حُسام الدين بن السنوسي
5.31K subscribers
101 photos
37 videos
27 files
62 links
أخوك حسام الدين، من بلاد المغرب الإسلامي، طالبُ للأدب ثم للأدب ثم للعلم، أشاركك هنا ما أراه ينفع وما أكتبه، وهذه قناة البثُوث: https://t.me/tathbite
Download Telegram
العمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة، والفرص بروق تأتلق، والأوطار في عرضها تجتمع وتفترق، والنفوس عن قرابتها تذوب وتحترق.

أبو حيان.
"قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيه"

لعل من أعظم الانتصارات تلك التي تقف فيها أمام العاذلين أو الخاذلين، وقد حققتَ مأربك وبلغتَ مطلبك، أو إذا أوغلوا فيما قاربتَه أو قارفته بعضَ المقارفة، أو إذا عايَنوا بعضَ ما وصفتَ أو فعلتَ فأكبَرُوه بعدَ أن أنكرُوه، إنه انتصار أن تقول وقد عايَنوا وأيقَنوا هذا ما لمتموني فيه، أو هذا ما خذلتموني عندما طلبته، أو هذا ما عيرتموني بحبه أو طلبه، ما لكم اليوم سكتم وقد كنتم مبالغين في السخرية، وما بكم سكنتُم وقد كنت نشيطين في التخذيل، إنه موقف عظيم تُشفى فيه الصدور، وينفث فيه المصدور؛ فيتنفس بعد أن كتم وكبت، وأسرَّ وسكَت، ومثلُ ذلك قولُ سيدنا يعقوب بعد أن ارتدَّ بصيرا "قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ؟"..، إنه شفاء الصدر بعد طول الصبر، وهو انتصافُ الأيام لمن عجزت عباراتهم عن حُسن ترجمة عبَراتِهم، وقصرت حججهم عن نصر قضاياهم، وكم نحن عاجزون عن إفهام القريب قبل البعيد بما نجد، وما أشدَّ ذلك إذا كان في باب الهم والفكرة التي تشغفُ قلب الإنسان ولا يفهمها الناس أو لا يفهمون ولعه بها، نبقى منتظرين أن يفهموا، أو على أمل أن يذوقوا فيعلَموا، لعلهم إذا اغترفوا واعترفوا تيسّر أن نقول "ولَقَدْ" بتيه وفخر، ودون خجل أو وجل، لأوَّلِ مرة..، أصف هذا وأنا أتخيّلُ الجزاء الأعظم والمثال الأفخم والأكرم، عندما يجد أهل الجنة ما وعدَهم ربُّهم حقا وتشفى صدورهم فيقولون، هذا ما لامونا فيه، هذا ما ثبّطونا عن طلبه، هناك لا يتحقق قول ابن الجوزي "تقطيعُ الأيدي يهونُ عندَ رؤيةِ يوسُف" فحسب؛ بل يُقال "تقطيعُ الأيدي هانَ في سبيل رؤية يوسف"، وها قد رأينا، وها قد شُفينا، وها قد جوزينا.
لاحظت أنني عندما أمرض أو أتعب تحدثني نفسي بالعمل أكثر؛ فأنشط له مرة وأعجز عنه مرات؛ لكن في ذلك لطيفة دقيقة؛ فالعبد في حاله اليومي ينسى نفسه ويغفل، فإذا مرض عرف قيمة الصحة والفراغ وذُكِّرَ أن المتيسر اليوم قد لا يتيسر غدا، وأن كل ما تؤجله لغير مانع حقيقي يُحسَب عليك؛ بل ستكون أنت أول من يستحضرهُ لنفسك في باب عتابها إذا جاءكَ المرض الشاغل أو المانع القاهر الذي يقولُ لك "أنا شاغلٌ نعم؛ فما كانَ ذلك؟ ولأي شيء كانَ ما سبقَ من تعطيل وتأجيل وفراغ؟"؛ فتنتبه وتخاف، وكثيرا ما تعجز عن الصبر لحين ارتفاع الوعكة لإنفاذ عزمك والاستجابة لِما تحرك من همّك فتجد نفسك تتحرك متأثرا به هنا وهناك بقدر ما تتيحه الصحة، لا ترتاحُ دون تلك الحركة، وأنت فيه دائم اللوم لنفسك "أحَتى نمرضّ؟"، ولو لم يكن في المرض إلا هذا التوبيخ والعتاب والتنبيه المورث لانتهاض العزم وتحرُّك الهم وانكشاف البطالة المستترة بتوالي الأيام وتمييز الاستقالة المتخفية خلف ستُر التعود وتوهُّم الانشغال، لكان مواسيا مؤنسا؛ فقد جاء بالخير.
مما جربتهُ في نفسي فأنتَج، المسارعة للتعلُُّم ممن أجد رغبةً في تبيينِ موقفي منه إذا حصلَ خلافٌ كان أحدَ أطرافه، وبذلك أجمعُ بين إلزام نفسي بالصمت خجلا واستحياءً فقد تعلَّمَتْ منه فحقَّ عليها ذبّ غيبته أو التأدبُ في إعلان مخالفته -إذا لم يوجد من ذلك بد-، أو إلزامها الصمت كلية لأنها ليست في مقام دخول تلك الخلافات، وليس لها إلا حُسن الظن بأهل الفضل، والتزام اختيار من تقلّد. ومهما كان؛ فقد وجدتهُ كله يسيرا بالإسراع لسماعِ شيء له؛ وإن كان شرحَ حديث؛ بل قد لا يُجاوز سماع مقدمة له، أو تلاوة آية، أو مجرد البسملة، فيكفي الانتفاع بأي شيء منه لإلزام النفس بحفظ حرمته فقد صار شيخا معلِّما، ومن علّمني حرفا صرتُ له عبدا، وإن لم أكن عبدا له بدوام الموافقة فعبد في التواضع وخفض الجناح وحفظ مقامه وتخيّر الألفاظ ومراقبة نبرة الحديث عند ذكرِه.
هنيئا لمن عَلَّقوا في ذاكرتنا أمر خير فإذا ذكرناه ذكرناهم، وإذا رأيناهم ذكَرناه، حتى أن بعض الأعمال صارت مسجلة عندنا بأسمائهم، إذا أردنا الحديث عن الورد القرآني تذكّرنا أختا تعوَّدت تذكير الناس به، وإذا حَدَّثنا النفس أو غيرنا بالصلاة على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم تذكّرنا شقيقا جعلَ تذكير الناس بها عمله اليومي، وآخر يُذكَر عند تعظيم العلم، وأخرى تُذكَر في باب الذوق والأدب، وأخرى مُحبّة لتفسير القرطبي، وأخرى للشِفا، وأخرى جوّالة في كتب الفريد الأنصاري، وآخر مولع بدقائق السيرة، وآخر ناقل لرقائق البَيَحياوي، وغيرهم، طوبى لهم ولأمثالهم؛ فأي تجارة يريدها العبد أربح من هذا الاستثمار؛ فبأي شيء تُعرَف، وبأي شيء تُذكِّر؟.
تكثر علي الأدعية فأدعو بالسِّتر، وتكثر علي الاستعاذات فأستعيذ من الفضيحة..

