حسّ سليم
8.29K subscribers
680 photos
66 videos
1 file
32 links
Download Telegram
حسّ سليم
Photo
لعقود طويلة، صدعت الولايات المتحدة رأس البشرية بالسوق الحر وفضائله التي لا تنتهي. منذ عقود طويلة والمؤسسات المالية الدولية تجر جرا كل دولة متعثرة أو تطلب النصيحة نحو رفع القيود من أمام دخول كل السلع. لعقود طويلة وقساوسة النيوليبرالية يبشرون باليد الخفية التي قُدمت على أنها يد الإله أو القدر الذي ينبغي الرضا بما كتبه لنا مهما حدث. كانوا يطالبون العالم بتبني السوق الحر لأن حسناته تعد ولا تحصى، ولأنه يخلق آليات تنافس تنعش بالضرورة كل اقتصاد وترفعه إلى السماء، وفي حال لم تقدر على المنافسة فعليك تقبل ما كتبته لك اليد الخفية على لوح القدر والموت في صمت لأن البديل الوحيد هو الشيطان الشيوعي والغولاغ السوفييتي اللذان لا علاج لهما سوى بركة السوق الحر.

أما حاليا، فالحال وكأن شيئا لم يكن. ترُاكم الولايات المتحدة القيود على السوق الحر وتتخذ نهجا حمائيا واضحا لصالح شركاتها. لم تعد تلك اليد الخفية خفية كما قيل بل تبين أنها مجرد يد الولايات المتحدة التي تدافع عن مصالحها، وأن ذلك القدر الذي لا مهرب منه لم يكن سوى عصاها الغليظة.
لكن لماذا هذا الانقلاب اللاهوتي؟ ببساطة لأن هناك قوى اقتصادية جديدة لم تستطع الولايات المتحدة منافستها وهي غير مستعدة لقبول حكم اليد الخفية عليها. وهذه ليست المرة الأولى التي تخرق فيها الولايات المتحدة حرمة السوق الحر، فقد فعلت ذلك مثلا مع اليابان في الثمانينات عندما شعرت بأن السلع اليابانية ستغرق السوق الأمريكية. لكن هذه المرة وصل الأمر بالنسبة لها إلى حد الهرطقة والفجور لأنها شعرت بخطر وجودي حقيقي يهدد اقتصادها وهيمنتها العسكرية على العالم، ولم يفعل ذلك أولئك الديموقراطيون الاشتراكيون بل ترامب حبيب الليبرتاريين واليمين النيوليبرالي، ومع ذلك لم نرى ستالين يفتح أبواب الغولاغ من جديد بسبب هذه الحمائية.

نفس الكلام الذي سبق يمكنك أن تسقطه على أيديولوجيا حقوق الإنسان أو الديموقراطية التبشيرية، فكلها أدوات هيمنة تستعملها الدول العظمى لتضفي على هيمنتها شرعية ترضاها الدول الأضعف أو تستعملها كعصاة لتأديب المارقين على سلطتها، لكن عندما تتعارض هذه الشعارات مع مصالحها المباشرة فهي تتصرف وكأنها لم توجد، وهذا ليس بالأمر المدهش، المدهش هو وجود من لا يصدق ذلك حتى بعد أن يشاهد بأم عينيه ومع ذلك يصر على وعظ الناس بحقوق الإنسان والديموقراطية والسوق الحر.
على سيرة الحديث عن قميص مارك زوكربيرغ المكتوب عليه "ينبغي تدمير قرطاج"، هناك ملاحظة لا أدري ما مدى صحتها لكن يبدو أن التاريخ يؤكدها هي أن هناك نفورا وتنافسا وعداوة أزلية بين الضفة الشمالية للبحر المتوسط والضفة الجنوبية، أو يمكنك وصفها إن شئت بأنها عداوة بين سام ويافث أو عداوة بين الشعوب السامية الحامية Semito-Hamitic والشعوب الهندوأوروبية Indo-European، في كل الأحوال هناك أحقاد قديمة مدفونة في أعماق لاوعي هذين المجالين تتجاوز الأديان والحضارات.

