محمد أكرم الندوي
4.76K subscribers
905 photos
5 videos
56 files
966 links
Download Telegram
بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة المغرب الأقصى
(15)
يوم الخميس 18 رمضان 1440هـ

بقلم: محمد أكرم الندوي
أوكسفورد

وضع المسلمين في الهند:
قرأت وردي من كتاب الله تعالى، وقد دخل قلبي هم كبير وحزن بالغ على ما حدث في الهند من فوز هذا الحزب المعادي للمسلمين، ورأيت أن أكبر سبب لمشاكلنا هو بعدنا عن كتاب الله تعالى، جعلناه كتابا فقهيا، لا نبحث فيه إلا عن أجوبة لمسائل جزئية وفرعية، فما أجهلنا بمكان كتاب الله تعالى! إنه كتاب يهدينا في الأصول قبل أن يهدينا في الفروع، ولن يجد الإنسان في حياته الفردية والجماعية، وأحزانه ومسراته، وفتوحه وهزائمه، وسعادته وشقائه، وآماله وآلامه وصفا لعلله وحلولا لها إلا في هذا الهدى الرباني، والواجب على المسلمين في الهند وفي سائر البلدان هو الرجوع إليه والتقيد به، وهو أمر صعب، لأننا نسعى دائما إلى إخضاع كتاب ربنا لأهوائنا، فإذا كان هذا هو دأبنا فما أبعدنا عن الفوز والفلاح.

مناهج المتأخرين في نقد الحديث:
وزارتنا في الفندق سيدة تركية، اسمها منورة، مع زوجها، وهي محاضرة في جامعة أنقرة، وجاءت إلى المغرب لفترة لإتمام بحث لها عن منهج الإمام الذهبي في نقد الحديث، فاستشارتني في الموضوع، فقلت: إن الإمام الذهبي علامة جليل الشأن في الحديث والتاريخ، وتعجبني إفاداته كثيرا في سير أعلام النبلاء وغيره من كتبه، ولكن ليس له منهج خاص في نقد الحديث، فإذا نشط تكلم في الحديث كلام حافظ متقن، وإذا فتر، وما أكثر ما يفتر، تساهل، ومن ثم لا أحسب قيمة لما تعود عليه كثير من الناس في تصحيح أحاديث المستدرك للحاكم بقولهم: "ووافقه الذهبي"، فكم من المناكير والشواذ والواهيات فيه سكت عنها الذهبي.
وقلت: للبخاري ومسلم منهج معين في كتابيهما التزماه التزاما دقيقا، ويشبههما بعض الشيء أبو داود والترمذي والنسائي في كتبهم، ثم انتهت المنهجية، حتى إن ابن خزيمة وهو إمام الأئمة، ليس له منهج خاص، وكذلك ابن حبان والبيهقي والحاكم إلى أن وصل الأمر إلى الذين نصبوا أنفسهم محدثين في عصرنا، فأفسدوا أمر التصحيح والتضعيف إفسادا، وأخلوا بالمنهجية إخلالا بينا، ويا ليتهم لم يقحموا أنفسهم في مجال لم يتأهلوا له، لا خبرة لهم بالرجال، ولا معرفة بالعلل، ولا نسخ لديهم صحيحة معتمدة لكتب الحديث، والبلية أكبر من أن أتعرض لها في مقالي هذا بالوصف والرد والإنكار.

خروجنا من فاس:
وكان من نيتنا أن نزور مكتبة القرويين ونشاهد بعض مخطوطاتها، ولكن وصلنا طلب من الرباط أن نتعجل العودة فإن هناك درسًا اليوم في القصر الملكي، فخرجنا من الفندق الساعة التاسعة، وأسرع السائق إسراعا، ووصلنا إلى فندقنا في الرباط قبل الساعة الحادية عشرة، فاسترحت قليلا، ثم اشتغلت بشرحي لصحيح مسلم.

الدرس:
وخرجنا من الفندق على الحافلة الساعة الثانية والنصف لحضور الدرس الحسني في القصر الملكي بالدار البيضاء، ووافيناه قبل الساعة الخامسة، وقابلت معالي السيد أحمد توفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وشكرته على الإذن بطباعة كتابي، ولقيت علماء مغاربة ممن استمعوا إلى محاضراتي ودروسي في زياراتي السابقة، وأعربوا عن فرحهم بلقائي.
وجلست في الدرس بجانب شيخنا عبد الحكيم الأنيس حفظه الله تعالى، واستفدت من بعض تعليقاته القيمة، ورأيت بيني وبينه توافقا وانسجاما، اللهم انفعني بأهل العلم، واجعلني من الصالحين.

تفرق المسلمين:
يؤلمني جدا أن تشغل المسلمين الأمور الفرعية والجزئية والخلافات المذهبية، وقد يؤدي ذلك إلى التنافر بينهم بل وإلى التباغض والتعادي ورد بعضهم البعض، وربما لا يكون الخلاف إلا ناشئا من سوء تفاهم أو اختلاف في التعبير واللفظ، ولقد كانوا في غنى عن هذا التفرق لو تفقهوا في الدين واعتنوا بأصوله من الإيمان والإسلام وتقوى الله والخوف من اليوم الآخر، والتعاون على البر والتقوى، ومن أيقن قيامه لرب العالمين صرف نفسه عن الوقيعة في غيره إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة.

الإفطار:
وجلست في الإفطار على مائدة حولها الشيخ عبد الحكيم الأنيس، والأستاذ بنيامين التركي، وشيخ من السودان معني بصحيح البخاري، اسمه عمر مسعود محمد، أستاذ في الجامعة الإفريقية، وسألته من أجازه؟ فذكر من بين شيوخه محمد ياسين الفاداني.
وسألته هل يعرف شيخنا مساعد البشير؟ فلم يعرفه، قلت: إنه يروي عن الحافظ عبد الحي الكتاني، فاستغرب ذلك جدا، وقال: لعله استجازه مكاتبة، ثم أفاض في الحديث عن طعن أحمد الغماري في الحافظ عبد الحي الكتاني.
ترجمة الشيخ:
وهو الفقيه المحدث الشيخ عمر مسعود محمد التجاني، ولد بمدينة بورتسودان في شرق السودان عام 1948م، وقضي طفولته وريعان شبابه في تلك المدينة حيث درس مراحله التعليمية الأولية والوسطى والثانوية بمدارسها، ثم سافر الي إنجلترا فدرس فيها الإقتصاد و المحاسبة و الدستور البريطاني، ودرس الفقه والتفسير والحديث والأصول واللغة على أكابر العلماء داخل السودان وخارجه، ومن أجل شيوخه الذين اجتمع بهم وصحبهم سنين متطاولة العارف بالله تعالى الشيخ يوسف ودبقوي التجاني، فقد تتلمذ له في كل شئ وقرأ عليه العلم الظاهر وإشارات العلم الباطن، وأخذ عنه جملة صالحة من علوم الفقه والتفسير والحديث، وأجازه الشيخ يوسف ودبقوي بإطلاق وأذن له في التربية والارشاد، وأخذ الطريقة التجانية في بداية أمره بمكة المكرمة عن الشيخ محمد الحافظ بن عبد اللطيف بن سالم التجاني المصري وصحبه طويلاً وانتفع به وأجازه إجازة عالية، وله التآليف المفيدة و التصانيف العديدة، منها: الرد على الإفريقي دفاعاً عن الطريق التجانية، والتجانيه وخصومهم و القول الحق، ودفاع عن التجانيين وتعليقات على رأس القلم، ورد المعتدي علي الجناب الأحمدي، وإطفاء القنديل وبيان مافيه من الكذب و الغش والتحريف والتبديل، والرد علي الفئة الطاعنة في الآداب المائة، وإقامة الحجة بأنوار المحجة، ورسالة مفتوحة الي الندوة العالمية للشباب الاسلامي، والرد على الطنطاوي وما نشره في جريدة الشرق الأوسط عن التجانية، ومنظومة آداب المريد مع شيخه: شرح و تعليق، والعارف الرباني الشيخ يوسف بقوي التجاني، والذكرى السنوية العاشرة للشيخ يوسف بقوي التجاني، ومذاكرة في حديث وفد عبد القيس، وهذا الحق: رد علي رسالة ابن الحق، وبذل الوسع في الجوب علي المسائل التسع، وبيان بطلان حديث ياويح ثعلبة، وأخطاء الالباني وأوهامه في كتاب: التوسل بانواعه و أحكامه.
يظهر من هذه العناوين إيغاله في الدفاع عن التيجانية والرد على غيرهم، ويا ليته سلك مسلكا معتدلا، وسعى للتأليف بين المسلمين بدلا من التحزب لجماعة على أخرى.