ربي استرني ولا تفضحني، استر ضعفي فلا يتجرأ علي شيطان إنس ولا جن، واستر حاجتي فلا يشمت بي قريب ولا بعيد، واستر زلّاتي فلا يطّلع عليها الصالحون ولا الطالحون.
ربّ العباد أعلم بتعبهم، لو اطلع الناس على قلوب الصامتين لرقُّو وأشفقوا؛ فالحمد لله الذي ستر القلب بالصدر، وأمرَه بالصبر، حاله محجوب وشكواه لعلّامِ الغيوب.
أعوذ بالله من الفرح بزلة مؤمن، وأعوذ به من فرحة النفس الأمّارة بمشابهة غيرها لها في ذنب، وأعوذ به من الانشغال بذنوب العباد، وأعوذ به من الاستغراق فيما يُغفِل عن التوبة والإعداد ليوم التناد.
من بردَ همُّه، وخفتت همّتُه، وغابت عنه مهمته؛ فليمض إلى أي ساحةٍ عمومية بعد العصر، أو ليعرِّج على أي إقامة جامعية للبنات بعد العصر إن شاء، أو بعد الفجر؛ فإن كان ذا قلب حي اعتصر ألما، وبكى دما، ولم يرجع على الحال الذي خرجَ عليه، وعلمَ علما لا يداخله شك أن همَّ الأمة عظيم تتلاشى أمامه الهموم التافهة، ورأى بعين قلبه أن المهمات أكثر من العاملين؛ وأن الثغور شتى تنتظر السُّعاة المرابطين، وأن الخير باق لكنه خجول، وأن الفجور لا يضيّع الفرص، ولا يدفن رأسه في التراب، ويجيد طرق الأبواب؛ فإن لم تفتح صنع المنافذ، وأنه لا ييأس، ولا يتعب، ولا يخجل بنفسه، فإن قالت لك نفسك "الخير موجود" قل لها نعلم؛ لكن وجوده هنا هو الأصل؛ ولا يقولُ "لكنني موجودٌ أيضا" إلا مستتر يزاحم من بعيد، يرافع عن نفسه بخجلِ الغريب، وهو صاحب الدار، ولا يُذَكِّرُ صاحبُ الدارِ بأنه موجود إلا إذا غُلِب، أو غاب واستقال حتى تبدّل الحال واستنسرَ البُغاث، أمّا صاحبُها حقيقةً فتُخشى غضبَتُه وتُحذَر وثبَتُه، ولا يحتاج أن يقول؛ إذ تقضي حاجتَه إشارتُه.
إذا خسرنا المعارك في الولايات "المحافظة" فماذا تقول أخواتها، عيبنا أننا نقيس إنجازاتنا قياس الغريب أو العارض، لا قياس الأصل والحال الطبيعي، ولو كنا نقيس على الأصل لكنا نخجل بالإنجاز قبل أن نخجل بالإخفاق؛ لأننا المغشيون في ديارنا وحصوننا، وأي احتفال لمن يقول حررتُ بُرجا، وللأغراب أبراج من حصنه، وأي راحة لمن استرجع غرفة من بيته وباقي أرجائها معشش فيه الفساد؛ فإن كان احتفالٌ كان خجولا، قصيرا، وإعدادا للعمل القادم.
"ولا تُجالِس العابثين"