ملاحظة: ما سبق ليس قانونا فيزيائيا أو معادلة رياضية دقيقة بل هو حديث عام عن الصورة الكبيرة دون الدخول في التفاصيل. وطبعا لا يعني هذا أن زوكربيرغ لبس ذلك القميص لهذا السبب.
1- لكن نحن أيضا نفعل نفس الشيء معهم وأكثر

2- نحن ديموقراطيون، الأمر مختلف تماما فلا تقارن

لا يمكنك تقريبا أن تستمع للإعلام الغربي لنصف ساعة دون سماع حوار مشابه، وهذا ليس خطابا سيئا أو متناقضا في حد ذاته بل هو من التحيز الطبيعي للمجموعة In-group favoritism، ترجمته في الفقه الإسلامي "الولاء البراء"، ببساطة: نحن على حق (ديموقراطيين) وهم على باطل (غير ديموقراطيين) وبالتالي يحق لنا ما لا يحق لهم، وهذا الطبيعي بين الأمم سواءً بدافع ديني/أيديولوجي أو قومي أو حتى كرة القدم. التناقض يبدأ عندما تدعي في نفس الوقت أنك تنطلق من منطلقات إنسانوية وأن كل البشر عندك سواء وتحكمهم قوانين دولية واحدة وحقوق إنسان لا تتجزأ، لأن الأمر مستحيل في الواقع، أما الغباء فهو أن تسلم للآخرين بصحة أسس انحيازهم وأنت لست ضمن مجموعتهم حتى وإن كنت تحسب نفسك كذلك.

حاليا يمكنك أن تسمع نفس الحوار لدى الحديث عن قرار المحكمة الجنائية الدولية أو التدخل الروسي في أوروبا أو تدخل أذربيجان في كاليدونيا الفرنسية.
ملخص الأخلاق البروتستانتية لماكس فيبر
غالبا تكون قد سمعت ولو لمرة واحدة عبارة مشابهة لـ: "يستغلون ثغرات الديموقراطية لتدميرنا" على وزن: "مشكلتي طيبة قلبي" لتبرير الإجراءات المخالفة للديموقراطية. هذه الثغرات التي يتحدثون عنها هي بالضبط الهدف من وراء التبشير بالديموقراطية الليبرالية. تحويل البلدان نحو الديموقراطية الليبرالية، وخاصة المعادية منها، هو أسهل طريقة وأقلها تكلفة وتلطيخا للأيدي لضمان الهيمنة عليها من خلال تلك الثغرات دون الحاجة للقوة والأساليب العدائية كالحصار الاقتصادي الذي قد ينقلب على صاحبه. ولهذا تستشيط هذه الدول غضبا إذا حاولت دولة ما سد تلك الثغرات.
حسّ سليم
Photo
تتذكرون صورة هذه الوزيرة الفرنسية للرياضة عندما ارتدت قميصا عليه الشعار الملون خلال كأس العالم في قطر؟
قد تقولون إن هذه الوزيرة هي إنسانة يسارية وتقدمية وربما فيغن، لكن في الحقيقة هي ليست كذلك أبدا، بل على العكس هي نقيض ذلك تماما. هذه الوزيرة يمينية كاثوليكية إلى أقصى حد يمكنك تخيله، وقبل بضعة أشهر حدثت ضجة لدى تعيينها وزيرة للتعليم لأن أبنائها يدرسون في مدرسة خاصة، لكن ليس أي مدرسة بل مدرسة Stanislas التي تعتبر أكثر المدارس الكاثوليكية رجعية في فرنسا، والتي توصف بكل الأوصاف التي يمكنك تخيلها: هوموفوبية، ميزوجينية، ضد الإجهاض… هذه الوزيرة في الواقع لو رأت علم الملونين يمكن أن تتقيأ أو أن يغمى عليها.