كلام حول حديث كعب بن مالك:
وتحدث الشيخ السوداني عن بحث له حول حديث كعب بن مالك في صحيح البخاري، حيث قال كعب رضي الله عنه: فجئته (أي النبي صلى الله عليه وسلم)، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك، فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة.
فقال الشيخ السوداني: استشهد البخاري بهذا الحديث على أن مرارة بن الربيع وهلال بن أمية بدريان، وتبعه الناس حتى جاء الدمياطي فنص على أنهما ليسا بدريين، وأن أهل التاريخ لم يذكروهما من أهل بدر، وذكر الشيخ أن الزهري تفرد بهذه الزيادة: أي كون مرارة وهلال بدريين، ولم يتابعه أحد ممن روى هذا الحديث، كأنه يشير إلى أن الزيادة من إدراج الزهري على عادته من الإدراج في الأحاديث.
قلت: لم أطلع على بحث الشيخ، فلعل فيه تحقيقا، وإنما أنقل هنا ما ذكره الحافظ ابن حجر: قوله: (فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا) هكذا وقع هنا. وظاهره أنه من كلام كعب بن مالك، وهو مقتضى صنيع البخاري، وقد قررت ذلك واضحا في غزوة بدر. وممن جزم بأنهما شهدا بدرا أبو بكر الأثرم، وتعقبه ابن الجوزي ونسبه إلى الغلط فلم يصب، واستدل بعض المتأخرين لكونهما لم يشهدا بدرا بما وقع في قصة حاطب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهجره ولا عاقبه مع كونه جس عليه، بل قال لعمر لما هم بقتله: وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. قال: وأين ذنب التخلف من ذنب الجس؟ قلت: وليس ما استدل به بواضح؛ لأنه يقتضي أن البدري عنده إذا جنى جناية ولو كبرت لا يعاقب عليها، وليس كذلك، فهذا عمر مع كونه المخاطب بقصةحاطب فقد جلد قدامة بن مظعون الحد لما شرب الخمر وهو بدري كما تقدم، وإنما لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم حاطبا ولا هجره لأنه قبل عذره في أنه إنما كاتب قريشا خشية على أهله وولده، وأراد أن يتخذ له عندهم يدا فعذره بذلك، بخلاف تخلف كعب وصاحبيه فإنهم لم يكن لهم عذر أصلا. والله أعلم.
قلت: وقد ذكرهما البخاري في باب تسمية من سمي من أهل بدر، وذكرهما ضمن حديث كعب بن مالك في باب فضل من شهد بدرا، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الموضع: قوله: (وقال كعب بن مالك: ذكروا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي رجلين صالحين قد شهدا بدرا) هذا طرف من حديث كعب الطويل في قصة توبته، وسيأتي موصولا في غزوة تبوك مطولا، وكأن المصنف عرف أن بعض الناس ينكر أن يكون مرارة وهلال شهدا بدرا وينسب الوهم في ذلك إلى الزهري فرد ذلك بنسبة ذلك إلى كعب بن مالك، وهو الظاهر من السياق فإن الحديث عنه قد أخذ وهو أعرف بمن شهد بدرا ممن لم يشهدها ممن جاء بعده، والأصل عدم الإدراج فلا يثبت إلا بدليل صريح، ويؤيد كون وصفهما بذلك من كلام كعب أن كعبا ساقه في مقام التأسي بهما فوصفهما بالصلاح وبشهود بدر التي هي أعظم المشاهد. فلما وقع لهما نظير ما وقع له من القعود عن غزوة تبوك ومن الأمر بهجرهما كما وقع له تأسى بهما. وأما قول بعض المتأخرين كالدمياطي: لم يذكر أحد مرارة وهلالا فيمن شهد بدرا فمردود عليه، فقد جزم به البخاري هنا وتبعه جماعة، وأما قوله: وإنما ذكروهما في الطبقة الثانية ممن شهد أحدا، فحصر مردود، فإن الذي ذكرهما كذلك هو محمد بن سعد وليس ما يقتضيه صنيعه بحجة على مثل هذا الحديث الصحيح المثبت لشهودهما وقد ذكر هشام بن الكلبي وهو من شيوخ محمد بن سعد أن مرارة شهد بدرا فإنه ساق نسبه إلىالأوس ثم قال: شهد بدرا، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم. وقد استقريت أول من أنكر شهودهما بدرا فوجدته الأثرم صاحب الإمام أحمد واسمهأحمد بن محمد بن هانئ، قال ابن الجوزي: لم أزل متعجبا من هذا الحديث وحريصا على كشف هذا الموضع وتحقيقه حتى رأيت الأثرم ذكر الزهري وفضله وقال: لا يكاد يحفظ عنه غلط إلا في هذا الموضع، فإنه ذكر أن مرارة وهلالا شهدا بدرا، وهذا لم يقله أحد، والغلط لا يخلو منه إنسان. قلت: وهذا ينبني على أن قوله: شهدا بدرا مدرج في الخبر من كلام الزهري، وفي ثبوت ذلك نظر لا يخفى كما قدمته، واحتج ابن القيم في الهدي بأنهما لو شهدا بدرا ما عوقبا بالهجر الذي وقع لهما بل كانا يسامحان بذلك كما سومح حاطب بن أبي بلتعة كما وقع في قصته المشهورة، قلت: وهو قياس مع وجود النص، ويمكن الفرق، وبالله التوفيق والله أعلم.
🌴 بصائر (١٩):
قال الخليفة العباسي الراضي بالله:
*عند تقلب الأحوال تُعرف جواهر الرجال.*
ربيع الأبرار للزمخشري (٥٧٤/١).
بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة المغرب الأقصى
(16)
يوم الجمعة 19 رمضان 1440هـ

بقلم: محمد أكرم الندوي
أوكسفورد

اجتمعت في الساعة الثامنة والنصف صباحا مع الشيخ عبد الحكيم الأنيس والأستاذ بنيامين، وتحدثنا عن المواقع المزعومة لقبور الأنبياء والصالحين وآثارهم في بلاد الشام وتركيا وآسيا الوسطى، فأضرحة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى عليهم السلام لا دليل على وجودها في البقاع التي رفعوها فيها مبنية بالحجارة ومجصصة، وعين أيوب عليه السلام مثلا يدعى كونها في حوران من بلاد الشام، وفي بخارا، وفي تركيا، ومحل أصحاب الكهف منتحل في أمكنة شتى، فقلت: إن مواضع قبور الأنبياء لا تعلم بالضبط إلا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، وقال الشيخ عبد الحكيم: ذكر العلامة أبو الحسن الندوي في تفسيره لسورة الكهف أن موقعه في الأردن، وهو أصح، وقال: لا حاجة لنا إلى أن نضبط هذه المواضع، ولا يضرنا الجهل بها، وقال نقلا عن شيخنا عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: هم بيننا أشهد من مشاهدهم، قلت: هذه كلمة ينبغي أن تكتب بماء الذهب.

الخزانة الملكيية:
ثم خرجنا في إمارة شيخنا عبد الحكيم، ملتقطين من درره وغارفين من بحره، لزيارة الخزانة الملكية الواقعة في المشور السعيد بالقصر الملكي بالرباط، فأوقفنا على البوابة، واستغرق التفتيش وقتا طويلا.
والخزانة الملكية (الخزانة الحسنية) من أهم الخزانات بالمغرب على الاطلاق ومن أغنى المكتبات الخاصة في الغرب الاسلامي، تتوفر فيها ذخيرة هامة من المخطوطات النفيسة والنادرة التي تقدر بخمسة وعشرين ألف مخطوط أو مجلد أي ما يناهز 30 ألف عنوان و40 ألف مطبوع في مختلف المعارف والعلوم وبمختلف اللغات، هذا إضافة الى 150 ألف وثيقة موجودة الآن بمديرية الوثائق الملكية التي يشرف عليها عبد الوهاب بنمنصور مؤرخ المملكة المغربية، وتتوزع المكتبة الى ثلاثة أقسام: قسم خاص بالمطالعة، وقسم خاص بالوثائق وقسم آخر خاص بالمخطوطات والكتب، ومنذ عام 1994 تم تعيين الدكتور أحمد شوقي بنبين مديرا للخزانة الحسنية.

مع الدكتور أحمد شوقي بنبين:
والدكتور أحمد شوقي بنبين صديق للشيخ عبد الحكيم، فاستقبلنا في مكتبه استقبالا حارا، وهو رجل عالم مهذب متمكن من علم المخطوط ومضطلع بصناعة التحقيق، وحدثنا عن المخطوطات وطباعاتها حديث عالم خبير، وندد بالتحقيقات وشنعها تشنيعا، فهي مليئة بالتحريفات والتصحيفات، وأكد أن تحقيق المخطوط يتطلب الإلمام بعلوم وصناعات كثيرة، يؤدي الجهل بها إلى أوهام وأخطاء فاحشة، ولو أنها جمعت في مكان لرأينا منها ما يُضحك ويُبكي، وما يذل ويخزي، وكذلك أنحى باللائمة على الدول الإسلامية إهمالها للتراث الخطي من جوانب عديدة.
ووصفتُ له عملي في شرح صحيح مسلم وأني أرغب في أن أبنيه على أقدم نسخة خطية صحيحة للكتاب، فأراني نسخة من الخزانة في غاية الجودة والنفاسة ترجع إلى القرن السادس الهجري، وسألته تصويرها لنفسي، ففعل، وجزاه الله تعالى خيرا.
وأهدى إلي ثلاثة من أعماله، أعرف بها بعد تقديم ترجمة مختصرة له:

ترجمته:
هو الدكتور أحمد شوقي بنبين، ولد في سنة 1946م بمراكش، وحصل على شهادة البكالوريا في مراكش عام 1967م، والإجازة في الآداب بميزة مستحسن في عام 1971م في كلية الآداب بفاس، ودبلوم الدراسات العليا في علوم المكتبات عام 1973م من المدرسة الوطنية العليا لعلوم المكتبات بباريس، فرنسا، ودكتوراه السلك الثالث ميزة حسن جداً من جامعة السوربون عام 1975م، ودكتوراه الدولة من الجامعة الفرنسية بدرجة مشرف جداً عام 1986م، ومن مؤلفاته: تاريخ المكتبات في المغرب، و دراسات في علم المخطوطات (الكوديكولوجيا) والبحث الببليوغرافي، والمخطوط العربي وعلم المخطوط، و معجم مصطلحات المخطوط العربي بالاشتراك مع الدكتور مصطفى طوبي، و تاريخ المكتبات الإسلامية ومن ألف في الكتب: عبد الحي الكتاني بالاشتراك مع الدكتور عبد القادر سعود.

كشاف الكتب المخطوطة بالخزانة الحسنية:
هو من إنجاز الباحث عمر عمور، وقدم له الدكتور أحمد شوقي بنبين، يقول: "ولما وليت مقاليد خزانة الكتب الملكية سنة 1994م كان وضع كشاف عام لمحتوياتها أول اهتماماتي اقتداء بمن سبقني من كبار الباحثين من ذوي الاختصاص، فكلفت خلية من خلايا هذه الخزانة بإشراف الباحث عمر عمور لوضع هذا الكشاف ... وقد أحصى الكشاف الحالي محتويات الخزانة الملكية الأصيلة وما أضيف إليها في العصر الحديث من مكتبات الخواص كمكتبات عبد الرحمن بن زيدان ومحمد بن عبد الهادي المنوني ومكتبة زاوية تنغملت..".
دراسات في علم المخطوط والبحث الببليوغرافي:
وهو من تأليف الدكتور أحمد شوقي بنبين، يقول في مقدمته: "تعالج أبحاث هذا الكتاب موضوعين من أهم المواضيع المتعلقة بالتراث العربي، لم تحظ حتى الآن باهتمام المختصين في هذا المجال، أولهما علم المخطوطات، وثانيهما البحث الببليوغرافي. ففيما يخص علم المخطوط العربي أو الكوديكولوجيا فإنه لا يزال حقلا بكرا على الرغم من بعض المحاولات الفردية التي ظهرت عند مستشرقين قلائل كتبوا بلغات أجنبية ....أما المحور الثاني المتعلق بالبحث الببليوغرافي فإنه يهدف إلى لفت النظر إلى مشكل كبير يعاني منه الباحثون من شبابنا العربي في مختلف الجامعات وعلى جميع المستويات، إن عجز الطلبة الباحثين عن العثور على مصادر أبحاثهم ومراجعها يرجع أساسا إلى عدم الإلمام ببعض الأساليب الببليوغرافية التي تعتبر اليوم ضربة لازب في البحث العلمي الحديث".
ويقول الأستاذ أحمد التوفيق في تقديمه للكتاب: "وقد سنحت للأستاذ أحمد شوقي بنبين فرصة الاحتكاك بمراكز بحث دولية في تاريخ الكتاب وعلوم المكتوب وتاريخ النصوص، الذي يعتمد على عمليات فحص تقنية للمخطوطات بصفة خاصة، ومن هذا الاحتكاك الذي يرجع إلى ما قبل عقدين من الزمن، حينما كان يدرس بفرنسا، والذي استمر على شكل تنقيبات مكتبية، واتصالات مع الفنيين المختصين، ومن هذه الفرصة وفي اغتنامها جاءت الأبحاث المدرجة بين دفتي هذا الكتاب".