من وصية أبي بكر رضي الله عنه لقائد عسكره يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه (ابن الأثير).
فأعْجَزُ الناسِ حُرٌ ضاعَ مِنْ يَدِهِ
صَدِيقُ وُدٍّ فلم يَردُدْهُ بالحِيَلِ


المقري اليماني.
إنْ كان مَنزِلَتي في الحبّ عندكُمُ
ما قد رأيتُ فقد ضيّعْتُ أيّامي

أُمْنِيّة ظفِرَتْ روحي بها زَمَناً
واليومَ أحسَبُها أضغاثَ أحلامِ

وإن يكُنْ فرطُ وجدي في مَحَبّتِكُمُ
إثْماً فقد كَثُرَتْ في الحبّ آثامي

ولو علِمْتُ بأَنّ الحُبّ آخِرُهُ
هذا الحِمَامُ لَمَا خالَفتُ لُوّامي

السُّلطان.
فإنهم يألمُون كما تألمون..

تساوي الآلام لا يستلزم تساوي الأرقام؛ فما نرجوه وما يرجونه مختلفان، وما نحرص عليه وما يحرصون عليه مفترقان، فأحرَصُ الناس على حياة، أجزعهم لذكر الموت؛ فكيف بتحليقه فوق رؤوسهم، وما يواسينا لا يواسيهم؛ فما نرجوه لا يعنيهم، وأقصى ما يبلغونه منا إفساد دنيانا، وتنصلح آخرتنا بابتلائنا بهم؛ فيكون التمحيص لنا ويُتّخذ منا الشهداء، أما هم فمبتَلَون مُعذَّبون بنا، نقيم عليهم الحجة، ونفسد عليهم آخرتهم، ولا يفوتنا شيء قليل أو كثير من تنغيص دنياهم عليهم؛ فلا يسلمون منا بحال.
وَقَد كُنتُ أَخشى الهَجرَ وَالشَملُ جامِعٌ
وَفي كُلِّ يَومٍ لَفتَةٌ وَخِطابُ

فَكَيفَ وَفيما بَينَنا مُلكُ قَيصَرٍ
وَلِلبَحرِ حَولي زَخرَةٌ وَعُبابُ!!

أبو فراس الحمداني.
كفى بالموت واعظا..
قبل شهرين، كان الأخ ربيع المؤذن المتطوع لمسجد التقوى (ولاية البيّض) يُصلح مكبرات الصوت بعد أن صعد لسطح المسجد الذي يتحضّر لاستقبال المصلّين لأوّل جُمُعة فيه، أثناء إصلاح ربيع لمكبرات الصوت انزلق فسقط على رأسه، ما جعله يهوي مغشيا عليه بعد خطوات قليلة؛ ليكتشف بعد قليل أنه قد ابتلي بفقدان بصره؛ غير أنه قابل ذلك الابتلاء بالصبر والاحتساب، بل واصل الأذان، وساق إليه الله مُحسنا يواسيه بعمرة إلى بيت الله الحرام، كان ربيع هناك البارحة، يتنعّم بعبق الكعبة ونسيمها، طافَ الطواف الأول مشتاقا شاكرا نعمة الزيارة التي لم تكن لتتيسر لولا ذاك الابتلاء الشديد؛ أما الطواف الثاني فلم يكد يتمّه حتى أرجع الله إلى عينيه نورهما؛ فاستعاد ربيع بصره، أما البصيرة فلم تهجره قط، فالحمد لله على نعمه وكرمه، أعطانا ربيع درسا عظيما في التطوع والصبر والاحتساب والتأدب في المصاب؛ وها هو يكون درسا في اليقين وسعة عطاء الله، اللهم إنا نسألك صبرا جميلا على ما نكره، ويقينا يهوّن علينا المصائب، وأدبا نلقى به الابتلاءات، ونسألك شفاءً من كل مرض، وعطاءً مدهشا لا يُذهل عن ذكرك وشكرك.
فَصَانَكِ حُبّي في الخيال كرامةً
وهَمّ بما يهواهُ لكن تهيَّبَا

