمته الأسابيع الأخيرة: تراجم سيدات بيت النبوة. تتحدث الكاتبة هذه الليلة عن فاطمة الزهراء؛ أم أبيها صلى الله عليه وسلم. مواقف عسيرة عاشتها الزهراء رضي الله عنها طوال مراحل حياتها مذ كانت طفلة صغيرة ترى أباها صلى الله عليه وسلم يُؤذَى وتحاول أن تدفع عنه. ثم تذكر موقف الهجرة، حين نخس "الحويرث" بعيرها وأختها فانطرحتا أرضًا. مضت سنوات ثمانٍ قبل أن يُكتب لأبيها صلى الله عليه وسلم دخول مكة منتصرًا مؤيدًا. لعلها نسيتْ ما كان من أمر الحويرث، إلا أن أباها صلى الله عليه وسلم لم ينس. بل يغضب لبناته، ويأمر أمراء أصحابه أن يقتلوا الحويرث – ضمن آخرين سمَّاهم – وإن رأوهم متعلقين بأستار الكعبة. ينهض الزوج الكريم، ابن العم، عليٌّ بن أبي طالب؛ فيقتل الحويرث، ويشفي صدر الزهراء ممن سبق منه الأذى قبل ثمانية أعوام!

أعجب أشد العجب. هل أُرزَق يومًا بمثل هذا الأب – وإن لم يكن أبًا – فينتقم لي؟ تلك النخوة، وهذه المروءة، وهاتيك القوة والعزة والأنفة والشرف. كم أحب هؤلاء العرب! أزداد تعلقًا بالنبي القوي الرحيم، يأمر فيطاع صلى الله عليه وسلم، وهذا الزوج الفارس الباسل الذي يقتل في سبيل الله عدوَّ الله.

ينتهي وِردُ قراءتي، فأستقبل ضيفة حديثةَ عهدٍ بزواجها وولدها. تستشيرني فيما يخص رضيعها، وزوجها. أجيبها وتتركني قبل أذان المغرب بدقائق عشر. أفطر وأدعو لحبيبي الحاضر الغائب، وأصلي والبنات يلهون أمام فناء الدار. نسهر حتى العشاء، وأطعمهن من طعام الغداء الذي ولدهشتي نال إعجاب ثلاثتهن جدًّا حتى طلبنه في العشاء مرة أخرى. يمنى التي تزعم أنها لا تحب المعكرونة قد أحبته! يسعدني أنني أفلح في إطعامهن بما يشتهين، وبالسرور البادي على وجوههن إذ ينعمن بطعام لذيذ من صنع يدي، وأتخيل أباهن وهو معنا يمتدح فعلي. نتسامر ثم أدعهن إلى غرفتهن وأمضي. أفتح حاسوبي وأنوي توثيق يومي، إلا أن هدى تظهر بغتة على باب غرفتي، وتطلب جواري في الفراش، فأغلق الحاسوب وأنام.
الحمد لله رب العالمين.
8 أغسطس 2023م
لم تر هدى أباها منذ أربعة أشهر، وقد ذكرها وأختيها فعزمتُ أن آتيه بها. يبدأ الشعور منذ اليوم الذي يسبق يوم الزيارة، ويتراكم حتى يبلغ ذروته بعد أوْبتي. إعداد مرهق أبدًا، بكل ما فيه من تفاصيل، ووقوف وسهر وقلق ونوم غير هانئ، واستيقاظ مبكر مع أذان الفجر، ثم الانطلاق. لم تكن الأعداد كبيرة، لكننا مع ذاك تأخرنا حد الشطط.

لم نر أيمن إلا في الثالثة عصرًا؛ أي بعد حوالي تسع ساعات من وصولنا إلى السجن. ارتمت هدى على الكرسي المعدني بقاعة الزيارة، وقد هوى رأسها على حافته وغابت في نعاس عميق. أخذتْني بها شفقة وأنا أرمقها مُتعَبة. احتملتْ معي هذه البطلة الصغيرة يومًا حارًّا طويلًا في سبيل رؤية أبيها الذي تحبه سماعًا. هذا الشَّعر الذي أصلحتْه عمتها فجرًا ما به من أثرٍ للإصلاح، وتلك عمتها تسند رأسها إلى الطاولة المعدنية تحاول أن تنام قبل أن يأتي أخوها. وأنا مثلهما أغفو قليلًا ثم لا ألبث أن أفيق على باب مغلق لا يمر منه أحد. طال انتظارنا بما جعل الهواجس تأتيني: أيمكن ألا نرى أيمن اليوم؟ أيمكن لهذه الصغيرة أن تُفجع بعد كل هذا العذاب ولا ترى أباها؟ طفقتُ أفكر فيما سأقول لها تهوينًا وتعزية، وأستغفر الله وأدعوه، فقد فقدتُ قدرتي على تلاوة ما أحفظ من آي. وقبل الاستيئاس فُتِح الباب وانهمر الأحباء كالسيل.