مصطلحات الكتاب العربي المخطوط:
وهو تأليف باحثين بالمشاركة: الدكتور أحمد شوقي بنبين، ومصطفى طوبي، وقد صدرت له عدت طبعات، يقول الباحثان في مقدمة الطبعة الخامسة: "نقدم للقارئ الكريم اليوم الطبعة الخامسة من معجم مصطلحات المخطوط العربي، وهي طبعة مزدانة بتنقيح المادة الحاصلة في الطبعات السابقة، وموسعة بمزيد من المقابلات الأجنبية، وطافحة بأكثر من أربعمائة مصطلح علمي جديد في هذا الباب، منضافة إلى ما وضعناه في الطبعات السابقة، ومذيلة بثبت ببليوغرافي مفيد كنا عدمناه فيما أسلفنا من البحث، اجتهدنا في تأثيل المصطلح قدر المستطاع، وتوخينا هذه الأثالة من كتب التراث القائلة في بعض الفنون الوراقية القريبة من علم المخطوط بمفهومه الصميم، حتى إذا لاح لنا من الأمر عجز، وتقطعت بنا السبل في التماس المصطلح المناسب أبقينا على التعريب، والمجاز، والتركيب، وعلى عناصر أخرى في رفد اللغة العربية أسلفنا القول فيها في الطبعات السالفة".

صلاة الجمعة:
خرجت مع الشيخ عبد الحكيم لأداء صلاة الجمعة في مسجد رضوان قريبا من الفندق، وتصدق الشيخ في الطريق على بعض المتسولات، ثم حكى لي أن معروفا الكرخي مر بسقاء، يَقُول: رحم اللَّه من يشرب وَكَانَ صائما فتقدم، فشرب، فقيل لَهُ: ألم تكن صائما؟، فَقَالَ: بلى، ولكني رجوت دعاءه.
ووصلنا إلى المسجد مبكرين فصليت ركعتين وجلست أقرأ من كتاب الله تعالى إلى أن ظهر الخطيب، وهو ممن قرأ علي الأوائل واستجازني قديما، فرغب الناس في السعي في العبادة في رمضان، وإحياء لياليه، والجد في ليلة القدر، وقال: لو عرف الناس حقيقة الدنيا لما تحسروا على فوات شيء منها، ولو عرفوا حقيقة الآخرة لما رضوا بفوات شيء منها.
الشيخ حمزة الكتاني:
وزارني في الساعة الخامسة في غرفتي في الفندق أخونا العالم البحاثة الدكتور محمد حمزة الكتاني مع أخيه حسين الكتاني، وهو أستاذ في بعض جامعات أمريكا.
وحمزة ابن الحسب الوضاح والشرف الجم، قد مضت ترجمته، وأفادني بمشاريعه العلمية مبشرا بأن شرح جده شيخنا محمد المنتصر الكتاني رحمه الله لمسند الإمام أحمد سيطبع قريبا إن شاء الله تعالى، وذكر أن بعض الناس طعن في جده وفي غيره من العلماء، فقلت: ما أشقاهم: يقعون في الصالحين وليسوا منهم، وغض الأنذال من قدرهم دليل على رفعة شأنهم، ولا بد للحسناء من ذام، ولا تعجبن من الدعوى بلا حجة ممن يستعذب المين والكذب، فكل إلى حيزه ينجذب وإلى فيئته يفيء، ومن لزم الحقد والحسد لم يزل في كمد، وأغرقته في بحارها الكرب، ومن لم يوال الله وأولياءه فوليه الطاغوت.
وأهدى إلي بعض الكتب: (الفتوحات القيومية في شرح الصلاة الأنموذجية) لمحمد الباقر بن سيدي محمد الكتاني، و(يواقيت التاج الوهاج في قصة الإسراء والمعراج) لمحمد الباقر الكتاني، و(ترجمة الشيخ محمد الكتاني) لمحمد الباقر الكتاني، و(سيرة العلامة محمد الناصر الكتاني) لأسامة محمد الناصر الكتاني، و(من أعلام المغرب في القرن الرابع عشر) لعبد الرحمن بن محمد الباقر الكتاني، و(كيف نشأ التصوف في الإسلام) للحافظ محمد عبد الحي الكتاني، أعرف هنا بالثلاثة الأخيرة منها تعريفا موجزا:
سيرة العلامة محمد الناصر الكتاني، لأسامة محمد الناصر الكتاني، قدم له الدكتور أحمد شوقي بنبين، يقول في تقديمه: "ليس هذا الكتاب سيرة ببليوغرافية فقط، تحدث فيها الابن البار عن حياة والده وأعماله وعما ألف عنه وما قيل فيه من كلام شعرا ونثرا، بل هو علق نفيس ومصدر أساس ووثيقة تاريخية نادرة لمن أراد الإلمام بتاريخ المغرب والمشرق في الثلثين الأولين من القرن العشرين".
ومن أعلام المغرب في القرن الرابع عشر، لعبد الرحمن بن محمد الباقر الكتاني، تحقيق الدكتور محمد حمزة الكتاني، يقول وهو يعد أهم مزايا الكتاب: حوى تراجم لا توجد مفصلة إلا فيه، وأغلب تراجم علماء المغرب ركزت على علماء فاس والرباط وسلا وشيئا ما تطوان، أما هذا فقد ذكر علماء خارج هذه المناطق، وتكلم المؤلف هنا عن أفكار المترجمين وأعمالهم الإصلاحية بصورة فكرية حركية، وذكر المؤلف دوره وأعماله ضمن التراجم، ومختلف الأحداث التي سار بها المغرب في تلك الفترة، واتسمت التراجم بذكر أفكار المؤلف وتوجيهاته وانتقاداته لواقعة، فهو كتاب تاريخ وفكر، وهذا الصنف من التأليف نادر في بابه، ويعتبر هذا الكتاب مرجعا لكتب ابن الحاج وابن سودة، وعنه كانوا يستفيدون في عدة تراجم بعزو وبغير عزو.
وكيف نشأ التصوف في الإسلام، للحافظ محمد عبد الحي الكتاني، دراسة وتحقيق أحمد الإدريسي البركاني، يقول الدكتور محمد حمزة الكتاني في تقديمه للكتاب: "يسرني التقديم لهذا العلق النفيس، والكتاب الجليل، الذي وإن صغر حجمه، فقد كبر قدره، وضم بين ثناياه الدر النفيس، والمسك العتيق، مما لا يوجد مجموعا في مكان، ولا محصورا تحت عنوان، كل ذلك بعبارة سلسلة، وكتابة جامعة، حتى لكأنه من السهل الممتنع، ويصح أن يوصف بعنقاء مغرب".
"وذلك كتاب: "كيف نشأ التصوف في الإسلام، وظهرت الطرق الصوفية، واختلفت واتفقت، وتاريخ الزوايا في الشمال الإفريقي، وتسمية الظاهر منها، وآثارها في الدعاية للإسلام، وثمراتها الملموسة" لحافظ المغرب وإمامه، وشيخه وضرغامه، الجامع لشتى العلوم، المتضلع منها على الخصوص والعموم، الفريد الذي لم يعزز عصره بثاني، أبي الإسعاد وأبي الإقبال عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني الإدريسي الحسني المتوفى بمدينة نيس عام 1382هـ، شيخ الطريقة الكتانية في عصره، روَّح الله روحه، وأعلى في الجنان بحبوحه".

ليلة القرآن الكريم:
وشهدنا اليوم الاحتفال بليلة القرآن الكريم في معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، وجرت العادة هنا منذ سنين بتكريم قارئي كتاب الله تعالى وقارئاته ومقرئيه ومقرئاته، واحتفال الليلة هو الاحتفال الرابع عشر، وكان عرض البرنامج في غاية الروعة والإبداع، وعظيم الرونق والإتقان، أخذ بمجامع القلوب وسبى العقول والنفوس، اطلعنا فيه على تاريخ القراءات في هذا البلد منذ أن ورده أصحاب نافع ونشروا به قراءة كتاب الله تعالى، وكيف أن رواية ورش غلبت الروايات كلها، وعجبنا من منهج تدريسهم على اللوحات والتحفيظ عليها، ثم استمعنا إلى قراءة الفائزين والفائزات، وشهدنا توزيع الجوائز على يد معالي السيد أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، واستمرت المظاهرة أكثر من ساعتين، مختوما بإنشاد مديح جماعي ثم قراءة جماعة على الطريقة المغربية، وعدنا إلى الفندق قبل الواحدة بقليل، ولقد سرني جدا تشجيع المملكة العناية بكتاب الله تعالى حفظا وفقها.
بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة المغرب الأقصى
(17)
يوم السبت 20 رمضان 1440هـ

بقلم: محمد أكرم الندوي
أوكسفورد

الخروج إلى طنجة:
وخرجنا إلى طنجة في الحادية عشرة إلا الربع، وبينها وبين الرباط أكثر من مئتي كلومتر، مررنا في طريقنا بحقول خضراء وبساتين جميلة غناء، وأودية جاذبة عيون الناظرين إليها، تتخللها أراض جرداء قاحلة، وبيوت للناس ومساكن مبعثرة هنا وهناك، وأسرع السائق بنا إسراعا كبيرا، ودخلنا ضواحي طنجة حوالي الساعة الواحدة إلا الربع.