إذن ما الذي دفعها إلى ذلك؟ ببساطة دفعها إلى ذلك شيء اسمه: النكاية. هذا اليمين مستعد لفعل أي شيء في حربه المقدسة ضد أي شيء متعلق بالمسلمين، ومستعد ليتجرد من كل ما يدعيه من أجل ذلك، وقد يتحول أحدهم إلى أسوأ يساري قد تتخيله -على الأقل شكلا- إذا وقف أمام مسلم أو حتى مهاجر بشكل عام. لهذا يخطئ الكثيرون عندما يعتقدون أن اليمين (كله) سيكون مختلفا كثيرا عن اليسار من هذه الناحية لأنه ربما سيكون مثله بالضبط بالإضافة إلى مميزات اليمين الأوروبي الأخرى: الغباء + الكذب. لهذا لا تتعجب في السنوات القادمة إذا رأيت جزءا كبيرا من اليمين الأوروبي مسعورا أكثر من اليسار ويتشبث بأسنانه بالإرث اليساري (علمانية، نسوية، ملونين…) لأن هذا الإرث اليساري هو العقبة أمام اندماج المهاجرين في الثقافة الأوروبية الحالية وليس الثقافة الأوروبية التقليدية المنقرضة التي يدعي الدفاع عنها لأن أولئك المهاجرين أقرب إليها منه...
حسّ سليم
Photo
ليس هناك أسوأ من الملكية أو الأرستقراطية الخاملة التي تخلت عن المبررات الأولى لوجودها وأساس شرعيتها: المقدس والسيف.
عندما تتوقف الملكيات عن إعداد أبنائها للحرب وتجنيدهم في جيوشها ليذوقوا طعم الحياة الخشنة، وليس لمجرد لبس البذلات العسكرية المكوية والمزينة بالنياشين والرتب في المناسبات، فإنها تسقط تلقائيا في حالة مزمنة من الضعف والتخنث نتيجة الغرق في الملذات والمتعة واللهو بلا حدود بحيث تتوقف ماكينة الاصطفاء عن العمل لتقديم الأجدر. لهذا نجد أن الجمهوريات على عيوبها الكثيرة خاصة عندما ترتبط بالديموقراطية، كانت دائما عبر التاريخ هي الأكثر نزوعا نحو الفحولة والحرب، لأن آلية الوصول إلى الحكم فيها قائمة على التنافس وإثبات الذات (حكم الجدارة أو الميريتوقراطية) لا على مجرد أن يرث أحدهم ملكه وإمارته عن أبيه كما يرث أحدهم دابة، هذا ما يجعلها أقل استقرارا سياسيا من الملكيات، لكن يعوض عن ذلك حيويتها التي تمنحها طاقة كبيرة إن تم استغلالها جيدا.
هذا لا يعني أن الملكيات غير محاربة خاصة خلال حكم الأجيال الأولى من السلالة أو عندما تتبنى نموذجا شبه جمهوري في انتقال السلطة، لكن بشكل عام تكون الجمهوريات —مع قلة نموذجها في التاريخ— هي الأشد مراسا والأكثر حيوية، هذا ما يمكننا ملاحظته في التاريخ من روما إلى المماليك إلى الجمهوريات البحرية وصولا إلى نابليون والولايات المتحدة ..إلخ، وبين كل هؤلاء الكثير من الامثلة بما في ذلك الدول العربية الحديثة التي نجد أن الجمهوريات فيها مع كل سيئاتها وتقدميتها كانت دائما تاريخيا هي الأقل ترددا أمام القتال، في حين أن الملكيات لا تتحرك إلا إذا ضمنت تفاوتا مريحا في القوة وإلا فهي لا تجد حرجا وهي من تحكم شعوب عرفت بالفروسية في أن تطلب الحماية من دولة عرف شعبها عبر التاريخ ولا يزال بالجبن. من كان يحصل على المال مقابل الحماية أصبح يطلب الحماية مقابل المال، ومن كان يشتري الحماية مقابل المال أصبح يقدم الحماية.