وددتُ لو قامت هدى ككل الأطفال تخفُّ إلى أبيها وتفتح له ذراعيها، لكنها انكمشت في مقعدها تنتظر ريثما يصل إليها. وحين فعل ظلتْ جامدة لا تتحرك. سمحتْ له بحملها، لكنها يابسة كالغصن. وضعها فوق الطاولة وجعل ينظر إليها، يتأمل وجهها المجهد الذي لم يخلُ بعد من أثر النعاس، فإذا بها تشيح برأسها عنه. يلتفت إلى حيث أشاحت به لكنها تُعرِض عنه ثانية، فيسألها في إشفاق: أحزينة هي؟ فتجيب أنْ لا. يسأل أيمن: ما بها؟ فنجيب أنا وعمتها في لسان واحد: هو الخجل.

يأتينا سجين شاب يستأذن في أن تلقي أمه السلام على أيمن. أقول داخلي: "دعنا وشأننا! بالكاد نجعله معروفًا لابنته!" لكن أيمن يهم بالنهوض، فيستشعر الشاب الحرج فيعفيه قائلًا: "لا بأس، بعد أن تفرغ منهن".

أبتْ هدى إلى نهاية الزيارة أن تُسمِع أباها ما حفظتْه من أناشيد، فما زال رجلًا غريبًا لم ينقض ما بينهما من جدار. وقد تخيلتُه مرارًا يسمع منها آخر ما سمعتُه منها وأطفر الدمع من عينيَّ تأثرًا، ورأيته معجبًا فخورًا؛ لكن الخيال لم يجاوز عقلي إلى الواقع قط.

وبرغم كل ما كان في اليوم من آلام وعذابات وحرارة ورطوبة، لكن مشهدًا صغيرًا جعلني أبتسم. فحين وصلنا بعد لأيٍ إلى المراحل الأخيرة، دخلتُ إلى حيث غرفة التفتيش النسائي الصغيرة، فاستقبلتني الشرطية - التي غابت أسابيع وها هي تعود - ببسمة عريضة، ثم قالت متجاهلة ذراعيَّ اللتين رفعتهما لها استعدادًا، وهي تمد كفها إليَّ مصافحةً كمنْ تشرف بلقائي حقًّا: أريد مصافحتكِ أولًا!

صافحتُها والدهشة ملء نفسي، فإذا بها تكف عني يديها، وعن صغيرتي؛ فلا تكاد تلمسنا. لا نجرؤ على سؤالها أتعرفنا أم تعرف أيمن؟ وإلى أي حد تعرف عنا؟ غير أنني شعرتُ برحمة الله تتجلى لي في موقف صغير كهذا.
يتزامن اليوم العسيرُ مع قراءتي عن مأساة الحسين رضي الله عنه، وعن نساء آل البيت اللواتي حُملن أسيرات مستذلات. هؤلاء العفيفات الكريمات المصونات، فأي عزاء أعظم من أن ذلك الكرب لا يخصنا وحدنا، بل يُشرَك فيه مَن هن خير وأعظم فضلًا وشرفًا ونسبًا؟
---