مطار ابن بطوطة:
ومررنا في الطريق بمطار ابن بطوطة، وهو محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة (703-779/1304-1377)، خرج من طنجة سنة 725هـ، وطاف بلاد المغرب ومصر والحبشة والشام والحجاز وتهامة ونجد والعراق وفارس واليمن وعمان والبحرين وتركستان وما وراء النهر وبعض الهند والصين الجاوة وبلاد التتار وأواسط أفريقيا، واتصل بكثير من الملوك والأمراء فمدحهم - وكان ينظم الشعر - واستعان بهباتهم على أسفاره، وعاد إلى المغرب الأقصى، فانقطع إلى السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين، وأقام في بلاده. وأملى أخبار رحلته على محمد بن جزي الكلبي بمدينة فاس سنة 756هـ وسماها تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ترجمت إلى اللغات البرتغالية والفرنسية والإنجليزية، ونشرت بها، وترجم فصول منها إلى الألمانية ونشرت أيضا. كان يحسن التركية والفارسية. استغرقت رحلته 27 سنة توفي في طنجة، حيث يوجد ضريحه بالمدينة القديمة. لقبته جامعة كامبريدج في كتبها وأطالسها بـأمير الرحالة المسلمين الوطنيين، فإنه قطع أكثر من 75,000 ميل (121,000 كم)، وهو رقم لم يكسره أي رحالة منفرد حتى ظهور عصر النقل البخاري، بعد 450 سنة.

مدينة طنجة:
هي عاصمة الشمال المغربيّ، وتُعدّ أقرب المُدن الأفريقيّة العربيّة لقارة أوروبا، كما تتميّزُ بمكانتها المهمة في المغرب؛ بسبب عدد سُكّانها الكبير والمجالات السياسيّة والصناعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة الخاصة بها، وتقع طنجة في الجهة الشماليّة من المغرب، وتطلُ على جهتين بحريّتين وهما المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط في الجهة الشماليّة الغربيّة من قارة أفريقيا، ويُؤثرُ فيها مناخٌ معتدل متوسطيّ، ويكون فصل الشتاء فيها رطباً وبارداً، وفصل الصيف جافاً ودافئاً.
ساهم الموقع الاستراتيجيّ والتاريخي لمدينةِ طنجة في أن تكونَ نقطة اتصال بين حضارات مختلفة؛ حيث استعمرتها العديد من الشعوب عبر التاريخ، مثل الوندال، والبونيقيين، والرومان، والفينيقيين، وغيرهم من الشعوب الأُخرى، وتوجد في أراضي طنجة الآثار والمواقع التاريخيّة التي تشهد على وجود هذه الشعوب فيها، وفي عام 711م وصلها الفتح الإسلاميّ فأصبحت ممر عبور جيش المسلمين إلى أراضي إسبانيا بقيادة طارق بن زياد؛ ممّا أدّى إلى فتح الأندلس.
تميّزت مدينة طنجة في عام 1471م بدورٍ مهمٍ جداً في مجال التبادل التّجاري بين البرتغال والعرب؛ ممّا أدّى إلى زيادةِ اهتمام الدول الأوروبيّة التي تسعى إلى احتلال المغرب بطنجة نظراً لأهميتها ومميّزاتها، فسيطرت عليها إنجلترا أثناء حُكمِ الأمير تشارلز الثاني، ومع الوقت تحولت إلى مرفأ سُفنٍ نتيجةً لوجود القراصنة فيها، ولكن استطاعت مدينة طنجة العودة إلى أهميتها السابقة وتميّزها بشكلٍ تدريجيّ
في الفترة الزمنيّة بين 1911م و1912م وُقِّعَ بروتوكول دوليّ لطنجة، فصارت بعام 1923م منطقةً دوليّة مع إقليمها، وحُكِمت طنجة بالاعتماد على اتفاقيّة عام 1925م التي جمعت بين مجموعة من الدول الكُبرى وسُلطان المغرب، وفي سنة 1929م اتفقت فرنسا وإسبانيا وإنجلترا على صياغة اتفاقية لإدارةِ مدينة طنجة، ولكن حرصت إسبانيا على أن تُحافظ على مُراقبة طنجة؛ ممّا أدّى إلى تجاوزها للاتفاقية البروتوكولية الدوليّة، وفي سنة 1956م استطاعت إسبانيا أن تلغي البروتوكول الدولي المُشرف على المدينة، وعادت طنجة لاحقاً في السنة ذاتها واحدةً من المُدن المغربيّة، وتُعدّ مدينة طنجة في العصر الحديث من أهمّ المُدن الثقافيّة والتجاريّة والزراعيّة والصناعيّة في المغرب، وفي عام 1962م أُسّس فيها مرفأ تجاري، كما تحتوي على الكثير من الحدائق، والأماكن السياحيّة، والمعاهد التعليميّة، والمصانع.
تضم مدينة طنجة مجموعةً من الأماكن التاريخيّة المهمة، مثل الحصون، والقصور، والأسواق، والمساجد، والكنائس، والأسوار، وغيرها من المباني الأُخرى التي تُشكّل معالم مدينة طنجة القديمة والحديثة، وفيما يأتي معلومات من أهمّها:
أسوار طنجة العتيقة: هي أسوار يصل طولها إلى 2200م وتُحيط بخمسة أحياء تعود لمدينة طنجة القديمة، وهي بني إيدر، وجنان قبطان، والقصبة، وواد أهردان، ودار البارود، وقد مرّ بناء هذه الأسوار بمجموعةِ مراحل، وتُشير التوقعات إلى أن بناءها كان فوق أسوار مدينة تينجيس الرومانيّة القديمة، وكان هناك العديد من أعمال البناء والترميم لهذه الأسوار من عام 1661م إلى عام 1684م أثناء فترة الحُكم الإنجليزيّ، وفي القرن الثامن عشر للميلاد انتشرت عدّة أبراج على هذه الأسوار، مثل برج السلام وبرج عامر.
وقصر القصبة: ويُعرَّف أيضاً باسم دار المخزن، ويمتلك مكاناً استراتيجيّاً في القسم الشرقيّ من القصبة، واهتمّ ببنائه السلطان مولاي إسماعيل على بقايا وأطلال قلعة إنجليزيّة قديمة، ويشمل قصر القصبة عدّة مرافق، مثل مسجد، ودار كبيرة، وبيت مال، وسجون، وحدائق، وفي عام 1938م تحول إلى متحف.
والجامع الكبير: هو مسجد يوجد بالقُربِ من سوق الداخل، وحُوِّلَ إلى كنيسةٍ أثناء احتلال البرتغال لمدينة طنجة، وفي عام 1684م عاد مسجداً وأُجريت عليه الكثير من أعمال البناء والترميم والتوسيع، ويتميّزُ الجامع الكبير باستخدام الزّخارف المصنوعة من الفسيفساء والنقوش والكتابات على الأخشاب.
ومسجد الجديدة: هو جامع يُعرَّف أيضاً باسم جامع النخيل أو مسجد عيساوة، ويحتوي على منارةٍ مزينةٍ بزخارف من الفسيفساء.