«يظهر التاريخ بأن الأرستقراطية الخاملة تنتهي إلى الغرق في الانحطاط. على عكس الأرستقراطية المحاربة التي يجب أن تقاتل للبقاء في السلطة، ينتهي الأمر بالأرستقراطية الخاملة والمتهورة إلى الهيدونية والاكتئاب، حتى عندما تمسك بزمام السلطة. يوضح هذا بأن القوة ليست كل شيء: يجب أن يكون لديك أهداف لممارستها.»
— تيد كازينسكي - المجتمع الصناعي ومستقبله
حسّ سليم
Photo
يبدأ غدا الدور الأول من الانتخابات التشريعية الفرنسية التي جاءت بعد حل ماكرون للبرلمان كرد فعل على النتيجة السيئة جدا لحزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي مقابل صعود حزب اليمين "المتطرف" (التجمع الوطني RN).
باستثناء بضعة مستشارين مقربين جدا من ماكرون، كان قرار حل البرلمان مفاجئا للجميع حتى بالنسبة لرئيس حكومته ووزرائه المقربين، لأن نتيجة الانتخابات الأوروبية مهما كانت كارثية فإنها لن تصل إلى حد تغيير شيء في الواقع السياسي الداخلي، كما أن فوز حزب التجمع متوقع جدا في الانتخابات الأوروبية التي تعود الآن الجميع على تصدره فيها.

إذن لماذا أقدم ماكرون على حل البرلمان؟

قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن يعرف غير المتابع للشأن الفرنسي بأن ماكرون يمر بأزمة داخلية منذ أخر انتخابات تشريعية بسبب امتلاك حكومته للأغلبية في البرلمان دون الأغلبية المطلقة، وبالتالي يقف ماكرون حاليا عاجزا عن تمرير ما يرغب فيه من قوانين دون التنازل لجهة ما في البرلمان أو باستعمال المادة 49.3 من الدستور التي تجيز للحكومة تمرير نص واحد سنويا دون موافقة البرلمان، وبالتالي من الطبيعي أن يشعر ماكرون بأنه مكبل وغير قادر على فعل ما يريده، ومن هنا جاء قرار الحل الذي يجمع الجميع تقريبا على أن ماكرون ينوي من خلاله إحدى الأمرين:

1- الطفل الغاضب يكسر لعبته:
جاء قرار الحل لإعادة بعثرة الأوراق ومفاجئة الجميع به مع تحديد أقرب موعد للانتخابات حتى لا تتمكن الأحزاب من إعداد نفسها، هذا ما علق عليه ماكرون في الكواليس بـ "لقد ألقيت قنبلة يدوية بين أرجلهم، دعونا نرى ما يمكنهم فعله الآن". يطمح ماكرون من خلال هذا إلى معاقبة الطبقة السياسية والفرنسيين عموما على تصويتهم وإحداث حالة رعب بين الأحزاب التقليدية من وصول اليمين المتطرف إلى الحكم، ما يجعلها تهرع إليه لطلب النجدة والتحالف معه، وبالتالي تعود الأغلبية البرلمانية المطلقة لحكومته، والذي يجعله مطمئنا لحدوث ذلك هو انقسام اليسار بسبب الحملة الإعلامية الشديد التي قادها بتحالف مع اليمين المتطرف ضد حزب فرنسا الأبية LFI الذي أصبح يعتبر منبوذا أكثر من اليمين المتطرف نتيجة اتهامه بمعاداة السامية بسبب موقفه من الحرب على غزة وتراكمات سابقة، ولهذا كان ماكرون يقدم نفسه منذ مدة على أنه الحاجز الوحيد أمام المتطرفين من الجانبين (اليمين المتطرف واليسار المتطرف)، لكن السحر انقلب على الساحر عندما حدثت مفاجئة غير متوقعة بتحالف أغلب اليسار، وبالتالي سحب البساط كليا من تحت أرجل ماكرون وإخراجه من السباق الانتخابي الذي لم يبقى فيه إلا اليمين المتطرف مقابل تحالف اليسار، وحسب استطلاعات الرأي الحالية الفارق بين الطرفين ضئيل جدا ومن الصعب تحديد من منهما سيفوز، وفي كل الأحوال من المستبعد جدا فوز أحدهما بالأغلبية المطلقة، وبالتالي ستستمر حالة الفوضى داخل البرلمان وفرنسا عموما وقد يضطر ماكرون نفسه للاستقالة.