أقول لنفسي: "علامَ احتمال كل ذا؟" أللدنيا؟ وأي شيء أرتجي منه في ثلاثين دقيقة يقابل ما ندفعه ثمنًا لها؟ هبْه يملك أن يكافئنا، فكيف به أمام هؤلاء الأسافل ينظرون؟ الحق أنه لا شيء ظاهر يعدل العذاب يملكه لنا سوى همسة يحرص بها في أذني في ختام كل زيارة مودِّعًا: "رضي الله عنكِ شيماء". ليت شِعري أيعلم ما تعنيه تلك الهمسة فلا يدعها أبدًا، أم يوفقه الله لمثلها رحمةً بي.
----
عدتُ إلى البيت منهكة، مبللة الثياب كأنما غُمِرتْ بماء، وقد تعطل مكيف السيارة، فأصابني من الشمس ما أصابني. أدركت الظهر قبيل أذان العصر، وصليت العصر، ومضت شقيقة أيمن، وأتت معلمة القرآن، وسار اليوم كما يسير عادة. أسماء تشغل عني الصبايا، وتُطعمنا، رسائل واتصالات كثيرة لا أجيب معظمها. أحاول الاسترخاء، ويأبى عليَّ جسدي. تنقطع الكهرباء قبل المغرب بساعة، فألجأ إلى الشرفة، حيث نسمات الهواء الطبيعي ترطب بعض ما أفسده حر اليوم. تدنو الشمس من مغربها، فتغلبني عبرة، أفتش لها عن سبب. هل أفتقد سؤال أسماء واهتمامها عقب كل زيارة؟ ألم تلحظ ما بي؟ أهما عينا هدى تزوغان ولا تثبتان على وجه أبيها؟ أهو وقت طويل ننفقه طلبًا لرؤية الزوج والأب بغير ذنب اقترفه؟ أهو المخبر الجديد الذي أفرغ كل الحاويات بلا أدنى داع وهرس بقبضته ما بِتنا ليلتنا نرصه من طعام؟! أهي المرأة التي تحمل رضيعها تهدهده وتسير به في القاعة التي طال فيها انتظارنا، تعلِّله بصوتها كي يهدأ: "هيا بابا تعال... هيا بابا تعال". أهي آلام الجسد أرهفت الروح حتى أصابت العين فبللتها؟ تراسلني أم عمر وتلحظ على البعد شيئًا. تقول: "سآتيكِ" ثم يحبسها عني حابس. لم تفقدني سوى هدى، وقد أتت إليَّ، ثم سألتني في شيء من جزع وهي تشير إلى طرف عيني: "ماما، لديكِ دموع ها هنا!".