ندوة علمية:
وحضرت ندوة علمية حول "التصوف وبناء السلم العالمي" احتضنها مركز التوثيق والأنشطة الثقافية بطنجة التابع للمندوبية الجهوية للشؤون الإسلامية لجهة طنجة تطوان الحسيمة، منظمة من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمركب الإداري والثقافي للأوقاف بطنجة.
تحدثت في كلمتي عن صلتي بهذه المدينة، إذ أجازني ثلاثة من مسنديها: حسن بن محمد بن الصديق الغماري، وإبراهيم بن محمد بن الصديق الغماري، وعبد الله بن عبد القادر التليدي، رحمهم الله تعالى، وعن صلة الهند بطنجة، إذ هي مدينة ابن بطوطة ولد ونشأ فيها، وقضى زمنا غير قصير في الهند، ثم قدمت نبذة عن تاريخ التصوف في الهند وسلاسله المختلفة: الجشتية، والسهروردية، والقادرية، والنقشبندية، والشطارية، والكبروية، والشاذلية، والمغربية، وأسهبت في الإخبار عن الطريقة المغربية التي ترأسها الشيخ أحمد كتو، وألقيت ضوءًا كافيا على وضع الهند أيام الملك المغولي جلال الدين محمد أكبر في نهابة القرن العاشر الهجري، وبداية القرن الحادي عشر، وابتداعه الدين الجديد باسم الدين الإلهي، وأن الإمام أحمد بن عبد الأحد السرهندي النقشبندي وقف في وجه هذه الفتنة الجديدة من غير قتال ولا عنف، بل بطريق سلمي، فكاتب الأمراء والوزراء، وغير إتجاهاتهم الفكرية، وأحدث ثورة سلمية أدت إلى تحسن الوضع حتى أصح الملك الصالح أورنك زيب عالمكير رحمه الله ملك الهند وحكمها من أقصاها إلى أقصاها خمسين سنة.
وذكرتهم بأهمية السلام، وقلت: لهم إن العلم في بلادكم مستمر منذ أن جاءه الإسلام، وذلك بفضل السلام فيها، واعتبروا بالبلدان الأخرى: الكوفة والبصرة وبغداد وقرطبة وبخارا وسمرقند ودمشق والقاهرة ونيسابور وإصفهان، إذ التقليد العلمي لم يستمر بها لتقلب أحوالها وعدم الاستقرارية فيها.
وقام مدير المركب الإداري بجولة بالضيوف خلال مرافق المركز، والتقيت هنا بصاحبنا المقرئ الشيخ محمد ححود التمسماني، وقد مضت ترجمته، واتفقنا على أن نلتقي قبل العشاء، ثم نزور أخانا الكريم خالدا السباعي إن شاء الله تعالى.
وممن التقينا هنا بعض الغماريين وأعرب عن سروره بأن لي إجازة من حسن وإبراهيم الغماريين، وتعرف إلي الفاضل محمد بن عبد الله التليدي، وقدم إلي رسالة من تأليف والده، فذكرت له استجازتي من والده، ففرح فرحا كبيرا.
الشيخ عبد الله بن عبد القادر التليدي:
وهو العلامة المحدث المربي الشيخ السيد أبو الفتوح عبد الله بن عبد القادر بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد السلام التليدي الحسني الطنجي المعربي المالكي شيخ الطريقة الشاذلية أحد العلماء الربانيين. يتصل نسبه بجد أولاد التليدي سليمان بن محمد بن علي بن عيسى بن موسى بن إسماعيل بن حمزة بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن سيدي نابت بن مهدي بن خالد بن عمران بن صفوان بن يزيد بن خالد بن سيدي عبد الله بن مولانا إدريس دفين فاس بن مولانا إدريس فاتح المغرب بن مولانا عبد الله الكامل بن مولانا الحسن المثنى بن مولانا الحسن السبط بن الإمام علي ومولاتنا فاطمة الزهراء بنت سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
ولد بقرية الصاف من قبيلة بني جُرْفَط عمالة تطوان سنة ست أو سبع وأربعين وثلاثمائة وألف، وبعد ستة أشهر من ولادته انتهت الحرب العالمية الأولى لتبدأ تداعياتها في المستعمرات، فكان المغرب من جملة الدول المستهدفة من طرف الفرنسيين والإسبان.
نشأ الشيخ في زمن المقاومة والجهاد بعدما احتل الإسبان بعض الشواطئ المغربية في الشمال واتفاق معظم القبائل الشمالية على قتال الكفرة المستعمرين، وكان والد الشيخ رضي الله عنه في طليعة هذه الحركة الجهادية المباركة إذ لم يرض بالاستسلام والخنوع كغيره من الخونة والجبناء رغم قوة العدو وجبروته. ظل والده رحمة الله عليه مرابطا في الجبال المحيطة بدشار بني جرفط رافضا الإذعان وتسليم السلاح بينما كان الخائن عبد القادر أفلاذ قد عمل للإسبان الذين ما فتئوا أن عينوه قائدا على تلك المنطقة. وبخيانة من أحد أقربائه سقط سيدي عبد القادر التليدي في يد المستعمر وأدخله الطاغية أفلاذ السجن ليمارس عليه حيله البشعة وتهديداته.. فعرض عليه النجاة من الحبس إن كتب له أرضا باسمه كانت تدعى الهداوية، وهي أرض واسعة كان يمتلكها والد الشيخ كابرا عن كابر،.. واشترط المغتصب أن تكون الكتابة عدلية، خرج سيدي عبد القادر التليدي من السجن آثرا كرامته على الدنيا الفانية ومكتفيا بما كان يمتلكه من أرض أخرى صغيرة وماشية، إلا أن المجاعة قد حطت رحالها في المنطقة فاضطر لبيع ما كان يمتلكه للهروب بعائلته من الفقر والفاقة، كانت تلك هي ظروف الأيام الأولى التي عاشها الشيخ سيدي عبد الله وسط أسرته وهو ما زال رضيعا.. ظروف الحرب والمجاعة والمطاردة.
حفظ القرآن الكريم وقرأ على كبار علماء طنجة، ولازم شيخه الحافط أبا العباس أحمد بن محمد الصديق الغماري، وقرأ عليه كثيرًا واستفاد منه، وتخرج به في علوم الحديث، وروى عنه وعن شقيقه العلامة عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري، وشقيقهما العلامة عبد العزيز بن محمد بن الصديق الغماري، والعلامة بركة سلا وصالحها محمد الباقر الكتاني، والعلامة الداعية شيخ تلمسان علي البوديلمي، والعلامة المسند المحدث المعمر محمد الشاذلي بن محمد الصادق النيفر التونسي، والعلامة شيخ الطريقة الشاذلية بمكة المكرمة الصالح المعمر محمد بن إبراهيم الفاسي، والمسند العلامة محمد ياسين الفاداني، والعلامة مفتي الشافعية بمكة المكرمة عبد الله بن سعيد اللحجي الحضرمي، ومجيزنا العلامة المحدث محمد عاشق البرني، ومجيزنا السيد محمد المنتصر الكتاني، وشيخنا عبد الفتاح أبوعدة، ومجيزنا العلامة عبد الرشيد النعماني، وصالح أحمد الأركاني المكي.
واستقل بنفسه ولزم بيته وعكف على المطالعة والتأليف، وأنشأ مدرسة للعلوم الدينية في طنجة، وأقرأ فيها كثيرًا من التلاميذ، ومن مؤلفاته: تهذيب سنن الترمذي، وتهذيب الخصائص الكبرى، ونصب الموائد، وغيرها.
أرسل إلي إجازته لي مرفقة مع ثبته في التاسع والعشرين من رجب سنة ثمان عشرة وأربع مائة وألف، ولقيته في مكة المكرمة الساعة العاشرة والنصف ليلة الجمعة السادس من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف، وسمعت منه الحديث المسلسل بالأولية، وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم … عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" هذا الحديث رويته عن جماعة، منهم السيد الحافظ أحمد بن الصديق الغماري وشقيقاه عبد الله وعبد العزيز، ومحمد الباقر الكتاني، والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي، والشيخ المسند محمد ياسين الفاداني، وآخرين مسلسلا إلى سفيان بن عيينة.
وأجاز لي ولأولادي، وزوجتي، وأخي وأخواتي في استدعاء في الثامن والعشرين من رجب سنة ست وعشرين وأربع مائة وألف، وأجاز في استدعاء الأخ أحمد عاشور لجميع من ذكر فيه (وفيه اسمي) وآبائهم وإخوتهم وأزواجهم وذرياتهم ليلة العاشر من رمضان المبارك سنة أربع وعشرين وأربعمائة وألف.
زاد المتقين:
اسمه الكامل (زاد المتقين من أذكار وأدعية سيد المرسلين) جمع وانتقاء شيخنا الحافظ عبد الله التليدي، يقول ابنه محمد في تقديمه للكتاب: "ولم أزل – وأنا ظل لوالدي رحمه الله – أراه كثير التبتل، دائم الذكر، قائم الليل، باكيا لربه تعالى، وهي مدارج أولياء الله تعالى في سلوكهم إلى الله، وكتاب (زاد المتقين) الذي انتقاه والدنا رضي الله عنه من فصول الأذكار والدعاء، وعمل اليوم والليلة، في كتب السنة والحديث، والتزمه وردا وردا، هو خير تذكار لرجل كان استثناء علما ونسكا".
ويقول شيخنا المؤلف رحمه الله في تقديمه له: "وهذه أذكار وأدعية وابتهالات، جمعتها وانتقيتها من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وجعلتها وظيفة لي، ثم لمن شاء الله، وقد جمعت فيها كل أنواع التوجهات، من تلاوة وتوحيد، وحمد لله عز وجل، وتمجيد ومدح وثناء على الله، وتنزيه وتعظيم له، والافتقار إليه والتذلل له والاستعانة به، وإخلاص العبودية له، والاستعاذة به من شر الدنيا والآخرة، وسؤاله خير الدارين، والصلاة والسلام على حبيبه وغير ذلك".

مغارة هرقل:
ثم تجولنا في طنجة، وزرنا مغارة هرقل، ويظهر أن 60% من بنيان المغارة غير طبيعي، وهي من أكبر المغارات بالقارة الأفريقية، واكتشفت عام 1096 ميلادية، وتحولت إلى مقصد سياحي، يبحث فيها البعض عن رهبة الأساطير، والتمتع بالتقاء أمواج البحر المتوسط مع تيارات المحيط الأطلسي، وتشد بوابة المغارة الأنظار؛ إذ تبدو كأن الطبيعة نحتت خريطة القارة السمراء على مدخلها، الذي يسمح للزائر بالإطلالة على مضيق جبل طارق، وتلاحم البحر الأبيض المتوسط مع المحيط الأطلسي، يقال: إن اسم المغارة "هرقل" يرجع لبطل من الأبطال اليونانيين الأسطوريين، الذي مكث في المغارة وتزوج من سيدة اسمها "تينجا".

رأس سبارطيل:
وزرنا رأس سبارطيل، وهو أحد أبرز المناطق السياحية هنا، يضم ساحات شاطئية وغابوية، يقع في قمة صخرية جبلية على الساحل المغربي، جنوب مضيق جبل طارق، ارتفاعها 315 مترا، وتعد من أقدم منارات العالم كما أنها أوّل منارة ضمن شبكة المنارات البحرية التاريخية في المغرب التي تبلغ 39 منارة، وتشكل ملتقى لأمواج البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، لكونها آخر نقطة في شمال القارة الأفريقية المطلة على المحيط الأطلسي، ووقفنا عند نقطة التقاء البحرين، متذكرين إعجاز القرآن الكريم: "مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان".
ولعبت هذه المنارة أدوارا مهمة في مجال الملاحة البحرية بمنطقة مضيق جبل طارق الذي يطل المغرب عليه، ويُعد من الممرات البحرية الدولية الرئيسية، خاصة في وقت تعاظمت فيه أطماع القوى الاستعمارية الكبرى عند نهاية القرن الـ 19 وبداية القرن العشرين الميلادي. ولعبت دورا مهما في مجال التشوير (الاستدلال) البحري لقرن ونصف القرن.
وشهدت منارة رأس سبارطيل عبر تاريخها العديد من التحولات التقنية بدأت عام 1931 بتثبيت جهاز بصري بقوة تناهز عشرين ألفا من الشموع العشرية، لتوفير نظام متكامل لعدسة ضوئية بسعة كبيرة، كما تم بين عامي 1933 و1937 إنشاء جهاز صوتي يستعمل استثناء بالأجواء الغائمة، ووضع جهاز صوتي آخر يساعد السفن العابرة على تحديد موقعها.
بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة المغرب الأقصى
(18)
يوم الأحد 21 رمضان 1440هـ

بقلم: محمد أكرم الندوي
أوكسفورد

الليلة الحادية والعشرون من رمضان:
مضت أيام الله بسرعة، ودخلنا في العشر الأواخر من رمضان الأبرك، وأسعد بالذين شمروا فيه عن ساق الجد، وتفرغوا لعبادة ربهم وذكره، وتجنبوا الآثام والمعاصي، واستغفروا لذنوبهم، وطهروا أنفسهم من النجاسات الباطنة، فصفت عقولهم وزكت قلوبهم، وحينما أحاسب نفسي أجدني بمعزل عنهم، ولا أرى لي شافعا إلا أني أحب الله ورسوله والذين آمنوا، ومن أحب قوما فهو منهم، ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يا نفس ابكي على عمرك المنقضي الذائب، ونُوحِي على عملك الضائع الخائب، ولا تتعلقي بحاصل الطمع الكاذب، وعودي إلى وعيك ورشدك، وتذكري ميثاقك وعهدك، وتوبي إلى ربك توبة الخاشعين، واهتمي بخاصة أمرك، قال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: "إنَّ أولَ ما أُحذّرك نفسك" (محض الصواب (٢٩٩/١)، ولا تفتشي عن عيوب غيرك، قال التابعي الجليل بكر بن عبدالله المزني البصري (ت: ١٠٨): "إذا رأيتم الرجلَ موكلاً بعيوب الناس، خبيراً بها، ناسياً لعيبه، فاعلموا أنه قد مُكِرَ به". (صفة الصفوة (٢٤٩/٣، ولواقح الأنوار ٣٥/٢).