2- السلطة ستفضح عورتهم:
من غير المستبعد أن يكون ماكرون يفكر في فسح المجال أمام اليمين المتطرف للوصول إلى الحكم ثم الاعتماد على ضعفه وقلة خبرته في الحكم ليفقد رصيده أمام الناس التي تأمل في أن يحدث تغييرا جذريا.
هنا ماكرون محق تماما لأن أحزاب اليمين المتطرف فاشلة فعلا، وأغلب أعضائها هم مجموعة حمقى لا يحسنون الحديث في شيء، ولا يملكون أي أفكار متسقة خارج موضوع المهاجرين وذوي الأصول المهاجرة وعلى رأسهم رئيس الحزب بارديلا (لم يكن الأمر هكذا زمن لوبان الأب)، يكفي أن تمنح أحدهم الميكروفون وتسأله عن برنامج حزبه الاقتصادي لتندهش أمام المستوى المتدني جدا وكثرة التناقضات في الجملة الواحدة. والمضحك في الأمر أن مجرد شعور حزب التجمع بأنه قريب من الفوز جعله يتخلى عن كل وعوده الانتخابية الشعبوية السابقة بحيث يبدو وكأنه سيتحول إلى حزب شبيه بحزب ماكرون إذا وصل فعلا إلى الحكم مع جرعة خطابية زائدة نحو المهاجرين لن تكون مجدية كثيرا لأن ملف الهجرة بيد أوروبا ورجال الأعمال ويتجاوز فرنسا، وهذا ما أثبته حال جورجيا ميلوني في إيطاليا التي تعتبر أكثر تطرفا من نظيرتها الفرنسية لوبان.
حسّ سليم
Photo
عندما تشاهد المناظرة الأخيرة بين الزومبي التائه والمهرج الأبله التي تجعلك تتساءل "ألم تجد أمة الـ300 مليون التي تهيمن على العالم من كل النواحي إلا هذان الخرفان؟" أو الحملة الانتخابية الحالية في فرنسا أو كل الانتخابات الغربية خلال العقدين الأخيرين، لا يمكنك إلا أن تلاحظ المستوى المتدني جدا للسياسيين الغربيين الذين من المفترض أن يمثلوا زبدة المجتمع وصفوته. قدرتهم على صياغة أفكار مترابطة ومتسقة ضعيفة جدا، ثقافتهم التاريخية والفلسفية شبه معدومة، وحتى قدراتهم الخطابية هزيلة جدا وبالكاد تتوافق مع ما تتطلبه تغريدة على إكس أو مقطع على تيك توك، وكثير منهم يتصدر المشهد السياسي فقط لأنه جذاب فوتوغرافيا (photogenic) لأن السياسة بدأت تتحول منذ كينيدي إلى show إعلامي لا تختلف معاييره كثيرا عن معايير اختيار مقدمة النشرة الجوية ومقدم البرامج الحوارية الذي يحسن قصف الجبهات.

هذا التدني في مستوى السياسيين لا يعود لعلة في السياسيين أنفسهم فقط لأنهم في النهاية مجرد انعكاس لحالة المجتمع ككل الذي يشهد انهيار في المستوى في كل شيء تقريبا: في الفلسفة والفن والأدب والعلوم النظرية، تدني في مستوى منظري الماركسية والليبرالية وكل الأيديولوجيات، تدني في مستوى مفكري اليسار واليمين، والتقدميين والمحافظين والرجعيين. المجال الوحيد الذي لا يزال محافظا على مستواه هو قطاع التكنولوجيا، وهذا ليس بالغريب لأن التكنولوجيا بطبيعتها تراكمية وتقدمية وتسير في مسار متصاعد منذ اكتشاف النار والعجلة، هذا ما جعل التقدميين دائما يتوهمون أن البشرية في حالة تقدم دائم لتصورهم أن الإنسان من حيث هو إنسان يتقدم حتما أكثر مع التقدم الحتمي للتكنولوجيا، لكن العقود الأخيرة تثبت أن كل ذلك كان محض هراء لا صلة له بالواقع، رغم أن التقدميين وفروا كل ما كانوا يزعمون أنها شروط التقدم الإنساني من "حرية" وكسر للقيود وإيجابية في التعامل.