أمسحها بسرعة قبل أن تتبعها أخر. تمضي هدى لشأنها، وأعود أتأمل اليوم بكل ما فيه، أختلس خلوةً عن كل مَنْ في الدار تسمح لي ببكاءٍ لا أُسأل فيه ما خطبكِ.
---
13 سبتمبر 2023م
منذ شهور طويلة مُنِعتْ عنه الكتب. احتال على الأمر ولم تفلح الحِيَلُ. كل كتب اللغات، والفلسفة والمنطق، وعلم النفس والتربية، وعلوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة، وعلوم القرآن، والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم الإحصاء، وعلوم الحاسب والترجمة الآلية، وكتب القراءات، ومتون الفقه، وكتب الأصول؛ كل أولئك لم يعد يصل إليه منها شيء. كان الله يدعوه لكتابه. قال لي: "بلغتُ يس". ها قد تجاوزنا الزهراوين، ومريم وطه والأنبياء والحج. ها قد انكسر الحاجز، وسال الماء.
قال: "الشيخ إبراهيم أخبرني أن تلاوتي جيدة وحفظي ممتاز. قال لن أدعك إلا خاتمًا". أضحك. أولم يأن للذين آمنوا؟
هذا الرجل الأسيف، الذي قيل لي إنه كلما ذُكِر محمدٌ رحمه الله - زوجي الأول - استعبر، فحثني ذلك على الزواج منه. هذا الرجل النبيل الذي أحسن إلى مَن تربطه بي قرابة بعيدة ولا أعرفه، قائلًا: أكرمتُه لقرابته منكِ! هذا الرجل الذي لم أر له مثيلًا بين الرجال اليوم، يقول لامرأة تودِّع ابنها المسجون في قاعة الزيارة مُهوِّنًا: "لا بأس عليه... عام كاثنين كعشرة! لا فرق. سيعود إليكم".
يأمرني بالمغادرة فور انتهاء صافرة الختام. لمَ نكون أول من يرحل؟ لا يجيب. والفؤاد ينخلع كل مرة تاركًا وراءه نزيفًا لا يُرى. تسألني الصديقة الرفيقة الحبيبة: أأنتِ بخير؟ أقول ضاحكة: لو أن أم عمر هنا لقالت لكِ إنني لستُ كذلك.
نضحك، لكنه ضحك كالبكا.
يرحلون جميعًا، وأعود إلى الفراش وحدي.
ترن بأذني كلماته: عام كاثنين كعشرة... لا فرق.
الله المستعان.
------‏
"مِن خير النعم أن يُؤتىٰ الإنسان قلبًا لا تُعطله الأحزان عن السعي".
- بدر آل مرعي.
منذ عودتي من تلك السفرة وأموري ليست بخير تمامًا. المفترض أن تكون تلك سفرة للترويح والاسترخاء، لكنني عائدة مثقلة بالأحمال. منذ خمس سنوات ونيف وأيمن يمنعنا من السفر إلا لضرورة قصوى. تشتاق هدى إلى السفر ورؤية البحر. نفكر في أن نحملها إليه لتطلب بنفسها ما تريد. تفلح الخطة ويوافق أيمن في لحظة. ضعيف هو أمام هدى. "والصغير حتى يكبر". فما بالك إن كان هذا الصغير غائبًا محرومًا مجهولًا؟ نسافر ونعود بحمد الله سالمات، وأجهز زيارة فورًا وأطير إليه.
17 سبتمبر 2023م
الذكرى الثالثة عشرة لزواجي الأول. هذه ذكرى لا يأبه لها أحد. فقد مات شطرها، وانهار الشطر الآخر تحت وطأة ما يلقى من مصاعب الدنيا. أتخيل حوارًا يدور بيني وبين طبيبة النساء حين تسألني عن عمر زواجي. التفصيل يستدعي أن تعرفي أنهما زواجان، وأنهما نظريًّا امتدا ثلاثة عشر عامًا، وفعليًّا لم أعش في الأول إلا عامين ونصفًا، وفي الثاني أربعة. لم أُزُر أية طبيبة، لكن عقلي يختلقُ أحاديثَ كثيرة، كما يجتر ذكرياتٍ عدة.
ومن تلك الذكريات ذكرى اليوم الأول للمحنة. يومٌ طويلٌ لا تُنسَى وقائعه. يومٌ ما زال وزره ثقيلًا مهما حاولتُ التخفف. في اللحظة التي وقع فيها المحذور، والتي يتأرجح فيها وعي المرء ما بين إدراك حقيقة ما يجري وما بين الوهم فيه. لحظة أن سُلبَ كلُّ شيء، ثم أتبعته نفسي. يصرخ بي كبيرهم مُهدِّدًا بكل ما يعرف من ألوان العذاب. هل تسمعين بالتصفية الجسدية؟ سأصفيكِ. هل تعرفين الاختفاء القسري؟ سأخفيكِ. سأحبسكِ. سأعرِّيكِ.