مسجد الإمام الشاطبي:
ووافانا الأخ الكريم محمد ححود في الفندق، وهو أخ مهذب الأفعال، وصافي السريرة، ونبيل النفس وحسن الأخلاق، فصحبناه إلى مسجد الإمام الشاطبي حيث يصلي بالناس التراويح، يقع المسجد في حي مسترخوش، وأسس فيه الشيخ سيدي مصطفى البحياوي الإدريسي الحسني معهد الإمام الشاطبي للقرآن وعلومه، يدرس فيه طلبة كثيرون، ويقيم به سبعون طالبا أكثر، يوفر لهم المعهد السكن والطعام والتعليم مجانا، وعرفني الأخ محمد ححود على الشيخ محمد بو عربي الرجل الثري المحسن الذي تحمل نفقات المعهد كلها، وتخرّج من هذا المعهد جمع من خيرة الأئمة والمقرئين والدعاة والباحثين في العلوم الإسلامية و الأساتذة، ومن بينهم صاحبانا الشيخ محمد ححود، والشيخ خالد السباعي.
تآنست بإمام المسجد، وهو الشيخ مصطفى أقبيب، وصلينا خلفه العشاء، ثم صلى بنا الأخ ححود التراويح ثمان ركعات في قراءة متقنة بصوت شجي، بارك الله فيه ونفع به، وعرَّفني بعد الصلاة بأبيه الكريم الشيخ أحمد ححود حفظه الله تعالى، الرجل المقرئ الصالح، فذكَّرته أن يحمد الله على أنه وهبه هذا الابن العالم الرشيد الجامع بين القراءة والتجويد وعلم السنة والحديث.

الفرائد السنية:
وأهدى إلي الأخ محمد ححود كتاب (الفوائد السنية من الأحاديث الواردة في القسطنطينية مدينة إسطنبول اليوم المسندة من طريق الشيخ نظام يعقوبي البحريني، ومعه الجواهر الزكية في الأحاديث الواردة في القسطنطينية) كلاهما من تخريجه، يقول في مقدمته: "وقد كان شيخنا عالم البحرين ومسندها فضيلة الدكتور الشيخ نظام يعقوبي البحريني – حفظه الله تعالى ونفع به العباد والبلاد – كتب جزءا لطيفا فيه عشرة أحاديث وردت في مدينة إستانبول قبل عشرين سنة، وألقاه عصر يوم الجمعة الموافق لـ 30/5/1997م بمدينة إستانبول في المؤتمر العالمي الثاني لفتح إستانبول الذي دعت إليه بلدية إستانبول في الفترة ما بين 30-31 مايو 1997م، ثم طبع الكتاب بدار البشائر الإسلامية ببيروت، لبنان عام 1419هـ الموافق لـ 1997م، وانتشر الكتاب ونفع الله به".
"ثم شاء الله عز وجل أن يقرأه مخرجه الشيخ نظام يعقوبي على الشيخ العلامة المعمر محمد أمين سراج الحنفي التركي، وذلك صحبة بعض الأحباب والفضلاء، كالشيخ المحقق محمد بن ناصر العجمي – حفظهم الله تعالى جميعا، ونفع بهم، يوم السبت 10 صفر 1440هـ الموافق لـ 19 أكتوبر 2018، فأعجب الشيخ محمد أمين سراج الحنفي الإستانبولي بالجزء المقروء، لذلك اقترح علي الشيخان الفاضلان – يعقوبي والعجمي – إعادة نشر الجزء، لكن بإضافة بعض الأحاديث الواردة في فضل إستانبول، مع إسنادها من طريق الشيخ نظام، خاصة عن شيوخه الأحناف، بمناسبة أن أهل إستانبول ويوخها أحناف، فلبيت طلبهما، وأسعفت رغبتهما، لعل الله ينفع بهذا الجزء، كما نفع بأصله".

مسجد محمد الخامس:
ومررنا في طريقنا إلى مسجد الإمام الشاطبي والعودة منه بمسجد محمد الخامس، وهو أكبر مسجد في طنجة، وشارعه عامر لاسيما في ليالي رمضان.
دار الحديث الكتانية:
ثم زرنا الأخ خالد السباعي في دار الحديث الكتانية، واستقبلنا محتفيا بنا، وانضم إلينا الأستاذ الأديب مصطفى الهاشمي، وهو من التجار الأثرياء، والمحبين للعلم والعلماء، و الأخ السباعي ذكي الجنان، طلق اللسان، معني بما له من شأن، صاحب جد وعزيمة، شديد بأعباء العلم كاهله، يطلب الأمل البعيد فيدنو عليه بعده، وقلما يسوَّى به أحداث عصرنا، وله من البحث والتحقيق نخوة واعتزاز، وهجوم على أمور تستعصي على الكبار، وله في أعماله معينان: همم عالية، ومطامح غالية، وحدثنا عما تجدد له من طرف ونوادر عن الحافظ عبد الحي الكتاني، ومحبته له عجيبة، وقد خدمه ما لم يخدمه أحد عالماً من علماء عصرنا، يبحث عن آثاره ويحفظها وينشرها، فدوره ينبغي أن يعرف ويذكر، وهيهات أن ينسى وينكر، وأثنى على الشريف محمد حمزة الكتاني في مساعدته إياه ثناء ممتن معترف بالفضل.
ولقد أدهشتني كثرة إصدارات دار الحديث الكتانية، إذ نشرت أكثر من خمسين كتابا ومائة كتاب خلال أربع سنوات، محققة ومتميزة بالجودة والروعة، وأهدى إلي الأخ خالد كتبا أغلبها من طباعته: (دليل الأسماء العربية القديمة والحديثة) لشيخنا المجيز الصديق الوندة، والكراسي العلمية في رباط الفتح مع الإجازات والختمات له أيضًا، و(الإسلام في سبع آيات) الفاتحة منهاج حياة، دراسة تحليلية لمقاصد سورة الفاتحة، للأستاذ الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي، و(المسألة المسترشدية مع ما انضم إليها في الأذان) تأليف الإمام الفقيه أبي الحسن عباد بن سرحان بن مسلم المعافري الشاطبي المتوفى سنة 543هـ، تقديم وتحقيق الدكتور يونس بقيان، و(السبيل الممهد لقارئ حديث النبي الممجد صلى الله عليه وسلم) قواعد في كيفية قراءة الكتب الحديثية المطبوعة، تأليف سني بن داني فان أكسارد البلجيكي، راجعه وقدمه العلامة الشيخ محمد مجير الخطيب الحسني، و(رسالة طاهر بن الحسين إلى ابنه عبد الله وإلى كل من يتولى أمور المسلمين) تقديم وتحقيق الدكتور عباس أرحيلة، و(سراج طلاب العلوم) نظم العلامة العربي بن عبد الله بن أبي يحيى المساري المغربي المتوفى سنة 1240هـ)، تقديم وتحقيق ياسين أركاغ المكناسي، قدم له الشيخ العلامة أبو أويس محمد بن الأمين بو خبزة الحسني والشيخ العلامة أبو الطيب مولود السريري، و(كتاب التراتيب الإدارية والعمالات والصناعات والمتاجر والحالة العلمية التي كانت على عهد تأسيس المدينة الإسلامية في المدينة المنورة العلية) تأليف العلامة الشيخ محمد عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المغربي رحمه الله تعالى (1302-1382هـ) اعتنى به محيي الدين علي نجيب، و(محموع رسائل عن أحمد بن أبي طالب الشحنة الحجار البقاعي الصالحي) تقديم د. محمد مطيع الحافظ، جمع وتحقيق محمد زياد بن عمر التكلة وقاسم بن محمد ضاهر البقاعي، والجزء الخامس من (الأحاديث المعللة) تصنيف أمير المؤمنين في الحديث أبي الحسن علي بن عبد الله بن جعفر المعروف بابن المديني البصري المتوفى سنة 234هـ، تقديم فضيلة الدكتور إدريس بن الضاوية، اعتنى به خالد بن محمد المختار البداوي السباعي، و(المسند) للدارمي: نسخة مصورة طبق أنفس أصوله الخطية بخط الحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري وعليها سماعات جماعة من الأئمة والحفاظ، اعتنى بإخراجه وقدم له خالد بن محمد المختار البداوي السباعي، و(جزيء فيه من برنامج أبي ذر مصعب الخشني الجياني المتوفى سنة 604هـ) قرأه وعلق عليه عبد العزيز الساوري، و(روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام) لأبي عبد الله محمد بن علي الأزرق الحميري الأصبحي الغرناطي المتوفى سنة 896هـ، تقديم وتحقيق الأستاذ سعيدة العلمي.
بدأت التعريف بالأربعة الأخيرة منها، وأنا موقن بأن القلم يبلغ مداه، ولكنه كبا دون غايته، وغاض في نفسي النشاط، ولم يعجبني ما كتبته، فحذفته.