نحن حاليا نعيش في أكثر العصور كثافة سكانيا، وأكثرها تعليما، وأكثرها حرية وكسرا للقيود (هكذا يعتقدون)، وأكثرها عدالة اجتماعيا، وأكثرها تشجيعا على الإبداع (كما يعتقدون أيضا)، ومع ذلك لو تقارن ما أنتجه مفكرو ومبدعو القرن 19 أو بداية القرن 20 –بغض النظر عن الموقف مما أنتجوه– مع ما ينتجه البشر حاليا فستجد فرقا شاسعا كفرق السماء عن الأرض. نعيش عصرا مساواتي انتشل من كانوا في القاع درجات نحو الأعلى ونزلت درجات بمن كانوا في القمة ليجتمع الكل في حالة وسطية، حالة الإنسان المتوسط Average.

ملاحظة: الغرب هنا هو مجرد مثال بوصفه المهيمن على العالم الذي ينظر إليه على أنه المتفوق في كل شيء، وإلا فإن هذا الانهيار في مستوى السياسيين وغيرهم يشمل العالم كله تقريبا، ولو قارنا مثلا نوعية القادة عندنا قبل عقود مع كل عيوبهم فسنجد فرقا شاسعا مع القادة الحاليين من كل النواحي.
حسّ سليم
Photo
بخلاف ترتيبه الثالث من حيث عدد المقاعد البرلمانية، جاء حزب التجمع الوطني الفرنسي (أقصى اليمين) في المرتبة الأولى من حيث عدد الأصوات الإجمالية وطنيا (10 ملايين أو 37٪؜)، وهذه أعلى نسبة في تاريخه ولو كان النظام الانتخابي الفرنسي مشابها للنظام البريطاني لكانت النتيجة اكتساحا من حزب التجمع على الجميع، لكن كونها انتخابات تجري على دورتين بثلاثة مترشحين فهذا يسمح للمنافسين بتنظيم أنفسهم ضد الحزب المتصدر حيث ينسحب المترشح في المركز الثالث لمصلحة من يراد دعمه.

أما فوز تحالف اليسار بأغلبية نسبية بسيطة فهو يعني أن المشهد السياسي غالبا لن يتغير كثيرا، وإذا لم ينتصر ماكرون في هذه الانتخابات فهو كذلك لم يخسر فيها وإمكانه الاحتفاظ بالحكومة كما هي أو تعيين رئيس حكومة من تحالف اليسار يكون مقربا منه (Ruffin مثلا) ويفتت بذلك تحالف اليسار الهش أساسا، ولن يستطيع أحد حجب الثقة عن هذه الحكومة في ظل عدم امتلاك أي جهة للأغلبية المطلقة ومن الصعب جدا أن يتوافق اليمين المتطرف مع اليسار المتطرف على إسقاط الحكومة لأنهم يحرصون جدا على أن لا يظهر أي تحالف بينهم ولو مؤقتا. أو قد يقدم ماكرون على حيلة مفاجئة أخرى، فبعد حله للبرلمان لم يعد أحد يستطيع الجزم بما يفكر فيه.