"لا تسألي عن زوجكِ ولن تريه أبدًا". غير أنه أجابني عنه دون أن أسأل. ثم قذف الله في قلبه رحمة! رحمة لا أدري من أين أتته، لكنني شعرتُ بها مع نسمات فجر اليوم التالي وأنا أرتجف بردًا فيسألني: أمقرورة أنتِ؟ فأهز رأسي، فيأمرني بالقعود ويخفف من درجة المكيف الذي حوَّل الغرفة الواسعة إلى ثلاجة موتى. لا شك أنني بدوتُ في حالةٍ يُرثى لها، ثم شعرتُ في ظلام العصابة التي غطَّتْ عيني أنه سيدعني أرحل، فانهارت قواي.
وفي تلك الليلة عينها، كان هو هناك وحيدًا، ملقى على الأرض، مضروبًا مخذولًا، عاجزًا معصوب العينين مغلول اليدين، لكنه مع ذاك يدعو ربه سرًّا بكل ما أوتي من ضراعة: اللهم لا تَسُؤني في شيماء.
يُرونه صورتي معصوبة العينين ويقولون له: "أليست هذه زوجكَ؟" فيقول: "بلى". فيقولون: "هي معنا". يلجأ عقله إلى آلية دفاعية تحميه من الوقوع في جُبٍّ خطير: "لا شك هذه صورة اصطنعوها ببرامج الحواسيب". يظل مقتنعًا بهذا إلى أن يظهر بعد أسابيع طويلة ويعرف أن الصورة حقيقية، وأنني كنتُ معهم بالفعل!
يا الله!
ما أشد ذاك الألم وما أعظمه!
أكتب إليه: "لم يمسسني بشر". وأود لو أفتدي ذلك الألم بروحي، لكن هيهات.
تعلمتُ معاني كثيرة في سنوات هذه المحنة، ومن ذاك أنني آوي إلى مَنْ هو أشد منكَ قوةً، وأكثر قدرة على حمايتي! وأنكَ مع كل ما تحمل من حذر واتقاء لستَ بمغنٍ عنا شيئًا. وأن رضيعتي لها رب يرزقها ويطعمها، سواء بلبن يدر من ثديي أو من ثدي ظئرٍ غيري!
طالت أيام غيابه، وغياب علمه بما يجري. مُنِعتُ من رضيعتي، وحُبِستُ بغرفة كئيبة جدرانها صفراء متسخة بلا منفذ هواء، في حر يوليو الخانق، ساعات طويلة كل يوم، اختلط فيها العرق باللبن حتى تسلخ جلدي، وحسبتُ أن روحي ستزهق.
كان الله - جلَّ في علاه - يسمع ويرى.
طال العذاب ثم أتى الفرج.
يأتيني صوته بعد اثنين وأربعين يومًا. في البداية صوتٌ رسمي جاف أنكرتُه، يُملي معلومات باردة. ثم إذا أتيح له فضل وقتٍ، رقَّ صوتُه وتهدج وصار ما أعرف. يحوم حول الحمى ويوشك أن يقع فيه. لم يَسَل. عجبتُ، بل وغضبتُ.
لكن الأمر داخله كان أكبر مما ظننتُ. بعد شهور طويلة من زيارات السجون تعرفت إلى امرأة الشيخ محمد. حكت لي عن زوجها الأسير، وتاريخ أسره السابق والحالي، وقصة متابعته في مقر الأمن، وكيف كان يأتيها محطمًا في أيام بعينها كان يرى فيها هناك امرأة وحيدة، فيسوؤه ذاك وهو لا يعرفها. "أوَيأتون بالنساء أيضًا؟!" أستفسر منها عن التفاصيل، ثم أضحك قائلة: "هذه المرأة هي أنا، ونعم؛ ظللتُ أغشى المكان أيامًا طويلة جدًّا".
يكتب لي أيمن: "لعلكِ الآن تفهمين!"، "فإذا كان هذا هو حال من لا يعرفكِ فكيف بحالي أنا؟".
فقهتُ أمرًا. لا يسأل المرءُ سؤالًا قد يكون جوابه مخيفًا مُزلزِلًا لا يمكن احتماله.
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.
في هذه المحنة المنحة تعرفتُ إلى الله. أتيتُه بلا زوج ولا ولد، بلا رفيق ولا سند، إلى الله الصمد.
الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي نجانا.
الحمد لله الذي لطف بنا.
الحمد لله الذي حفظ علينا ديننا وعقولنا.
الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرًا من خلقه.
الحمد لله الذي آوانا وكفانا ورزقنا وعلَّمنا وسخر لنا من خلقه ما يقضي به حوائجنا.
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.
الحمد لله رب العالمين.
----
3 أكتوبر 2023م