قهوة على شاطئ البحر:
ثم خرجنا إلى مقهى على شاطئي البحر مليء بالناس، وقد جرت العادة هنا أن يسهروا ليالي رمضان، يرتادون المقاهي والمطاعم والمنتزهات، ثم يتسحرون ويصلون الفجر وينامون بعده حتى الساعة العاشرة وما بعدها، وبهرني جمال طنجة، فيا لها من بلدة ملقى الرحال، وموسم الشعراء، وقيظها مثل الربيع، وليلها مثل النهار رأد ضحاء، وزاد هذه النعماء غضارة اجتماع الأحباء، بعيدين عن هموم الحياة، ومفارقين لمتاعب العيش، وغير محسين بأثقال العيال.
وتناولنا الشاي وتحدثنا عن مواضيع شتى، وسألني السيد مصطفى الهاشمي عن الدور الذي لعبه العلامة الأديب تقي الدين الهلالي المراكشي في تعليم اللغة العربية لطلاب دار العلوم لندوة العلماء، فأفضت في الحديث عنه، وشكرت أهل المغرب على فضلهم.
تجنب ما يفرق المسلمين:
وصليت العشاء والتراويح في مسجد الرضوان بالرباط، وقرأ الإمام: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون (سورة العنكبوت الآية 46)، فقلت في نفسي: إذا كان الله علمنا هذا الأدب الرفيع في التعامل مع أهل الكتاب، فأولى بنا أن نسعى لتوحيد كلمة أهل ملتنا وتجنب ما يفرق بينهم من الأقوال والأفعال، ولا شك أن كثيرا مما يختلف فيه المسلمون مرده إلى ظواهر الكلمات والعبارات، لا البواطن والغايات.

التصوف الحقيقي:
وسألني بعض المغاربة ونحن عائدون من صلاة التراويح أنه يرغب في أن يجري معي حوارا عن التصوف، فقلت: لا بأس، ولكن التصوف الذي كان عليه الجنيد البغدادي وأمثاله، رحمهم الله تعالى، قد انتهى أو كاد، والذي نشاهده اليوم إنما هو رسم لا حقيقة وراءه، فالتصوف الصدق مع الله تعالى في العبادة والزهد، ولا هم للمتصوفة اليوم إلا الرقص والتغني والطمع في مال الناس والحرص على الدنيا، أعاذنا الله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وهدانا إلى سنن الأنبياء والمرسلين.
تقي الدين الهلالي:
والعلامة الدكتور تقي الدين الهلالي المراكشي أحد أعلام اللغة العربية، ولد في قرية "الفرخ"من بادية سجلماسة في المغرب سنة 1311هـ، درس التجويد والنحو، وتعلم في جامعة القرويين وأخذ عن علمائها، وحضر دروساً في القسم العالي بالأزهر، واجتمع بالعلامة السيد رشيد رضا، ثم وصل إلى الهند، ودرس على العلامة عبد الرحمن المباركفوري صاحب كتاب تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي، وأقام بالهند حوالي ثلاث سنوات، درس خلالها الأدب العربي في ندوة العلماء، وفي عام1940م قدم رسالة الدكتوراه في ألمانيا عن كتاب الجماهر في الجواهر لأبي ريحان البيروني، ثم عين أستاذاً في جامعة بغداد، ثم سافر إلى تطوان، وعين أستاذاً في جامعة بون، ثم عين أستاذاً في جامعة محمد الخامس بالرباط عام 1959م، ثم ـ عين أستاذاً في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1968م، وانتقل بعد التقاعد إلى المغرب، وللهلالي رحلات كثيرة في العالم العربي والعالم الإسلامي التقى فيها بكبار العلماء والمفكرين وله مؤلفات تربو على الثلاثين، منها:"مدنية العرب في الأندلس""الإسلام والمذاهب الاشتراكية"وكان يتقن بجانب لغته ثلاث لغات:الإنجليزية، الألمانية، والعربية، وتوفي في 25 شوال سنة 1407هـ.
وكان الدكتور الهلالي معروفًا لدى الأوساط العلمية والأدبية في العالم، واحتل مكانة عظيمة لدى العلماء في الهند، يقول شيخنا أبو الحسن علي الندوي عنه: "إن قدوم الهلالي إلى الهند من أهم الأحداث التي صنعت تاريخًا مجيدًا، فهو من أساتذة اللغة العربية الذين يحتج برأيهم، وقد كان الحكم بين رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان في قضايا اللغة العربية وتعبيراتها كما جاء في كتاب شكيب أرسلان "السيد رشيد رضا وإخاء أربعين عامًا". ويقول عنه: "والواقع أن العمل الذي بدأ به الشيخ خليل من نشر الطرق الصحيحة لتعليم العربية وإنشاء ذوقها وملكتها، قد بلغ كماله على يد الأستاذ الهلالي، وقد استفدت منه كثيرًا في غير نظام، فكنتُ أحضر إليه يوميا، وانتفعت بصحبته ومجالسته، ولقد قرأت عليه ديوان النابغة بنظام، وقيدت فوائده ونكته، وكان يعطف عليّ بصفة خاصة لأجل العلاقة بأخي الأكبر والشيخ خليل" .
وللدكتور تقي الدين الهلالي رسائل إلى الشيخ الندوي تدل على العلاقة بينهما، ومدى استفادة الشيخ الندوي منه، كتب إليه مرة: "حضرة الأخ العزيز، الشاب النجيب، الأستاذ أبي الحسن علي بن السيد عبد الحي رحمه الله ورعاه وأعاد بركاته على آله، وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يشمل الأخ الأبر والأجل الأستاذ السيد عبد العلي والوالدة والآل جميعًا، أما بعد: فقد ورد علي كتابك الكريم بعبارة رائقة، وإشارة فائقة، وقرأت قبل ذلك ما نشرته في "الفتح" وسرني تقدمك في علم الأدب، واستمرارك على الدرس والطلب، لا زال النجاح حليفك، والتوفيق أليفك، ولم ألبث بعد ورود كتابك أن سافرت إلى بغداد حيث أنا الآن، وكان ذلك منذ نحو عشرين يومًا، قضيتها في شغل شاغل، وفكر ذاهل، والآن وفق الله إلى جوابك، ولكني فقدت كتابك وبحثت عنه فلم أجده، فسيكون جوابي على حسب ما بقي في ذاكرتي من مضمونه. أشكرك على ما أثنيت به علي واعترفت به من الفائدة التي أجراها الله على يدي في بلدكم، فله الحمد والمنة .
وكتب إليه الشيخ الهلالي يذكره بأهمية اللغة العربية: "وبسبب جهل اللغة العربية في الهند نشأت القاديانية وفرية المدعين لاتباع القرآن، وضلالة البريلوية أتباع مصطفى البريلوي وغيرها، ولذلك صبرت على البقاء معكم بضع سنين لتعليم اللغة العربية تعليمًا صحيحًا مع ما أصابني من الشدائد، وكنت عازمًا على أن أطيل المكث عندكم أكثر من ذلك، لولا أن الحمى النافض (ملاريا) أصابتني في مدة قصيرة خمس عشرة مرة، ولكنني تركت، والحمد لله تلامذة نجباء يخلفونني .
والشيخ الهلالي مرتفع عن أن يتغنى بمجده أمثالي، وهو كما قال البحتري:
جلَّ عن مذهب المديح فقد كا
د يكون المديح فيه هجاء

إلى الفندق:
ورجعنا إلى الفندق في الساعة الواحدة تقريبا، وودعت الأخ محمد ححود، وكنت قد ودعت الأخ خالد السباعي وصاحبه من قبل، وأعزز علي بفرقة القرناء ذوي المودة والوفاء، وودعت أهل طنجة الساهري الليال، المستمتعين بثمرات المال ورخاء البال، الهائمين في أودية الأماني والآمال، وفي طنجة من يستشعر روحانية هذا الشهر المبارك فيبيت يذكر ربه قائما وقاعدا، وتاليا لكتابه ومسبحا حامدا، اللهم اعف عنا وارحمنا، ولا تكلنا إلى نفوسنا، وكن بنا رؤوفا رحيما.

الرجوع إلى الرباط:
واشتغلت في الصباح ببعض كتاباتي، وخرجنا من طنجة إلى الرباط بعد الساعة العاشرة، ولقد أعجبنا ما في طنجة من نظافة ورقي حضاري، وظلنا نتحدث عن جمال فيها وبهاء، وبساتين غناء وجنات فيحاء، ووصلنا إلى الرباط في الساعة الواحدة.
بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة المغرب الأقصى
(19)
يوم الاثنين 22 رمضان 1440هـ

بقلم: محمد أكرم الندوي
أوكسفورد

لقاء مع الضيوف:
ولقيت في الصباح بعض الضيوف، وعرَّفتهم بأعمالي ونشاطاتي في إنكلترا من التدريس والبحث والتأليف، ووضع الجالية المسلمة فيها، وإمكانيات الدراسات الإسلامية فيها لطلاب الدول العربية والإسلامية، ومناهج البحث والتحقيق فيها.

مقابلة مع السيد أحمد قسطاس:
وزرت الأستاذ السيد أحمد قسطاس مدير مديرية الشؤون الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الساعة الحادية عشرة والنصف، ورافقتني بنتي مريم، وتحدثنا عن طباعة كتبي من قبل الوزارة، وسرَّني ما صادفته من الإيجابية لديه بهذا الصدد.

الصلاة في مسجد الرضوان:
وصلينا الظهر في مسجد الرضوان، وأعجبني ازدحام المصلين رجالا ونساء في عامة الصلوات، وسألت بعض الناس عن عادة المغاربة في الصوم، فقال: إنهم يصومون، ولا أرى أحدا يفطر إلا من عذر مرض أو غيره، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق واجعلنا من الراشدين.