بالنسبة للمتابع من الخارج كان سيكون من المثير للاهتمام فوز أقصى اليمين أو أقصى اليسار بأغلبية مطلقة، الأخير لأنه يضم كتلة كبيرة في خصومة عميقة مع الصهيونية وبارونات الإعلام. أما الأول فيُنظر هل بإمكانه تحقيق ما يدعيه أم ستكون البيروقراطية والمؤسسات القضائية والاتحاد الأوروبي أقوى منه، أضف إلى ذلك وقوعه في التناقض الذي وقعت فيه جورجيا ميلوني التي مثل التجمع الوطني أسست كل برنامجها على مناهضة الهجرة لكنها في نفس الوقت تُقبل يد القطاع المالي والصناعي الذي يشترط عليها السماح بالهجرة لسد العجز الديموغرافي، الأمر الذي جعلها تمنح بعد فوزها بقليل 450 ألف إقامة للعمل في الثلاث سنوات اللاحقة. هذه المعضلة هي أهم مشاكل أقصى اليمين الغربي، فهو من جهة يسعى لإعادة التصنيع إلى الغرب ليستعيد قوته التي ضيعها لمصلحة شرق آسيا، ومن جهة أخرى يتطلب هذا التصنيع يدا عاملة لم تعد متوفرة مثلما كان الحال بعد الحرب العالمية الثانية، وبالتالي سيضطر للسماح بالهجرة التي يناهضها وينتهي الأمر إلى دورة مغلقة لا نهاية لها.
حسّ سليم
Photo
إذا وضعنا جانبا التحيزات العاطفية والمصلحية فإن الذي يرجح كفة فكرة ما على أخرى في أعين أغلب الناس ليس صوابها بل ذكاء وكاريزمية صاحبها الذي يحسن صياغتها وتقديمها، لأن الفكرة تلبس لباس حاملها لا العكس. هي فكرة ذكية إن كان صاحبها ذكيا، وحمقاء إن كان صاحبها أحمقا. الفكرة الحمقاء في فم الذكي تستحيل إلى فكرة ذكية تثير الإعجاب، والفكرة الذكية في فم الأحمق تستحيل إلى فكرة حمقاء تثير السخرية.

ما سبق هي القاعدة التي خسر بسببها أقصى اليمين الفرنسي RN الانتخابات الأخيرة رغم قربه من الفوز بها في الدور الأول، لأنه حزب مكون من غالبية حمقى لا يمكنهم حتى الدفاع عن أصح الأفكار وأبسطها، ولا يعني هذا أن أفكارهم صحيحة، لكنهم كأشخاص ليسوا بمستوى بقية التيارات ويعتمدون كثيرا على تحيزات الناس البسيطة (لهذا هو شعبوي)، لكن إذا طلبت من أحدهم شرح أفكاره بشكل واقعي ومفصل فإنك تجده يكاد يغرق في فنجان.
هذا الأمر لم يكن واضحا في الدور الأول لأن الإعلام منقسم بين إعلام منحاز تماما وبشكل فج إلى اليمين المتطرف (ظهور هذا الإعلام مع قدوم الملياردير بولوري هو السبب الرئيسي لصعود اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة) أو إعلام ماكروني كان موجها في الدور الأول ضد تحالف اليسار وبالتحديد ضد اليسار المتطرف (فرنسا الأبية)، لكن مع تصدر اليمين المتطرف للدور الأول بشكل كبير تحول الإعلام الماكروني نحو عيوب مترشحي اليمين المتطرف خاصة في الأرياف والمدن الصغيرة.

حزب التجمع الوطني الفرنسي RN، اشتغل كثيرا على تحسين صورة قادته في السنوات الأخيرة، ويقال أنهم أخذوا دروسا مطولة على يد خبراء إعلاميين ليتعلموا ما ينبغي عليهم قوله وما لا ينبغي عليهم قوله أو بالأحرى كيف يكونون صائبين سياسيا دون أن يتخلوا عن جوهر أفكارهم (التقية)، بالإضافة إلى تعلم الحديث بلباقة والإبتسام للكاميرات (كثيرا ما يبدو التصنع واضحا)، وفي النهاية نجحوا فعلا في تحسين صورتهم، لكن مشكلتهم أن ذلك المجهود اقتصر على نخبة الحزب ولم يكترثوا للقواعد التي ظهرت في الدور الثاني بشكل منفلت ويثير الخوف وكأنها في كرنفال أو سرك مفتوح، مع كمية غباء تثير الفزع، الواحد منهم يشعرك وكأنه بذكاء حبة فول سوداني أو متخلف عقليا (أحدهم يدعى Thierry Mosca حُكم عليه فعلا السنة الماضية بالحجر لتخلفه العقلي) بحيث تراه غير قادر حتى على صياغة جملة مفيدة، أما برنامج الحزب على بساطته فلا يعرفون عنه شيئا سوى: "وقف الهجرة هي الحل لكل شيء" وحتى هذه يجدون صعوبة في التعبير عنها. مشهد هؤلاء المترشحين كان صادما ومحل سخرية شديدة لدى كثير من الناخبين الفرنسيين، وهذا ما جعل الحزب ا–لذي منع قواعده في الأيام الأخيرة من الظهور في مناظرات– يخسر لأنه توقف تقريبا عند عدد من انتخبوه في الدور الأول من المقتنعين أساسا الذين لن يغيروا رأيهم مهما حدث، ولم يجذب من صوتوا على المترشحين الخاسرين والمنسحبين في الدور الأول.