تأسرني بإحسانها في كل مرة أغشى عيادتها. تأتي لاستقبالي بنفسها في قاعة الانتظار وسط دهشة الحضور دومًا عن هذه الطبيبة التي تلتزم مريضتها بكل هذا الود. تخدِّر موضع العمل في الفك السفلي، وتسألني قبلها: خائفة؟ أجيبها: أوَلَن تستعملي المخدر؟ تضحك ملء فيها وتقول: وهل نحن بالمعتقل كي أخلع لك الضرس بدون تخدير؟!
أوَّاه... تتركني لحين انتشار أثر التخدير في فكي، بينما أغمض عيني وتنهال الأفكار. منذ ثلاثة شهور وزوجي يعاني من ألم ضرسين لا يستطيع لهما علاجًا. في إحدى الزيارات يبدو مرهقًا فأسأله عما به، فيجيبني ببسمة مريرة: لقد تناولتُ قدرًا عظيمًا من المسكنات كي أستطيع أن أجلس معك هذه الجلسة! يؤلمني فؤادي وأظل أدعو له، وأغيب شهرًا ونلتقي فيقول إن الوضع قد استقر ولله الحمد. "وكيف ذاك؟ أوقد زرتَ الطبيب؟" فيجيب: "لا!" فأوقن أن المرض يزول بالدعاء لا بالدواء.
يعاوده الألم بعد أسابيع، وينجح أخيرًا في زيارة الطبيب، ليُعلِمه أن الحشو لديه قد نفد فأتِ به من الخارج إن شئتَ! أياما وأسابيع وزيارات أحاول فيها إدخال الحشو، فيدخل شطره المسحوق، ويأبون إدخال شطره السائل! أحاور الضابط فلا يلين.
أعاود الكرة مرة بعد أخرى، ولا أنجح. في مرة يقول لي إنه أخيرًا قد نجح في حشو أحد الضرسين ويظل الآخر. يضاحكني ويقول: انظري كم تتكلف زراعة الضرس واقدري قدرها منذ الآن لأنني حين أخرج سأزرع أكثر من واحد.
"كيف تأكل إذن؟"، يكشف عن قواطعه ويعيد فتح ثغره وغلقه مرات متتالية سريعة ويقول: "كالأرنب بالضبط... هكذا". يضحك ولا أرى بالأمر أثرًا لمُضحِكٍ.
---
خلعتُ ضرسي ونصحتني الطبيبة بالزرع. تذكرتُ أبا سليمان وما لقي في معتقله الرهيب، وما قص في كتابه عن الأخ الذي ظل يعاني من ضرسه فكان الأمريكان يخلعون له ضروسه السليمة ويتركون المصاب، وهو لا يمل من تكرار الذهاب إلى عيادة الطبيب ويقول: سأظل آتيكم ولو خلعتم أسناني كلها! من الألم. ثم كيف استطاع أحدهم بكل بدائية أن يخلع لنفسه ضرسه، هكذا بدون تخدير، بدون أدوات، بدون تضميد، وأنا هنا تزيدني الطبيبة تخديرًا إذ شعرتْ أن مساحةً ضيقة لا يزال بها إحساس. تمسك الضرس بأداتها وتحاول خلخلته بقوة، أنظر في الانعكاس المُصغَّر لصورة فمي في ضوء المصباح فوقي، وأراقب حركة يديها، أرى الدم يقطر وهما تمتصانه بخرطومهما. ظللنا هكذا عدة دقائق، وأنا أفكر وأدعو ربي سرًّا. إنْ لم يُيسره الله فلن يتيسر.
أذكر دعوة امرأة ريفية عجوز، منذ أربع سنوات تقريبًا، في سجننا القديم، إذ تناجي ربها بعد أن زارت ابنها المعتقل: "اللهم اخلعه من هنا على خير". سحرتني بلاغتها، التي تصور الشاب وكأنه ضرس مثبت في فم كريه، نود خلعه وما يصاحب الخلع من مشقة.
شيَّعتني إلى حيث أوقفتُ سيارتي، أبتْ أن تأخذ عليه أجرًا اتباعًا لما أمرَ به أبوها. ثم نقلتْ لي عرض والدها طبيب الأسنان الكبير أن يزرع لي ضرسي بسعر التكلفة مجردًا. أبكي فتسألني: هل سيمكنك القيادة هكذا؟ أجيبها أن نعم، فأنا بخير ولله الحمد.
أمضي وأقول في نفسي: لا أحصي المرات التي قدتُ فيها على الطريق باكية، حتى إذا بلغتُ منزلي، واستقبلتْني الزهراتُ بلهفة، لا يجدن على وجهي إلا أثر البِشر والسرور. يقلن: "لا تتأخري"، فأذكر قولي لأبيهن كل مرة يغادر فيها المنزل: أرجوك لا تتأخر. يتأخر طبعًا ويحزنني فراقه، لكنه يعود آخر الليل يدير المفتاح في مكانه بالباب ويدخل، فنعدو إليه مستبشرات. شعرتُ باستقبالهن لي ليلة أمس وكأنه استقبال للأب والأم معًا، لكل مرة أردن فيها الإسراع للقاء الأب الغائب، فكنتُ أنا من أتى.