الدرس اليوم:
وخرجت لحضور الدرس الحسني اليوم الساعة الثانية والنصف إلى القصر الملكي بالدار البيضاء، وكان معي في السيارة علماء من بلدان شتى، منهم الدكتور محمد مختار المفتي الحسني، أستاذ الحديث الشريف في جامعة آل البيت، في الأردن، واستفسرني عن اهتماماتي العلمية، ومؤلفاتي وأعمالي في الحديث النبوي الشريف، واللغات التي أجيدها نطقا وكتابة، ومعنا علماء أفارقة محبون للغة العربية رغم صعوبة التعليم العربي في بلدانهم، ومما يهز مشاعر أهل الإيمان أن اللغة العربية توحدهم على اختلاف ألوانهم وأطانهم وعروقهم ودمائهم، ورغم حقد الحاقدين وكيد الكائدين.
ووصلنا إلى القصر قبل الساعة الخامسة، وأعطوني مكانا في الصف الأمامي بين يدي جلالة الملك، وبدأ القارئ بتلاوة القرآن الكريم من سورة الكهف في صوت ندي، ولم يمض إلا قليل حتى ظهر الملك مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، وتمكنوا من مجالسهم، وتفضل الأستاذ محمد لَعْروسي رئيس قسم جراحة القلب بمستشفى ابن سينا بالرباط بإلقاء درسه حول موضوع "أسرار القلب بين الإشارات الدينية والمتغيرات العلمية" انطلاقا من قوله تعالى "أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" (سورة الحج الآية 44).
وتناول الأستاذ المحاضر هذا الموضوع، من خلال أربعة محاور: تعريف القلب من خلال الاكتشافات العلمية، والقلب في القرآن الكريم والسنة النبوية بين الحقيقة والتأويل، والمتغيرات العلمية الحديثة في علم القلب، ومعجزات القرآن في علم القلب .
وأكد لعروسي، في مستهل الدرس، أنني لا أقول بإخضاع الدين للعلم الذي تتغير نتائجه باستمرار ولا بحصر فهم الدين على نتائج علمية مؤقتة، فالدين جاء بالهداية واستعمل لها اللغة المناسبة لتبليغها، وإن ما أردت أن أقوله هو أن العلم الطبي في السنوات الأخيرة قد اكتشف عجائب تتعلق بالقلب ووظائفه، فلا بأس أن يطلع عليها الناس وهم يستحضرون ما ورد عن القلب في القرآن من إشارات .
وقال إن الدرس سيكون مناسبة لاستعراض بعض ما أنجز من دراسات حول قضية علمية ما فتئت تطرح مجموعة من التساؤلات وتفتح أبوابا للتأمل والتفكر. ويتعلق الأمر بخفايا علم القلب بين الاكتشافات العلمية الجارية وبين الإشارات الدينية التي طرحها القرآن الكريم بهذا الخصوص.
وأبرز أن الدراسات والأبحاث العلمية السابقة حول القلب لم تكن تتطرق لأهميته في التفكير والإدراك والإحساس والعاطفة وغير ذلك، بل أعتبر القلب مجرد عضو فيزيولوجي أو عضلة مضخة للدم في جسم الإنسان له تركيب معقد، إلا أن التطور العلمي الحالي والنقلة النوعية التي عرفتها جراحة القلب عبر العالم، وبالخصوص زراعة القلب جعلت هذه الحقيقة تتأرجح بين الثابت والمتغير.
وتابع المحاضر أن القلب، تلك الذرة الربانية التي تخشع وتعقل، مصدر الإيمان ومركز الروحانيات أبعد من أن تكون مجرد آلة معقدة تقوم بميكانيزم خاص بضخ الدم في الجسم، مشيرا إلى أن العلماء توصلوا في هذا المجال مع بداية القرن الواحد والعشرين، بل لاحظوا وسجلوا حقائق جديدة مثيرة للتفكير والتساؤل خصوصا بعد إجراء عمليات زرع القلب، ومارافقها من تغييرات وتقلبات نفسية جذرية بل جد عميقة تخللت في أغلب الحالات جانب الثوابت الروحانية والمعتقدات عند المريض.
وسجل أن هذه الحقيقة الجديدة وما رافقها من بحث علمي واستخلاص لنتائج مذهلة جديدة بل وغريبة، فتح الباب أمام البحث العلمي لطرح السؤال من جديد وتغيير الفكرة المتعارف عليها، عند تعريف القلب علميا وطبيا.
وأوضح أن السؤال المطروح هو: هل القلب مجرد آلة تتحكم فيها ميكانيزمات كمية؟ أم أن القلب يتعدى هذه الحقيقة ليدخل في مجال أعمق عرفه القرآن الكريم عبر آياته الكريمة، حيث ذكر مائة واثنتين وثلاثين مرة، وهل حركة القلب ونبضاته تتعدى مجرد كونها دقات عادية ؟ أم هي مسلك يغذي العقل ويمده بالمعلومات ويوجهه نحو الفهم والإدراك؟.
ففي المحور الأول، تطرق السيد لعروسي لتعريف القلب من خلال الاكتشافات العلمية، مشيرا إلى أن القلب هو ذلك العضو العضلي، الكتلة أو المضغة الساكنة في الجهة اليسرى لصدر الإنسان، والذي لا يتجاوز وزنه ثلث كيلوغرام أو قبضة اليد ويحمل من عجائب التصميم ما لا يدركه عقل الإنسان ويخطر على التفكير.
وتابع المحاضر بالقول إن كمية الدم التي يضخها القلب في الحالة الطبيعية تبلغ حوالي خمسة لترات في الدقيقة، أي بمعدل سبعة آلاف وخمسمائة لتر في اليوم بين حركة انقباض وانبساط، فهو يدق في اليوم أكثر من مائة ألف مرة، وعندما يصبح عمر الإنسان فوق السبعين يكون قلبه قد نبض .مليارين ونصف مليار مرة وضخ مئتين وخمسين مليون لتر خلال هذه الفترة الحياتية
وأشار إلى أن القلب يضخ الدم عبر شبكة الأوعية والشرايين التي يبلغ طولها مائة ألف كيلومتر عبر الجسم، وهذا الرقم يوازي محيط الكرة الأرضية مرتين ونصف، مما يؤكد الحقيقة العلمية السائدة التي بنى عليها العلماء تعريفهم للقلب، هذا الأخير الذي يتمثل دوره في توصيل الأوكسجين والمواد الغذائية والمواد الواقية للجسم إلى جميع الخلايا لتقوم بوظيفتها، مما يؤكد أن القلب هو المصدر الأساسي للحركة في الجسم، بل هو المسيطر على عملها بالكامل.
ولفت إلى أن نتائج الأبحاث العلمية التي أجريت على المجال الكهربائي للقلب أوضحت أنه يبث مجالا كهربائيا هو الأقوى بين أعضاء الجسم كله، فالمجال الكهربائي للقلب يفوق المجال الكهربائي للدماغ بستين مرة. كما أن المجال الكهرومغناطيسي للقلب يفوق المجال الكهرومغناطيسي للدماغ بخمسة آلاف مرة.
وقال إن العلماء اكتشفوا، أيضا، في معهد رياضيات القلب بالولايات المتحدة الأمريكية أن دقات القلب تؤثر على الموجات التي يبثها الدماغ، وأنه كلما زاد عدد ضرباته زادت الترددات التي يبثها الدماغ، مما يدل على أن نشاطهما يتزامنان طبيعيا مع بعضهما البعض. كما أنه توجد أبحاث حديثة تعتقد أن القلب هو الذي يوجه الدماغ في عمله، بل هو ثابت في الاتصال معه من خلال شبكة معقدة من الأعصاب مما يتيح تكوين الرسائل المشتركة بينهما عبر إشارات كهربائية وكهرومغناطيسية.
أما المحور الثاني، المتعلق بـ القلب في القرآن الكريم والسنة النبوية بين الحقيقة والتأويل، فأشار فيه المحاضر إلى أن للقرآن الكريم نظرة شاملة إلى القلب ومترادفاته، وهنا يطرح سؤال، وهو هل أن المقصود من القلب في هذه النصوص هو القلب الموجود في الصدر أم الغرض منه هو الدماغ، واستعمال لفظ القلب هو استعمال مجازي. ففي البداية ومع تقدم العلوم الطبية، وبسبب تأكيد الأطباء على أن العقل محله الدماغ، وأن وظيفة القلب تنحصر بضخ الدم إلى جميع أعضاء الجسد، بدأ بعض المفسرين تحت تأثير هذا التوجه الطبي يؤولون لفظ القلب الذي ورد في القرآن والسنة بأنه العقل.

السلام على الملك:
وجرت العادة في الدروس الحسنية أن الضيوف يسلمون على الملك ويصافحونه، وكنت ممن سلم على الملك وصافحه اليوم، اللهم أصلحنا وأصلح ولاة أمورنا، ووفقنا جميعا لما تحب وترضى من الأعمال، آمين يا رب العالمين.
الإفطار:
ثم تحولنا إلى فندق في الدار البيضاء للإفطار، وجلست بجانب الدكتور بنيامين الأستاذ الباحث من تركيا، وتحدثنا عن مواضيع شتى تتعلق بالدراسات الحديثية، والشبهات التي يستثيرها المستشرقون وأذنابهم من المسلمين، فأكدت أن هذه أسئلة تردد بين فينة وأخرى منذ عهد المعتزلة إلى يومنا هذا، وحاشا أن يكون فيها شيء جديد، وأغلبها ناشئة من الجهل باللغة العربية وقلة فقه النصوص، وبعضها مردها إلى سوء الطوية وخبث في الباطن، ولا ينبغي لنا أن نضيع أوقاتنا وراءها، نرشح باحثا عالما لمتابعة تلك الإشكالات، ويتعهد غيره من علماء الحديث بتعميق صلة الجيل الجديد بالقرآن والسنة، وتفقيهه المصادر تفقيها صادقا أمينا.
ومن الأمور التي ناقشناها اليوم هي: المحكم والمتشابه من كتاب الله تعالى، وأن مفتاح الاهتداء به هو التقوى والتدبر، ومكانة الصحيحين: صحة وإتقانا وتحقيقا وتدقيقا، ونبوغ سيبويه في "الكتاب"، ومن المقصود بقول البخاري "قال بعض الناس" في صحيحه؟ ومن المقصود من رد مسلم في بحث الحديث المعنعن في مقدمة صحيحه؟ وعمر السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عند زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها، وبعض استدراكات عائشة رضي الله عنها على الصحابة، وطواف النبي صلى الله عليه وسلم على نسائه بغسل واحد، وحديث البخاري: خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا ... فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن، وحديث مسلم خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل، وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة أخطاء المستشرقين وأوهامهم، وجلالة ابن تيمية في رده على المنطقيين والفلاسفة، ولا أراني الآن ناشطا لتقييد هذا النقاش، وقد تضمنت كتاباتي المختلفة آرائي ووجهات نظري حول تلك الموضوعات.
الناس ما احتاجوا إلى تأويل الصفات إلا من ذهولهم عن اعتقاد أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق و إذا كانت مخالفة فلا يصح في آيات الصفات قط تشبيه؛ إذ التشبيه لا يكون إلا مع موافقة حقيقته تعالى لحقائق خلقه وذلك محال، فعلم أنه متى احتاج إلى التأويل فقد جهل أولا وآخرا، أما أولا فبتعقله صفة التشبيه في جانب الحق وذلك محال، وأما آخر فلتأويله ما أنزل الله على وجه لعله لا يكون مراد الحق.

الشيخ عبد الوهاب الشعراني