بغض النظر عن اليمين المتطرف الفرنسي بالتحديد، صفة الغباء متجذرة في اليمين المتطرف الغربي عموما بما في ذلك نخبته التي تجعلك تنفر منها حتى وهي تتحدث عن فكرة توافقها الرأي فيها تماما، بالإضافة إلى صفات أخرى منفرة مثل الكذب وسوء النية. أما اليسار فتجد نخبته أكثر ذكاءاً بشكل واضح، رغم أنك قد لا توافقها أبدا وترى افكارها حمقاء كليا، لكن طريقة كلامها واتساع معرفتها بحيث يمكن أن تتعلم منها أشياء جديدة يجعلك تتحمل الاستماع والقراءة لها في كثير من الأحيان، وإن كان مستوى هذا اليسار في تراجع شديد في السنوات الأخيرة.
حسّ سليم
Video
كنت أستمع لرأي أحد الصحفيين العرب عن الانتخابات الفرنسية من باب معرفة شكل الصورة التي تصل إلى غير المتابعين بشكل مباشر، ثم أخذ يتحدث عن حياة رئيس حزب التجمع الوطني (أقصى اليمين) جوردان بارديلا، وإذا به يكرر دعاية قديمة لحزبه عن أنه ابن عائلة متواضعة كانت تسكن إحدى الضواحي الشعبية، وأنه كان مراهق ضائع بسبب طبيعة الحي الذي يسكنه لو لا أن تم إنقاذه.
في الحقيقة كل هذا غير صحيح تقريبا، هو فعلا كان يسكن إحدى الضواحي الشعبية، لكن الحي الذي سكنه لم يكن –على الأقل– أسوأ أحيائها، كما أن رواية أنه من عائلة متواضعة مبنية على التركيز على أمه التي كانت تعمل موظفة عادية دون الحديث عن والده الغني الذي فتح له أبواب المدارس الخاصة ويرسله للتنزه في قارات أخرى، من أجل هذا لم يكن أحد يعرفه من شباب الحي. انضم إلى الحزب في سن 16 سنة ولم يكمل دراسه ولم يعمل يوما في حياته باستثناء شهر في شركة والده، وحتى كنائب في البرلمان الأوروبي عُرف بكسله وقلة نشاطه إلى درجة أن زملاءه في البرلمان يلقبونه بـ "بارديلا الغائب".
كل هذا لنصل إلى أنه مجرد واجهة جميلة للحزب الذي يحاول جاهدا في السنوات الأخيرة تغيير الصورة السيئة عنه بكل الوسائل. هو مجرد مادة تسويقية دون أي خلفية ثقافية أو سياسية، والسيدة مارين لوبان هي الأخرى ذات ثقافة متواضعة ولا تقارن بوالدها لكنها على الأقل سياسية محنكة وتتفوق عليه من حيث هرمون التستوستيرون، هذا عدا الإشاعات التي تحوم حوله كالتي تحوم حول ماكرون أو يعلنها رئيس الحكومة الحالي.
لا مقارنة أبدا بين مستوى اليمين القديم والجيل الحالي.