انخلع ضرسي، أما زوجي فلم يشأ الله بعد أن ينخلع. اللهم فرجًا قريبًا ويقينًا تهوِّن به علينا مصائب الدنيا.
وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
23 أغسطس 2023م

تمر الزيارات بلا بكاء عادة، ويظل الشعور حبيسًا، وبينما يقرأ في عيني أمرًا مكتومًا، يصر كل مرة على سؤالٍ: حدثيني عنكِ!
لعل انقطاع رسائلي التي كانت تحمل إليه نزرًا يسيرًا مني يجعله في بحث دائم عما أخبئ داخلي. لا تكفي دقائق الزيارة السريعة في نقل أي شيء، حتى الأمور الهامة تصير مشوهة ناقصة مجتزأة.

"كيف حالكِ أنتِ؟" سؤال لا يزال يسأله كل زيارة، ولا أملك له جوابًا شافيًا صادقًا. حالي خليط من السكينة ونعيم القرب من الله الذي يهيئه حال البلاء، ولذة العلم والمعرفة الجديدة التي يفتح الله بها عليَّ. ثم هي مشوبة بشوق حارق وألم جسدي ونفسي لا أحسِن وصفه، لغياب زوجٍ حانٍ ورجلٍ رشيدٍ وحبيب قريبٍ وأبٍ معلم رقيق. ساعات من الرضا والاطمئنان واليقين، ثم لحظات من الضعف والنقص والشوق والألم. هذه هي الدنيا.

أتصبر بلقاء ضئيل كل عدة أسابيع.

صنعتُ اليوم طعامًا جميلًا، وكعكًا لذيذًا، قسمتُه في أكواب الكعك الجديدة التي فرحتْ بها البنات. جعلن يعددن كم سيكون نصيب الواحدة منهن، وأنا أضحك داخلي على الطفولة البريئة والحسابات الساذجة البهيجة. جاءتنا ضيفة فانهارت الحسابات كلها، وأعود فأفكر متى يذوق حبيبي لذيذَ طعامٍ صنعتُه بحب وأنا أفكر فيه. تبقى طبق من الأرز، قلتُ هذا نصيب أبي ندى إذ يعود فيكفينا إناء الطهي الصغير هذا كل يوم، ولا نبتغي سواه.

أواه... وجدتُني أرسل رسالة إلى رقمه الضائع على الهاتف، وأنا أوقن أنها لن تصل. سلام عليك حيث كنتَ أيها القريب البعيد، الحاضر الغائب، المحب المحبوب. سلام على قلبك الجميل، وجسدك المغيَّب العليل، وليُعِنِ الله على فقدك، فليس لي سواه مِنْ قادرٍ على شفاء الجروح وجبر الكسور، وبالهم والغم تبديل السرور.
أحبك.
٢٩ نوفمبر ٢٠١٩
تسمع مني يُمنى حديثي في الهاتف... تسمع كلماتٍ مثل "الحمد لله.. إخلاء سبيل"!
تسألني في براءة: متى سيأخذ أبي "السبيل" هذا؟
نجيبها في يقين ورجاء: قريبًا يا يمنى بإذن الله قريبا.

أنام وخيالي يذهب بعيدًا... في أيامٍ قليلة بإذن الله ستبيت زوجٌ تتزينُ لزوجها، وسيتراقص أطفال فرحون بعودة أبيهم، وستبكي أم بين ذراعي ولدها الغائب بعد طول غياب، وسيسجد سجينٌ أحسنَ اللهُ به وأخرجه من السجن شُكرًا.
سيعود لبيتٍ لمّته، وسيجتمع عدد أفراده على مائدة الإفطار، وسيعود دفء الفراش بعودة صاحبه. سينفض الغبار عن ملابسه المتربة في الخزانة، سيزهو الغسيل بملابسه الملونة مرة أخرى بعد أن امتلأنا بالبياض حتى صار أبغضَ لونٍ إلينا.
ستختلط دموع أهل البيت جميعًا وهم لا يصدّقون ما يرون رأي العين وما يلمسون بأيديهم. سيظلون ليلة كاملة أو ليلتين يظنون أن هذا حلم مثل باقي الأحلام التي تأتيهم باستمرار... فكم حلموا بعودة الغائب، ورسموا عدة أشكال وألوان وقصص للعودة لم تفلح أي منها قط. كيف يدركون أن هذه المرة تختلف؟ ليست حلمًا كباقي الأحلام، ولكن حقيقة واقعة. قد قضى الله أمرًا كان مفعولًا. قد أذن الله بالفرج، قد أتت لحظة طال انتظارها سنواتٍ. ها هي أتت، فصدّقوا أن نصر الله قريب.

ستعود المياه لمجاريها - أو لا تعود لا أدري - فلم أجربْ بعدُ هذه الفرحة!
لم أجرب خفقانَ القلب والخوف وهو يصارع الرجاء فيصرعه بعد خبرٍ نعرف يقينًا أنه وحده قد لا يعني شيئًا.
لا توجد فرحة كاملة، ولا نعيم دائم، ولا تحقيق لكل الأمنيات في هذه الحياة الدنيا.