وبعضُ الهوى كالغيث إن فاضَ يأتلِق
وبعض الهوى كالغيث إن فاض خرَّبا

أرى طيفكِ المعسول في كُلِّ ما أرى
وَحُدتُ ولكن لم أجِد منه مهرَبا

سقاني الهوى كأسين: يأسا ونعمةً
فيالكِ من طيفٍ أراح وأتعَبَا..

بدوي الجبل.
لا ينتصر الحق في الواقع مرة حتى ينتصر أخلاقيا ألف مرة، وانتصاراته الأخلاقية تلك هزائم في الظاهر يتغلب فيها الباطل ويظهر ويتمكّن؛ فيحزن لذلك أهل الحق ويبتئسون، غير أنهم سرعان ما يرجعون لاعتزازهم بمواقفهم؛ إذ لو خُيّروا ألفَ مرة بين نصرٍ حقيقي شريف وحيد بين ألفِ هزيمة، وبين انتصارات كثيرة يستجلبها غدر وتمهد لها خيانة؛ لاختاروا ذلك النصر الوحيد، لأنه حقيقي، ولأنه أكثر تناسبا مع طبائعهم النفيسة، أما أصحاب الطباع الخسيسة فلا يأنفون من التقاط اللقمة الواقعة على الأرض، المداسة بالأرجل، أو المُقدّمة إليهم باستعلاء وإذلالٍ ومَن؛ فوسائلُ تحصيلِ المأمول عندهم مُهملة، على عكس الأوائل الكِرام الذين لا يفرقون بين الغاية ووسائلها؛ ولا يميّزون بين نصرِ تحصيل الغاية، ونصرِ التوفيق لأحسن السبُل وأشرف الوسائل الموصلة إليها؛ فإذا تحصّل لهم الشيء المرغوب بغير ما يرضونه من الحيَل والأسباب زهدوا فيه وترفعوا عن قبوله والانكباب عليه لأنه تعكَّر وما عاد في حيازته شرف، لذلك تقلُّ انتصاراتهم الظاهرة، وتكثر انتصاراتهم الباطنة، ولذلك يستعلي الظلَمَة وتكثر انتصاراتهم الظاهرة؛ غير أنها دنيئة فارغة، سرعان ما تتلاشى بظهور الانتصارات الحقيقة، التي قد تطول؛ لكنها حتمية الحصول، وإذا جاءت جلبت معها عِزًّا وعزاءات كثيرة، وبذلك نوقن، وبه نتصبّر، وعليه نبني اختيارانا للانتصارات الشريفة.
في هذا المعنى قولُ الجواهري:

تَحَفَّتْ أُبَاةٌ حِينَ لم يُلفَ مَركَبٌ
نَزيهٌ إلى قَصدٍ مِن العَيشِ يُركَبُ

وقال قبلَها:

وَلَبِسْتِ من جَورٍ وهَضمٍ مَلابِسًا
أخُو العِزِّ عنها وهو عُريَانُ يَرغَبُ

---

الأبي يختار المشي حافيا وإن طال المسير على أن يركَب في مركبٍ غير نزيه، وإن كان المشي حافيا مُتعبا مؤذيا لقديمه وكان الطريق شاقا قاسيا؛ إذ ذلك أهون عليه من المركب القذر والموقف المشين ومسبّة الدهر وعار السنين..

كما يقبل ذلك الأبيُّ العري والفقر وشظف العيش على أن يلبس ملابس الجور والهضم والإذلال؛ فبرد الشتاء وقسوة الجوع أهون على نفسه من صقيع الذل ومرض المهانة والإحساس بالانتقاص إذا أصابَ نفسَ الشريف.
وقد يطلبُ الإنسان ما يضرُّه في المآل، بما يضرُّ في الحال، من هَمٍ وتعب نفسي وجسدي، وهذا من أشد أنواع الخسارة، إذا لم يكن أشدها.