اللهم فرحة كتلك، وأتم على هؤلاء فرحتهم، وارزقنا وإياهم وكل المبتلين عودة قريبة وفرجًا عاجلًا غير رائث، ونصرًا مؤزرًا، ونعيم الدنيا والآخرة.
مع اقتراب شهر ديسمبر من كل عام تمور النفس تأثرا برؤيا قديمة. ومع مرور الأيام بغير أن يقع ما نرجو نقول لا بأس لعله قابل.
لم تفلح كل تخيلات لحظة التحرير في تسكين لواعج النفس. اليوم تعود هدى من مدرستها متحمسة لتكرار تجربة حصة النجارة. تأتي بمسمار ومطرقة وزجاجة بلاستيكية فارغة وقضيب خشبي لتصنع من هؤلاء إنسانا آليا!
أدع ما في يدي مرغمة وأقوم معها أدق لها مسمارا وبعقلي تدق أمور أخر. كم أحسد هؤلاء الأطفال على خلو بالهم. أهمس لها قائلة: "هذه مهام الرجال يا هدى، لا أريد أن أدق مسمارا، دعي معلمك في المدرسة يقوم بهذا عني أرجوكِ".
تأبى وتصر أن الأمر بسيط وأن بإمكاننا فعله في المنزل. يشق المسمار طريقه في الخشب ثم البلاستيك وتنجح التجربة. تعانقني هدى وتقر أنني خير أم بالعالم!
هكذا، تصريح قطعي مؤكد لأنني دققت مسمارا!
هدى عمرها خمسة أعوام ونصف؛ من عمر المحنة. وكما كبرت هدى شعرت أنني كبرت خمسين عاما. ثمة مراحل فارقة في عمر الإنسان حيث ينتقل خلالها لا من عام إلى غيره، بل من حقبة إلى أخرى. بلغ أيمن الأربعين بعيدا عني، وبلغت الثلاثين بمنأى عنه. تغيرتُ وتغير، ولمّا نُحِط علما بكل ما تغير. تعرض لي ذاكرتي لقطات من حياتنا معا، وترن بأذني كلمات له بين فينة وأخرى. مررت بيوم ضاغط مشحون فإذا بعقلي يلقي بكلمة له قالها في ختام محاضرة ليلية لشاب أراد تأخيره بسؤال يطول جوابه، فأشار إلى آخر صف في الحضور حيث كنتُ: "لا علم لكَ كيف سار يومي، ولكن يكفيك أن تعرف أنني لم أر زوجي منذ البارحة إلا الساعة! هلا تركتَني أعود معها إلى البيت الآن؟" فيعتذر الشاب خجلا ويتركه يمضي.

حتى هذه الساعة القصيرة التي كنتَ تراني فيها كل يوم قد حُرمناها يا أيمن. الانشغال الذي كان يسرقك مني صار وحشا مخيفا يحجزك بغير رجعة من ليل أو نهار.

وددتُ لو نقلتُ إليك أخبار العزة. فاتتك مشاهد كثيرة لا يغني سردها عن رؤيتها شيئا. هذه أول مرة أرى فيها ما ظننتُ أوان بلوغه لا يحين إلا بانقضاء أعمارنا. أفكر أنني منحتُ - راضية - كل مَن أملك من رجالٍ استجابة لنداء إخوتنا. ولو عاش لي زوج إلى جواري هذه الأيام لنفر. وقد حرمني الله الذكور من الصبيان، فلو رُزقت غلاما لربيته كما تحب إن شاء الله.

انظر هؤلاء الأسيرات وقد حُررن، وابتهج معي بهذا الفتح والنصر المبين. هؤلاء الأشبال، ودموع الأمهات في لحظات اللقاء الأولى. ما من مشهد كهذا إلا وأسال الدمع أنهارا. فرحا وترقبا ورجاءً.
ما ظننت أن هناك رجلا قد لا يعرفني ولا أعرفه لكنه مستعد لدفع عمره ثمنا لحريتي. هذا المعنى يأسرني أسرا. ربما لافتقادي بعض معاني الرجولة في حياتي الخاصة، فصرت كلما رأيت شيئا كهذا أجلُّه وأستعظمه. وقد ابتلاني الله بفقد من امتن عليّ بهما من أزواجٍ رجال، يعرفان معنى الرجولة ويطبقان أحكامها. لكنه لطيف في المنع لطيف في العطاء؛ فإذا منع اثنين فقد رزق عشرات بل مئات ربما لم يروني ولم يسمع بي منهم أحد، غير أنهم على استعداد لإراقة دمائهم دفاعا عني وعن أخوات لي في الله.
فاللهم لك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم انصرنا بالإسلام وانصر الإسلام بنا، وأعزنا بالإسلام وأعز الإسلام بنا، وثبتنا على الحق حتى نلقاك.